مكانة الخبز في التراث الفلسطيني
يحتل الخبز في الوسط الشعبي الفلسطيني عموما أهمية عظمى، فهو مصدر غذائهم الأساسي، ويعتمدون عليه اشد الاعتماد، لأنه سبب عيش الإنسان وبقائه، ووقود الحياة واستمرارها. فمع الخبز يستطيع الناس تناول ابسط الأطعمة المتوفرة لديهم في البيت، مثل: الزيت والملح والدُّقة (الزعتر المطحون مع السمسم)، وربّ البندورة والجبنة واللبنة.. الخ. وقد عبّر المثل الشعبي عن أهمية الخبز ومكانته لدى الاسرة الفلسطينية بقوله: "عمارة البيت خبز وزيت". أي ان البيوت تكون عامرة وتدب فيها الحياة بوجود الخبز والزيت. لذلك يمكن للإنسان ان يستغني عن كافة أصناف وألوان الطعام الاخرى، باستثناء الخبز، وكان يكفى الفقير لغذائه قطعة من الخبز وقليل من الملح، باعتبارهما من مصادر القوت الأساسية والأهم لدى الناس.
وقد احتل الخبز قديما مكانة خاصة عند المصرين، باعتباره الطعام الأساسي الذي تقوم عليه حياتهم، مما دفعهم لاختيار اسما له يقترن بالوجود والحياة، وهو "العيش"- أي أساس الحياة واستمرارها.
ولما كان الخبز هو وقود الحياة والعيش، فقد وصلت مكانته في النفوس إلى درجة التقديس. فيحلف الناس اليمين بالخبز ليكون الحلف قاطعًا لأي شكوى أو ظنون، وداعيا لتصديق الحالف به. فيلحفون بقولهم "وحياة هالنعمة .. "، او "وحياة العيش والملح"، وفي اعتقادهم ان الذي يكذب يحرمه الله من هذه النعمة العظيمة.
وكلمة العيش تعنى الرزق، فنحن نقول عن احد الناس انه (يسعى على لقمة العيش)، أي انه يكد ويتعب من أجل هذه اللقمة، التي تمثل بالنسبة له استمرار الحياة واستقرارها.
وقد يضطر الإنسان الى قبول العمل الشاق، او يتعرض للمهانة والإذلال في عمله، ويتحمل كل ذلك (علشان لقمة العيش).
وفي المعتقد الشعبي يَحرمُ أن ترمى بقايا الخبز في القمامة، بل ان تقدّم بدلا من ذلك للدجاج او الحمام او توضع في مكان مُرتفع، كي تتناوله الطيور والعصافير. كما لا يجوز أن يدوس الإنسان على قطعة الخبز، لأنها نعمة من الله، وسيحرمه الله منها. وكنا ونحن صغار اذا وجدنا قطعة من الخبز ملقاة على الأرض كنا ننحني ونلتقطها وننفخ عليها لنزيل عنها ما علق بها من غبار ثم نقّبلها ونحن نقول: "عيش العيش .. يا مصحف الله!! ثم نقوم بوضعها بجوار حائط او في احد الشقوق، او فوق سنسلة، حتى لا تدوسها اقدام المارين بالطريق، لانها نعمة من نعم الله عز وجل، انعم الله بها علينا، ونكرانها يؤدي الى زوالها.
الخبز والملح
وتكمن أهمية العيش والملح في أنهما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالطعام فهما سيدا الطعام، ولا غنى عنهما فى أى طعام، فلا تكاد تخلو مائدة من الخبز والملح. واذا كان بالإمكان تناول بعض الأكلات بدون الخبز (مثل المنسف او المقلوبة)، فلا يستغني الناس ابدا عن تناول الملح. فمهما كان طهي الطعام متقنا وتنوعت أصنافه وتعددت أطباقه، فلن يستساغ أكله من دون الملح، لان الملح كما يٌقال في الأثر "سيد الطعام"، وهو من أهم الضرورات الحيوية للجسم.
كما يعني الملح الاستمرارية والبقاء، فلكي نحتفظ بالأشياء لمدة طويلة نقوم بتمليحها لحفظها من التلف والفساد. فالعيش يعنى الحياة والملح يعنى الاستمرارية والحفاظ على العلاقات من الفساد، وهما يعبران عن العلاقة الطيبة والحميمة بين الناس، وقوة الروابط بينهم.
وقد فرض الخبز والملح وجودهما وهيمنا على طبيعة العلاقة الإنسانية، وغدا محددا لقيم يحرص أفراد المجتمع على بثها فيما بينهم والحفاظ عليها. ففي الوسط الشعبي فإن الشخص الذي يتناول طعاما عند آخر أو يشاركه الطعام يصبح بينهما (عيش وملح)، وكأنه عهد خفي يتقاسمونه على الوفاء والإخلاص، لأنهما تقاسما أهم أسباب الحياة، وهذا دلالة على قدسية العيش التي تربط الإنسان برابط قوي مع من يأكل من عيشه. ويصبح لزاما على كل منهما أن يصون هذه العشرة ويحافظ عليها، وان يخلص كل منهما للآخر، ومن لا يحفظ قيمة العشرة، فهو غير وفيّْ وغدّار، ويقولون عنه "خان العيش والملح" أو "ما صان العيش والملح"، لأن خيانة العيش والملح لها عواقب وخيمة في المعتقد الشعبي.
وربما طلب أحدهم من الآخر ومائدة الطعام حاضرة أن "يمالحه"، أي يأكل معه من زاده. فتناول الطعام على مائدة واحدة يعد "ممالحة" ورمزاً للوفاء والعيش المشترك.
وعندما يريد ان يبين احد الناس مدى ترابطه مع شخص آخر يقول: (بينّا عيش وملح) اي يعبر عن علاقة حميمة وصداقة متينة بينهما، فالعيش والملح دليل على أواصر المحبة والإخوة، وكثيرون يبنون علاقاتهم على أساس العيش والملح، على إعتبار أنهم أخوة متحابون يحرص بعضهم على البعض الآخر.
ولا يقصد هنا العيش والملح بذاتهما، إنما الشراكة فيما هو مشترك وفقا لكل الأعراف والأديان والأعراق، والعلاقات الحياتية المختلفة، وهو ما يمكن أن نعده حالة إنسانية تجلت من قيمة الخبز والملح في الحياة المعيشية، باعتبارهما حاجة أساسية لدى مختلف الشعوب.
وقد تجسدت قيمة الخبز والملح في حياتنا عبر تراثنا العريق، فبعد فض الخلافات وحل النزاعات بين الناس، تعقد موائد الطعام دلالة على حسن النوايا وصفاء النفوس، وانتهاء الخلاف.
وكانت وجبة "العيش والملح" تفرض التزاما واضحا بين الأطراف، فكان من أعراف العرب أن من تتناول معه الطعام تكون كأنك عقدت معه عقد صلح وهدنة- أي له ما لك، وعليه ما عليك.
في الزمن الماضي كانت لقمة العيش مع حبة ملح بمثابة وثيقة شرف كافية لصون العهود وعدم الخيانة، ورمزا للحفاظ على الصداقة والعشرة. أما في زمننا هذا فلم يعد لعشرة العمر والعيش والملح أي قيمة، وباتت والمصلحة هي الواقع الوحيد، لان قيم وأخلاق وثيقة العيش والملح قد اندثرت، وضاعت معها كل القيم الأعراف والوعود والمواثيق. فكم من أناس كان بيننا وبينهم عيش وملح، لكن ان طلبت منهم المساعدة في أبسط الأمور تنكروا لك وانكروك، هؤلاء البشر بكل بساطة يتغيرون وفقا لمصالحهم، وهذا أمر طبيعي، فالانانية والطمع ونكران الجميل والمنافع الشخصية البعيدة عن القيم الاجتماعية هي التي تطغى على حياتهم!!
آداب الأكل
عندما يأكل شخص ما من طعام، يعلن اكتفاءه، بقوله مخلوف بالحلال، عمار، سفرة دايمة، او غيرها. وقد يلحُّ المضيف على الضيف ليتناول المزيد من الطعام، فيجامله بلقمة او لقمتين تكريما له.
واذا دخل شخص على جماعة من الناس وهم يأكلون فانهم يدعونه للطعام، بقولهم حماتك بتحبك. ويلحون عليه، وقد ياكل اذا كان جائعا والا يقوم لهم صحتين وعافية.
وكان من العادة ان ياكل الكبار من الرجال اولا، ثم يليهم النساء والاطفال.
وهناك اعتقاد ان المراة الحامل اذا توحّمت، أي اشتهت ان تاكل شيئاً ولم تاكله تظهر على جسد المولود وحمة أي بقعة حمراء تشبه الشيء الذي كانت قد اشتهته ولم تأكله.
اداب الأكل
ومن اداب الأكل في الوسط الشعبي ان يبدأ بالبسملة (بسم الله) وهي ذكر اسم الله حتى لا تشاركه الشياطين طعامه وشرابه، ومن اجل ان يطرح الله البركة في الطعام. كما يجب تناول الطعام باليد اليمنى. وعند الانتهاء من الطعام او الشراب يحسن ان يحمد الآكل الله تعالى ليديم هذه النعمة، بقوله الحمد لله رب العالمين. وقد يضيف اليها قوله "مخلوف بالحلال"، او "سفرة دايمة". فيرد مضيفه بقوله صحتين وعافية. وعندما يشرب الضيف ويقول "الحمد لله" يقول له المضيف "هنيئا"، فيرد عليه بقوله "هنَّاكم الله". واذا نسي الشارب بعد الانتهاء من الشرب ان يحمد الله، فيقول المضيف او المجالس "هنيئا بعد الحمد" ليذكره بانه نسي ان يحمد الله، فيبادر في الحال ويقول الحمد لله هنَّاكم الله.
ويفترض في الشخص الذي يراعي اداب الاكل في الوسط الشعبي ان يتناول طعامه بيده اليمنى وان يتناول لقمات صغيرة الحجم، وكذلك يراعي في استهلاكه للطعام الكمية الموجودة وعدد الحاضرين، ويحسن ان يبدا بالبسيط من الطعام، والا يسارع الى ابتلاع اللحم في اللقمة الاولى.
ويفترض في الآكل ان يغسل كلتا يديه او اصابع يده اليمنى على الاقل. ويكره الناس ان يتناولوا الطعام مع من كانت اظافره طويلة، وهم يقولون: "كل مع الكافر ولا توكل مع طويل الاظافر".
واذا طلب احد الجالسين على مائدة الطعام ماءً ليشرب فلا يجوز لشخص آخر ان يشرب قبله، حتى وان كان كبيرا في السن، الا اذا اذن له الطالب. وبذلك يقول الناس "لعن الله الشارب قبل الطالب".
وهناك اقوال ماثورة تحبذ الفراغ من الاكل في وقت قصير وعدم اطالة الجلوس على المائدة، كقولهم "غب غب الجمال وقوم اول الرجال، او "كل اكل السباع وقوم قبل الرجال. اما التاخر في النهوض عن المائدة بعد ان ينتهي الناس فذلك عيب. كما يستحسن عدم الكلام على المائدة.
واذا دخل شخص ما على جماعة بعد ان يكونوا قد فرغوا من تناول الطعام وبقي القليل من الاكل، يدعوا الجالسين القادم لتناول الطعام معتذرين عن قلة الطعام بقولهم: "التالي للغالي". واذا كان القادم قد اكل قبل مجيئه، فعندما يدعوه الجالسين لتاول الطعام يبادر بالقول: "سبقتكم" يخلف عليكم.
وبعد الفراغ من الطعام، ترفع الاواني، ويتوجب على الحاضرين ازالة بقايا الاكل التي تكون قد سقطت على البساط او الحصير، لئلا تداس بالارجل، فذلك حرام. ومن اداب الاكل التي يراعيها الناس في الوسط الشعبي ان اواني الطعام يجب ان تكون في مستوى الاكل بحيث لا يجلس الشخص على الكرسي ويتناول الطعام وهو موضوع على الأرض او على الطبلية. وتفسير ذلك عائد الى ان للاكل قداسة يجب احترمها. ويجب ان يحرص الجالس على مائدة الطعام ان لا يترك الأكل يتناثر على الأرض والثياب.
ومن اداب الاكل ايضا ان لا ينفرد الشخص بتناول أفضل قطع اللحم وأطايب الطعام بل عليه ان يقطع تلك القطع إلى قطع صغيرة، ويدفع بها الى ضيفه.
وليس لدى الناس في الوسط الشعبي غرف خاصة لتناول الطعام، وانما ياكلون في المكان الذي يجلسون فيه.
______________
الطبليّة: طاولة مستديرة من الخشب قصيرة الأرجل ترتفع عن الأرض بمقدار شبر ويجلس حولها أفراد الأسرة لتناول الطعام.
ابدعتم شكرا قلقيلية تايمز
ردحذف