القائمة الرئيسية

الصفحات

علاقات الجيرة والجيران - علاقة الجيران بين الماضي والحاضر

العلاقات بين الجيران قديما وحديثا

 كانت العلاقات بين الجيران فيما مضى يسودها الوئام والانسجام، والتعاون والتلاحم، والتكافل والتكاتف، والتواد والتراحم، عاشوا على الحلوة والمرة، في السرّاء والضرّاء، وفي الشدّة والرخاء، وارتبطوا فيما بينهم بأواصر الألفة والمحبة، والوفاء والإخلاص، وحب الخير والعمل به، والإيمان بأهمية الجار، والإحسان إليه، والذود عنه.


العلاقات بين الجيران

وكانت حياتهم خالية من المشاكل والتعقيدات، التي فرضتها الحياة العصرية، وسادت بينهم العلاقات الأخوية، القائمة على حب المساعدة والإيثار. فكان الجار حتى وقت قريب حاضراً في كل المناسبات والأحداث اليومية التي يمر بها جيرانه، وأهمها الأفراح والأتراح، يتزاورون فيما بينهم، ويعاون بعضهم بعضا، ويشكلون ما يشبه العائلة الواحدة، نتج عنها علاقات مصاهرة، وصداقات حميمة ومديدة.

ومع إطلالة الحياة العصرية، انهارت تلك العلاقة المميزة التي كانت تربط بين الجيران في الماضي، مثلما انهار واختفى كل شيء أصيل وجميل في حياتنا. وبسبب صعوبة الحياة وهمومها ومشاغلها، التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، جعلت بعض الناس لا يجدون فرصة للتواصل وتعزيز العلاقات فيما بينهم، وأحياء العادات والتقاليد الأصيلة، التي نشأوا وتربوا عليها، والتي تحث على حسن معاملة الجار، وإسداء العون له، وتبادل الزيارة معه، والوقوف إلى جانبه، في السّراء والضراء، وفي أوقات الأفراح والأتراح.

 

ومن ابرز مظاهر العلاقات الأخوية، التي سادت بين الجيران في الزمن الماضي الجميل، ما يلي:

العلاقات بين الجيران قديما

  • - كانت العلاقة بين الجيران فيما مضى متينة ومميزة، تعوض المرء عن علاقاته العائلية. فعندما تذهب امرأة إلى الحقل مع زوجها، تترك أولادها عند جارتها حتى تعود، تفعل ذلك وهي على يقين تام أن جارتها لن تخذلها، وستكون عند حسن ظنها. فكانت الجارة تعتني بالأولاد، وكأنهم أولادها، تطعمهم وتسقيهم، وترضع الصغير منهم، وترعاهم طوال فترة غياب أمهم!
  • - واذا كانت إحدى الجارات غير قادرة على إرضاع صغيرها (لجفاف حليب ثدييّْها)، فان جارتها الأخرى تتكفل بإرضاعه، ولعدة أشهر. من هنا نشأت الأخوّة بالرضاعة، فكثيرا ما نسمع عن بعض الناس (رجالا وتساءاً) بأنهم إخوة بالرضاعة، رغم أنهم من عائلات مختلفة، ولا تجمعهم أية قرابة
  • - كما تساعد الجارة جارتها في أواخر شهور الحمل، وعند الولادة، والمرض، فتقوم بتنظيف بيتها، وغسيل ملابسها، وتحضير الطعام لزوجها، ورعاية أطفالها.
  • - يذكر الكبار منا عندما كنا أطفالا، كيف كان الجيران يتبادلون فيما بينهم شتى الوان الطعام، فإلام التي تطبخ نوع معين من الطعام لا يُطهى كثيرا في خلال العام (كالمسخن او المفتول أو الشيشبرك)، ترسل مع ابنها طبقا من ذلك الطعام إلى جاراتها، وهم يبادلونها بطعام مماثل، وهذا أيضا ينطبق على مختلف أصناف المعجنات (افراص الزعتر والسبانخ) والحلويات (كالحلبة والنمورة والمعمول والغريبة والكعك بالتمر..الخ).
    لم يكن ذلك مجرد عادة لتبادل الطعام بين الجيران، وإنما كان أيضا تبادلا للألفة والمحبة والمودة فيما بينهم. هذه الصورة الجميلة لا زالت محفورة في ذاكرة الكبار، ولا تكاد تفارقها، رغم مرور السنين الطويلة.
  • - كان من عادة الجارات أن يجتمعن في ليالي الصيف، يفرشن الحصير، ويجلسن على المصطبة او القصة أمام احد بيوت الجارات، يتسامرن معاً، ويتبادلن الأحاديث الودّية، وأخبار الحي
  • - كان الجيران إخوة بكل ما في الكلمة من معنى، يصونون حرمة بعضهم البعض، ويحافظون على العادات والتقاليد والأعراف، وهو ما كان يطمئن الجميع ويشعرهم بالأمان. فكان إذا مرّ شاب غريب من الحارة أكثر من مرة، يوقفه شباب الحارة ويسألونه عن سبب مجيئه للحارة، فان كان السبب مقنعا تركوه، وان كان غير ذلك ضربوه، لأنهم يغارون على بنات حارتهم، ويحافظون عليهن من المتطفلين الأغراب!
    ويقول الحاج عبد الله ابو خديجة (83عام) بهذا الصدد، انه قبل عام 1948م تم تشكيل فرقة من المطاوعة في قلقيلية، تضم اثنان من كل حمولة، مهمتهم التجول في أرجاء البلدة، وتفقد حاراتها، فإذا رأوا شابا غريبا عن الحارة، سألوه عن سبب وجوده فيها، فإن كان له أقارب او أصدقاء في الحارة تركوه، وإذا كان وجوده غير مبرر، قاموا بتوبيخه، وتحذيره من العودة إليها مرة ثانية.
  • - وإذا مر احد الجيران بالشارع، ورأى باب جاره مفتوحا، قام بإغلاقه في الحال، حفاظا على حرمة بيت جاره!!
  • - إذا عزم احد الجيران على السفر إلى الخارج جاء الكل ليودعه، وإذا عاد من السفر جاء الكل ليهنئه بسلامة العودة. وإذا سافر الجار أوصى جيرانه بالحفاظ على أهل بيته، ورعايتهم في غيبته.
  • - كما أن أملاك الجار وما حَوَتْ دارُه، هي أمانة في عنق جاره إذا غاب عنها، وعليه الحفاظ عليها حتى يعود جاره.
  • - كانت استعارة بعض لوازم المطبخ منتشرة بشكل كبير بين الجيران، فلم يكن بمقدور أهل البيت شراء كل اللوازم والأواني المنزلية التي يحتاجونها في المطبخ، فكان الناس يستعيرونها من بعضهم البعض، هذا يطلب قصرية، وآخر يطلب مفرمة لحمة، وذاك يطلب غربال، ورابع يطلب ملاعق وصحون لأن ثمة ضيوفاً سيأتون، وخامس يطلب طنجرة كبيرة لعمل التطالي او سلق البرغل، او طبخ البندورة ..الخ. كما كانوا يستعيرون من بعضهم بعض القهوة المطحونة لعمل فنجان قهوة للضيف، حيث لم تكن القهوة تتواجد باستمرار في البيوت، لان الشاي كان هو المشروب الشعبي السائد، وكانت القهوة تقدم فقط للضيوف الغرباء، ونادرا ما كان يشربها الأهل والأقارب او الجيران.
  • - وإذا نفذ الخبز من بيت احدهم، كان يستعير الجار بعض الأرغفة من جيرانه، ثم يردها إليهم في اليوم التالي، بعد خبز عجينه.
- عاش الجيران وكأنّهم عائلة واحدة يتقاسمون كل شيء، فكان من العار على الجار أن يبيع لجاره شيئا من الخضار او الفواكه التي يزرعها، او ان يبيعه شيئاً من حليب او لبن او جبن المواشي التي يربيها.
  • - اذا احتاج الجار الى بعض المال قصد جاره أولا، قبل ان يقصد أقاربه وأصدقاءه.
  • - اذا اشترى احد الجيران شيئا لأولاده من الباعة المتجولين، اشترى أيضا لأولاد الجيران الحاضرين، لانهم مثل اولاده.
  • - وعند ضيق مساحة احد البيوت، كان الجيران يفتحون بيوتهم لإقامة الأفراح فيها، ويكون أهل البيت في غاية السرور، أن يقام الفرح عندهم في البيت.
  • - كانت علاقة الجوار في مجتمعنا قبل أن تنفتح علينا الدنيا بزينتها مثالاً يُقتدى، ونموذجا يُحتذى في التماسك والترابط، فكان كل جار يعرف أحوال جاره، ويشاركه همومه وأفراحه وأحزانه، وهو الملاذ الأول عند الحاجة. فعندما تكون هناك حالة طارئة، يكون الجار أول من يهبّ لتقديم المساعدة، فقد تحول المسافات بين الإنسان وأقاربه، ولكن الجار يبقى دائما هو الأقرب، وقد جسّد هذه العلاقة الطيبة المثل الشعبي، وحث عليها بقوله:"جارك القريب.. ولا أخوك البعيد".
  • - كان الجار في الزمن الماضي بمثابة الأب والأخ وولي الأمر لبقية الجيران، وكانت كلمته مسموعة، وتلقى الاحترام والتقدير من الجميع. وكنا ونحن صغارا نرى آبائنا وأمهاتنا يصفون جيرانهم ويتحدثون عنهم، بطريقة توحي وكأن الجار طرف مهم في سيرة حياتهم، بل ويبالغون في الإحسان إليهم، وكأنهم أقارب لنا. وقد تربينا على مناداة كبار السن من الرجال" يا عمي او با سيدي" اذا كان متقدما في السن، والنساء " يا خالتي او يا ستي" اذا كانت متقدمة في السن، وذلك احتراما وتقديراً لهم.
  • - وكانت تأخذنا من الجار رهبة كبيرة، وكأنه والدنا، وكنا ونحن صغارا لا نجرؤ على التدخين او المشاجرة أمامه، لان تقاليد الجيرة وأعراف الجوار، تعطيه الحق في تأديبنا ومعاقبتنا.
  • - كان الجيران في الزمن الماضي، يدًا واحدة وأسرة مترابطة، وكان الأبناء يتربون وسط جيرانهم، يراقبونهم إذا خرجوا من البيت، ويحاسبونهم على أخطائهم، مثلما يحاسبون أولادهم وبناتهم، دون إبداء أي اعتراض او تذمر. ولم ُُتفْتَقَدُ التربية بغياب الابن عن عين أبيه، ولا تفقِد الأسرة عائلها إذا ما غاب عنها، بموت أو سفر، فكان تأديب الجار لابن جاره واجباً تفرضه عادات وتقاليد الجيرة. فإذا دعا الأمر أن يمد يده ليضرب أحد أطفال الحي، فإنّه يفعل ذلك دون تردد، لتأديب أبن جاره، وذلك من باب الخوف عليه، وعندما يأتي رب الأسرة لا يتجرأ الابن على إخبار والده بما حدث، وإنما يلتزم الصمت، لان والده سيعاقبه إذا ما اشتكى له، وسيقول له لو لم تخطيء، ما فعل بك جارنا ما فعل!!
  • - عاش الجيران قديما في شظف العيش، وقلّة ذات اليد، لكنهم مع ذلك لم ينسوا بعضهم بعضا، يعيشون معا في سكينة وصفاء، وينشدون المحبة والخير لبعضهم. فإذا مرض أحدهم عادوه، وإن حزن واسوه، وان فرح فرحوا معه، وإذا استغاثهم أعانوه، يبادرونه بالسلام، ويلينوا له الكلام، يأمروه بالمعروف، وينهوه عن المنكر، يصفحوا عن زلاته، ويصبروا على أذاه، مدركين أن الجار هو أخ ورفيق في الحزن والفرح. إذآ فرح أحدهم الكل يفرح وإذا مرض أحدهم، الكل يهرع لزيارته والاطمئنان عليه، وإذا توفى أحدهم، يغمرهم الحزن جميعا. يفرحون معآ، ويحزنون معا، ويجتمعون على المحبة والمودة، ويبتعدون كل البعد عن البغضاء والشحناء والتنافر، وكل ما من شأنه إن يفرق بينهم.. هكذا كانت حياتهم في الزمن الجميل!!
  • - واذا حدثت مشاكل بين الجيران، بسبب شجار بين الأطفال، تدخل رجال الحارة لحلها وتحجيمها، وتقريب وجهات النظر بينهم بالطرق السلمية، حتى تعود المياه إلى مجاريها، ولتعود الألفة والمحبة والمودة من جديد بين الجيران.
  • - كان الجيران يراعون مشاعر بعضهم، فيستحيل أن يقام فرح بجوار بيت او ديوان فيه عزاء، ولمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وبعد استئذان أهل الميت، واخذ موافقتهم، بقبولهم حضور الفرح، ويكون ذلك دلالة على رضاهم عن طيب خاطر.
  • - كان الجار يعرف كل شيء عن جاره، فإذا أراد فتى الزواج، يسأل عنه أهل العروس عند جيرانه، لان جيرانه يعرفونه حق المعرفة، أصله وفصله، وسلوكياته، وتصرفاته- الايجابي منها والسلبي.
  • - وعند زواج ابن الجار، يشارك الرجال من الجيران في ليلة العرس، والزفة في اليوم التالي، والمباركة للعريس في البيت او الديوان، وتقديم النقوط له. كما تشارك نساء الجيران في ليلة الحناء، وفي يوم الزفاف، ويقدمن للعروس النقوط، وبعد الزواج، يذهبن إلى بيتها للمباركة وتقديم الهدايا لها. فلا مناسبة تكتمل أو فرح يتم، دون أن يكون الجار أول الحاضرين، بل ويكون من ابرز المشاركين، في الأعداد لكل مناسبة.
  • - وعند وفاة احد الجيران، يهرع باقي الجيران لتقديم المساعدة، فمنهم من يذهب لحفر القبر، وآخرون يحضرون الكفن والنعش، ويشارك الجميع في الجنازة وحمل النعش والصلاة على الميت، متناسين كل ما كان بينهم من خلاف وخصام، ويقدّمون الخُرُوج (الطعام) لأهل الميت وأقاربه في الديوان، وللنساء في بيت المتوفى، ولعدة أيام.
  • هكذا كان جار الأمس، جار المبادئ الخالدة والقيم السامية، جار الخير والبركة، جار الأُلفة والمودة، جاء الوفاء والإخلاص، جار الفزعة والإيثار، جار النخوة والشهامة، جار العسر واليسر، جار الأفراح والأتراح، جار الزمن الماضي الجميل.. زمن الآباء والأجداد!!
فأين جار اليوم.. من جار الأمس؟؟!!
لقد تغيرت معاني الجوار، ولم تعد تحمل ثقل وضخامة معناها في الماضي، حيث أصيبت العلاقات بين الجيران بالفتور، فالجار في غالب الأحوال لم يعد ذلك الأخ والأب والصديق، كما كان في السابق، ولم يعد يراعي مشاعر جاره ولا ظروفه، ولم يعد يشارك في أفراحه وأتراحه إلا في أضيق الحدود، ومن باب المجاملة على الأكثر. بل ان الجار أصبح مصدر الأذى لجيرانه .
 
ومن بعض مظاهر أذى الجار لجيرانه التي نلاحظها اليوم ما يلي:

العلاقات بين الجيران حديثا

  • - تتجنب الأسرة اختلاط أولادها بأولاد الجيران خوفا من المشاكل، التي قد تكبر وتصبح بين الكبار. كما لا تسمح الأسرة لبناتها بالذهاب إلى بيوت الجيران، خاصة اذا كان لديهم ابناء كبار، لعدم الثقة بأخلاقهم
  • - جلوس شباب الحارة مع رفاقهم طوال الليل، يسهرون ويتحدثون ويتناقشون ويضحكون باعلى اصواتهم، بل وقد ينادون على بعضهم أحياناً، من دون أي اعتبار لجيرانهم النائمين.
  • - جلوس شباب الحارة ورفاقهم امام البيوت، يراقبون الغادي والرايح، وعيونهم لا ترتفع عن البنات المارة بالشارع، سواءً من بنات الجيران او غيرهن، مما جعل الجيران يتفحصون الشارع قبل أن تخرج بناتهم من المنازل، للتأكد من عدم جلوس الشباب في الحارة. فأين هي غيرة الجار على بنات الجيران؟!
  • - يلعب الأطفال في الليل والنهار في الشارع، ويزعجون الجيران بالصراخ والزعيق، فلا يدعونهم يرتاحون في بيوتهم، او حتى يناموا وقت القيلولة، لا يبالي آلاباء بما يسببه اولادهم من إزعاج لجيرانهم، ولا يعيرون الامر أي اهتمام، وكأنه شيء طبيعي.
  • - ولو قام أحد الجيران هذه الأيام بضرب ابن جاره الآخر، لسوء تصرف بدر منه لقامت الدنيا ولم تقعد! ففي يومنا هذا لن يرضى أي جار أن يُضرب ابنه، حتى لو كان ابنه مخطئاً، وقد تتحول إلى مشكلة كبيرة بين الجيران. فأي جار هذا الجار؟! الم يقل الرسول الكريم: "لا يدخل الجنة من لا يوقي جاره بوائقه" (أي شروره)، فما الفائدة من الصلاة والصيام إذا لم تردع المسلم، عن أذى أخيه المسلم، وأقربهم إليه، وهم الجيران؟؟

ان قائمة اذى الجار لجاره هذه الايام طويلة لا تنتهي، ولا طائل من الخوض في تفاصيلها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي بقي من صورة جار الأمس الجميلة، كما عهدناها في تراثنا الديني والشعبي والاجتماعي؟!

لقد فسدت علاقات حسن الجوار، وانقطع حبل التعاون والمودة بين أفراده، وأصبحت العلاقة بينهم شبه رسمية وسطحية، على عكس الترابط الاجتماعي الذي كان سائدا في الزمن الماضي. وباتت العلاقات بين الجيران لا تتعدى إلقاء التحية، عندما يلتقون صدفة عند أبواب المنازل، بل إنّ التحية تكاد تكون معدومة بين البعض منهم.

ولو أخذنا الخط العام لمستوى علاقات الجيرة خلال الخمسين أو الستين سنة الماضية، لوجدنا أنها بدأت تفقد روحها عقدا بعد عقد، وسنة بعد أخرى، وازدادت مع مرور الوقت تباعدا وفتورا، وذلك راجع للأسباب التالية:

  • - ان السبب الرئيسي في تغير سلوكيات الجار وإصابة العلاقات مع الجار بالفتور، هو ابتعاد الناس عن مبادئ دينهم الحنيف، الذي أوصى بالجار قبل القريب، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثُه". ومما لا شك فيه ان قيام الجار بحقوق جاره، له آثار طيبة في المجتمع، ومظهر اجتماعي يبشر بالخير، فيه تتآلف القلوب، وتتقارب النفوس، ويكون المسلمون مثل الجسد الواحد، يتعاونون على الخير ويفعلونه، ويتناهون عن الشر ويحذرونه، ويتناصحون فيما بينهم، يحب كل واحد منهم لأخيه، ما يحبه لنفسه، وهذا من كمال الإيمان، الذي حث عليه ديننا الحنيف. وكان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون حق الجار، ويتفاخرون بحسن الجوار.
  • - عدم اكتراث الناس بأهمية القيم الاجتماعية والمفاهيم الأخلاقية التي نشأوا وتربوا عليها، والتي من ضمنها حقوق الجار والجوار، فاختفت العلاقات الطيبة بين الجيران، وحلت القطيعة والنفور محل المحبة والمودة. ولم تقتصر القطيعة على الكبار، بل شملت الصغار ايضا، فالجيران لا يدعون أولادهم يختلطون بأبناء الجيران، خوفا من حدوث المشاكل بينهم.
  • - تغيُّر القيم الاجتماعية القائمة على الحب والتعاون، إلى قيم نفعية ومادية قائمة على تحقيق المصلحة الشخصية، على عكس ما كان سائداً في الماضي، حيث أصبحت العلاقات بين الناس في وقتنا الحاضر ترتبط بما يعود عليهم من فائدة مادية، ومنفعة شخصية، دون أي اعتبار للعلاقات مع الجيران، التي أصابها الجفاء والفتور، والتباعد والنفور، وخمدت حرارة التفاعل الاجتماعي بينهم، وأصبح مبدأ المصلحة الشخصية، وتبادل المنفعة، هما الهدف الأول في العلاقات بين الجيران.
  • - وقد ساهمت الضغوط الحياتية، وانشغال الناس بهموم الدنيا ومشاكلها، في ضمور العلاقات بين الجيران. كما إن دخول المرأة (وهي الحلقة الأولى في التواصل الاجتماعي) مجال العمل، وانشغالها طوال اليوم، تسبب في فتور العلاقات بينها وبين جاراتها، حيث لم يعد لديها متسعا من الوقت تمضيه مع جاراتها، مما تسبب في ابتعادها عنهم.
  • - كما إن تغير نمط الحياة المعيشية ساهم في إضعاف وفتور العلاقات الاجتماعية بين الجيران. فقد خلا الزمن الماضي من وسائل التسلية البيتية، وكان الناس يقضون وقتهم تبادل الزيارات فيما بينهم، وبعد بدء انتشار أجهزة التلفزيون في سنوات السبعينات من القرن الماضي، اخذ الناس يفضلون متابعة الأخبار والمسلسلات وبرامج الأطفال على التلفزيون، على ان يتواصلوا مع الجيران، بزيارتهم، وقضاء الوقت معهم.
  • - وساهم انتشار وسائل الاتصال الحديثة (الخلوي، والاي باد، وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها) في فتور علاقات الجيران مع بعضهم البعض وتغير طرق التواصل الاجتماعي،
  • حيث استطاعت ان تقصر المسافات، وتذلل الكثير من صعوبات التواصل، وأقامت صلة بين الناس المتباعدين في الامكنة، على حساب العلاقات مع اقرب الاقربين وهم الجيران، الذين لم يعدوا بحاجة لهم للتواصل معهم.
  • - كما ان تراجع العلاقات الاجتماعية بين الجيران، وقلة التواصل بينهم، يُعزى الى تحسّن الأحوال المادية للكثير من الناس، الأمر الذي جعل الاستغناء عن طلب المساعدة من الجيران هو السائد اليوم، بسبب تعدد البدائل التي يمكن أن يستغني بها الشخص عن جاره. ففي السابق كانت أحوال الناس المادية متواضعة، وكان الجار يحتاج لجاره في الكثير من الأمور، أما الآن وبعد تحسن أحوالهم المعيشية، أصبح بمقدور الناس شراء كل اللوازم والأدوات المنزلية، التي يحتاجونها في البيت، ولم يعودوا بحاجة لاستعارة الأدوات والمواعين من جيرانهم، كما ان قيام الشركات الصناعية بتوفير الأغذية التي كانت تُحضّر سابقا في البيت، مثل التطالي ومعجون البندورة والبرغل والفريكة والزعتر، والعدس والفول المجروش، واللبن واللبنة والجبنة، ومختلف انواع السلطات... وغيرها، جعلت الناس يستغنون عن بعضهم، ولم يعودوا بحاجة الى طلب المساعدة من جيرانهم. كما ان المرأة العاملة التي كانت تضع أولادها عن الجيران عند ذهابها الى الحقل مع زوجها، أخذت اليوم تضعهم في الحضانة او في روضة الأطفال، حتى تعود من عملها. لذلك لم يعد الناس بحاجة إلى جيرانهم، وهم بذلك، ليسوا بحاجة إلى مدّ جسور التواصل معهم!

ومن المؤسف ايضا، أن خلل العلاقة مع الجيران توسع وانعكس على أفراد العائلة نفسها، وصرنا نفتقر إلى تلك الروح التي كانت تسود بالأمس أجواء العائلة، من محبة ومودة وتعاون وتزاور بين أفرادها، إلى درجة ان العائلة نفسها باتت مهددة بالتفكك، حين أصبحت العلاقات بين الإخوة لا تتعدى تبادل الزيارات في المناسبات الاجتماعية، التي لا مناص منها- كمناسبات الولادة والطهور، والمرض والأعياد، والأفراح من خطوبة او زواج او نجاح، وأداء فريضة الحج أو العودة من السفر.


فإذا كان هذا هو حال أهل البيت الواحد، الذين ولدوا من رحمٍ واحد، ورضعوا من ثديٍ واحد، وعاشوا في بيت واحد، وأكلوا من صحن واحد، وناموا على فراشٍ واحد، فما بالنا بالعلاقة مع الجيران؟؟!!.



وقد نظم الحاج عبد الله ابو خديجة بعض الأبيات الشعرية، التي تصف ما وصل إليه حال الناس هذه الأيام:

والناس ضاقت بالهموم ولم تعد  ...  فيهم صفات الحب والأحباب
نسي الشقيق شقيقه         ...          وتنافروا لتوافه الأسباب
فالمال مزقهم وفرق شملهم  ...  وقضى على الأرحام والأنساب
وعلاقة الأفراد فيما بينهم        ...       كعلاقة المتخوف المرتاب
أسفي على أهل الزمان    ...      لأنه أضحى لكل منافق كذاب



ومع كل هذا التغير الكبير الذي طرأ على حياة الناس، إلى أن الأمور لم تبلغ نقطة النهاية عند الجميع، بل ان هناك علاقات طيبة لا زالت قائمة بين بعض الجيران، يحرص عليها أناس ما زالوا متشبثين بتعاليم دينهم، وبالقيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي نشأوا وتربوا عليها، مما جعلهم يحافظون على أفضل علاقة بينهم وبين جيرانهم، رغم كل المتغيرات التي أحدثتها الحياة العصرية، وإن كان ذلك - للأسف الشديد- على نطاق ضيق!!



فشتان ما بين الأمس واليوم!!!

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. بلال سويلم ابو السعيد10/19/2018

    عشنا ذاك الزمان بحلوه ومره،فكان حلوه أكثر من مره،رغم ضيق العيش والفقر المستشري بين الناس،حتى لا أبالغ أن قلت،مره كان يمتزج بالسعادة لوقفة الجيران معا،فما أجملها من أوقات،استذكر مرة أني وأبناء حارتي رأينا شابا يغدو ويروح في الحارة أكثر من مرة،فسألناه عن سبب مروره فلم يقل،فضربناه ضربا مبرحا،حتى علمنا فيما بعد أن كان يقصد فتاة ليتزوجها،
    اللهم اصلح احوالنا

    ردحذف
  2. غير معرف3/10/2024

    موقع جميل و مفيد - الشكر الجزيل للقائمين عليه - ونحن نعيش منذ شهور العدوان الصهيوني الامريكي على أهلنا في فلسطين عامة و غزة خاصة - ونواصل الليل بالنهار لمتابعة الاخبار و الاهتمام والدعاء لرب العالمين لنصرة فلسطين وغزة ولبنان واليمن - وغدا رمضان الكريم - كل عام وانتم بخير

    ردحذف

إرسال تعليق

محتويات المقال