القائمة الرئيسية

الصفحات

المدن الفلسطينية المحتلة وتاريخها - مدن فلسطين التاريخية قبل النكبة

 المدن الفلسطينية المحتلة وتاريخها - مدن فلسطين التاريخية قبل النكبة وصور جوية

أدى موقع فلسطين الاستراتيجي ما بين مصر، والأردن، وسوريا إلى جعلها مطمعاً للعديد من الدول والحضارات التي تعاقبت على احتلالها لفترات زمنيّة طويلة، كان آخرها الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، والذي بدأ على إثر اتفاقيّة سايكس بيكو البريطانيّة التي قضت بتهجير اليهود إلى الأراضي الفلسطينيّة، وإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، مما أدى إلى احتلال العديد من مدنها بعد تهجير أصحابها منها منذ نكبة عام 1948 ميلادي، ومن هذه المدن القدس، وحيفا، وعكا، والناصرة، وغيرها الكثير، وفي المقابل عندما دخلت السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة الضفة الغربيّة عام 1994 ميلادي خضعت إلى حكمها مجموعة كبيرة من المدن ومنها: بيت لحم، ونابلس، وجنين، ورام الله، والبيرة، وطولكرم، وقلقيلية، ورفح، وأريحا، وخانيونس، إضافة إلى المناطق الشماليّة من قطاع غزة، والخليل التي تُصنف كمدينة مختلطة يسكن فيها الفلسطينيون واليهود، وسنذكر فيما يأتي مدن فلسطين المحتلة والخاضعة للسيطرة الإسرائيليّة حالياً. 


مدينة طبريا المحتلة

 

طبريا 1931م

تاريخ مدينة طبريا


إذا كانت المدن تنشأ وتكافح في سبيل البقاء، فإن مدينة طبرية قد لازمتها تلك السمة منذ نشأتها، شأنها في ذلك شأن بقية مدن الغور الفلسطيني (سمخ وبيسان وأريحا) التي شكلت معاً، جزءاً من مدن خط الانهدام السوري – الإفريقي في بلاد الشام. ومنذ بدء التاريخ الميلادي لازمت المدينة صفة المرونة والتكيف والتحليل على البقاء مستجيبة بذلك للظروف التي أحاطت بموقعها. وكانت المواضع المتعددة التي قامت عليها المدينة شاهداً على ذلك.

تقع مدينة طبرية في الشمال الشرقي من فلسطين. وهي مركز قضاء طبرية، أحد الأقضية الأربعة التي كان يتألف منها لواء عكا في العهد العثماني وأيام الانتداب البريطاني.

والمدينة قائمة على شاطىء بحيرة طبرية* الغربي، وعند حضيض الجليل الشرقي، على بعد عشرين كيلومتراً إلى الجنوب من مصب نهر الأردن* في بحيرة طبرية، وعلى بعد تسعة كيلومترات إلى الشمال من مخرج النهر في الزاوية الجنوبية الغربية من البحيرة.

تبعد مدينة طبرية مسافة 160 كم عن القدس، و141 كم عن اللد*، و86 كم عن عكا*، و194 كم عن مجدل عسقلان*. وتبعد عن مدينتي القنيطرة ودمشق في سورية مسافة 71 و137كم. تربطها بحيفا* طريق رئيسة تمر بالناصرة*، كما ترتبط بكل من العفولة* وجنين* ونابلس* والقدس. وهناك طريق رئيسة تصل طبرية بكل من سمخ* وبيسان*، وتتفرع منها طريق باتجاه العفولة. وتنطلق من طبرية طريق رئيسة تتجه شمالاً إلى المطلة، وتخرج منها طريق أخرى تتجه شمالاً بغرب نحو صفد* وعكا. ويضاف إلى ذلك مجموعة من الطريق الثانوية تربط المدينة يما يجاورها من قرى القضاء.

أ- مقومات الموقع: 

كان لموقع مدينة طبرية أهمية بالغة منذ نشأتها، فقد بنيت المدينة في عهد هيرودس أنتيباس عام 22م. على موقع “رقة” الكنعانية التي لم يتبق منها سوى مدافعها، وتعرف اليوم بخربة القنيطرة شمال المدينة الحديثة، وسميت باسم طيباريوس الإمبراطور الروماني. ازدهرت المدينة في ظل الحكم الروماني للمنطقة، وقد وجد فيها هيرودس الموقع الدفاعي الوحيد حول البحيرة، لأنها تطل على البحيرة مباشرة. وربما كانت أهمية الموقع العسكرية هي التي أملت على هيرودس بناء قلعة قرب شاطىء البحيرة، يضاف إلى ذلك قرب طبرية من الحمامات المعدنية التي كان للرومان اهتمام بالغ بها. وبذلك أسهم الموضع في إضفاء الأهمية على نشأة المدينة في تلك البقعة.

ذكر الإنجيل أن طبرية مدينة مزدهرة. وبعد أن أحرق تيطس الروماني القدس في عام 70م، ومنع اليهود من سكانها سمح لهم بالإقامة في طبرية، فاستقر قيها أجبارهم وأصبحت مركزاً دينياً لهم.

زاد من أهمية مدينة طبرية إنها كانت تقع على طريق القوافل التجارية بين دمشق ومصر. وكانت تلك الطريق تبدأ من دمشق وتمر بالكسوة وفيق وطبرية واللجون* وقلنسوة واللد وأسدود* وغزة* ورفح* وسيناء فمصر. وكان لطبرية شان كبير في التاريخ العربي لوقوعها على تلك الطريق، فالدراهم الطبرانية  العتيقة التي ضربت في المدينة في المدينة كانت العملة التقنية التي تعامل بها عرب الجاهلية في تجارتهم مع الرومان. وفي السنة الخامسة عشرة للهجرة، وبعد أن فتح المسلمون طبرية، ضرب خالد بن الوليد الدراهم الإسلامية لتحل محل الدراهم الطبرانية، وأرسل الخليفة عثمان بن عفان إلى طبرية في عام 30 للهجرة مصفحاً منقولاً عن مصحف عثمان لكي يقرأ المسلمون فيه القرآن الكريم. وكانت للمدينة قديما أهمية صناعية، إذ قامت فيها صناعات مختلفة أهمها: الزجاج والفخار.

اتخذت طبرية إثر الفتح الإسلامي لبلاد الشام، عاصمة لجند الأردن، الذي كانت مدن قدس وصور وعكا واللجون وبيسان وقديتا* ودرعا جزءاً منه.

وتؤكد الحقائق السابقة مدى أهمية طبرية موقعاً دفاعياً في الدرجة الأولى، ثم محطة على طرق القوافل بين دمشق ومصر. ونقطة عبور إلى المعمور الفلسطيني في الشمال، ومركزاً إدارياً هاماً بعد الفتح الإسلامي.

وفي عام 1187م استرجع صلاح الدين الأيوبي طبرية من الصليبيين، قبل إن يهزمهم في معركة حطين* التي جرت في العام نفسه. لكن الصالح إسماعيل الأيوبي، صاحب دمشق، سلم طبرية إلى الصليبيين عام 1240 م مع بيت المقدس وعسقلان. وفي عام 1247م استطاع الصالح أيوب صاحب مصر، وبقيادة الأمير فخر الدين بن الشيخ، استرداد طبرية وقلعتها من الصليبيين (رَ: العصر الأيوبي).

أصاب طبرية الخراب بسبب الحروب الملاحقة، وبسبب هجمات التتار* في القرن الرابع عشر الميلادي وكادت تندثر،وحلت بيسان محلها في الأهمية على طريق القوافل.

استولى العثمانيون على طبرية في عام 1517م مع غيرها من بلاد الشام.وفي عام 1562م سمح السلطان سليمان القانوني لليهود بالإقامة في طبرية، ودراسة تعاليمهم الدينية. وفي أوائل القرن الثامن عشر نزلتها قبيلة الزيادنة، واستثمر أفرادها جزءا من أراضيها في الزراعة. وفي عام 1730م أصدر والي صيدا أمراً إلى ظاهر العمر* بحكم طبرية وما جاورها من قرى واتخذ العمر طبرية مقراً له، وحصنتها وزاد في عمرانها، ولكن عندما استولى على عكا نقل مقر حكمه من طبرية إليها.

اندثرت أهمية طبرية مرة أخرى في القرن الثامن عشر، واستولى نابليون عليها عام 1796م. وفي القرن التاسع عشر، شكلت طبرية وناحيتها التي تضم 12 قرية، جزءاً من ولاية عكا وأصبحت في ذلك الوقت أخذ مراكز الدفاع الرئيسة عن المناطق التابعة لولاية عكا.

ازدهرت المدينة أيام الحكم المصري لفلسطين، فتم إصلاح حماماتها، وبدأت المدينة تستقبل أفواجا كبيرة من الزائرين من خارج البلاد للاستثفاء بمياهها المعدنية. ولم يمض على فترة الازدهار تلك ذات طويل، حتى حل الدمار بالمدينة إثر الزلزال الشديد الذي أصاب فلسطين في مطلع عام 1837م، وبلغ عدد ضحاياه في طبرية وحدها أكثر من 600 قتيل إلى جانب عدد كبير من الجرحى (رَ: الزلازل). وفي بداية القرن العشرين، ومع الاحتلال البريطاني لفلسطين وجه الصهيونيون أنظارهم صوب مدينة طبرية. وبدأت موجات متلاحقة من المهاجرين الصهيونيين تفد إلى المدينة للاستقرار فيها.

1) المظاهر الطبوغرافية: تقوم المدينة على شاطىء بحيرة طبرية الغربي. وهذه البحيرة هي الجزء البحري الشمالي المنفي من بحيرة اللسان التي كانت جزءاً من وادي الأردن أثناء عصر البلايستوسين وتشغيل بحيرة طبرية منخفضاً  بنائياً يمتد حتى شواطىء البحيرة الشمالية على شكل أودية تتجه شمالاً بغرب وشمالاً بشرق، أما في الجزء الجنوبي من ذلك المنخفض فإن الميله حجزت حافة المخروط (المروحة) الفيضي التي كونها نهر اليرموك عند التقائة بوادي الأردن. وبلغ مستوى مياه البحيرة على انخفاض 212 م دون سطح البحر، وبلغ مستوى مياه البحيرة على انخفاض 212 م دون سطح البحر. أما المدينة فعلى انخفاض يتدرج بين 160 و200م دون سطح البحر.

إن ضعف القشرة الأرضية في هذه المنطقة، كما يشير إليه امتداد المسطحات البازلتية، ما زال قائماً. ودليل ذلك تعرض المنطقة للهزات الأرضية، وظهور الينابيع الحارة المعدنية حول البحيرة، وأشهرها تلك التي تقع جنوب مدينة طبرية مباشرة. وقد سهل وجود المنخفض البنائي تدفق البازلت من مصدره الرئيس في حوران والجولان* بالاتجاه الغربي للمنخفض.

وينصب في البحيرة عدد من الأودية بالإضافة إلى نهر الأردن. وتسير تلك الأودية باتجاه الحافة الشمالية. وعليه، فإن الترب الفيضية قد رسمتها تلك الأودية عند مخارجها “كوادي العمود* والحمام وغيرهما.

تقع مدينة طبرية فوق سهل منبسط بمحاذاة الشاطىء الغربي للبحيرة، ويمتد إلى المرتفعات في الاتجاهين الشمالي والجنوبي. وإلى الجنوب من منطقة سهل الغوير تنحدر التلال. باتجاه البحيرة، ويخترقها واد من ناحية الهضبة التي تعلو تلك التلال. وينفرج أمام التلال. جنوب ذلك الوادي، تربط من الشاطىء تحدده الأودية، ويمتد شريط منبسط من الأرض بين المدينة وسفوح التلال الغربية، ويسمى هذا الشريط أرض العريضة وقد استخدمه السكان في الزراعة. وإلى الشمال من المدينة تقع أرض المقاطع ووادي ووادي الحميس قرب نبع أبو عيشة. أما في جنوب المدينة فتجري الينابيع المعدنية. ويرتفع إلى الغرب من طبرية جبل اللوزات الذي يمتد جنوباً ويتبادل اسمه إلى جبل قعقعية وجبل المنارة، ثم تتفرع منه سلسلة جبال صغيرة كأنها سور طبيعي يحيط بمدينة طبرية ونواحيها الجنوبية على طول البحيرة الجنوبي الغربي.

وقد انتشرت مباني المدينة على سفوح التلال الغربية، من ساحل البحيرة حتى بداية الهضبة المطلة على المدينة والبحيرة.أما من ناحية الجنوب فقد امتدت المدينة حتى حمامات طبرية المعدنية. ومن الشمال تمتد المدينة فوق أرض منبسطة باتجاه بلدة المجدل. وتنتشر الغابات إلى الشمال الغربي من مدينة طبرية، حيث أقيم منتزة طبيعي. وتنتشر الغابات أيضاً على المنحدرات التي تقع إلى الغرب من المدينة مباشرة.

وترتفع التلال في غرب المدينة وشمال غربها وجنوبها، وتنحدر منها أودية

متقطعة الجريان، تبدأ بوادي الشهبا شمال المدينة، ثم وادي أبو الرمل، فوادي الدلاف جنوب المدينة. كذلك تكثر الينابيع المائية إلى الغرب من المدينة، وأهمها نبع التينة وعيون البيار وعين ست الكل، بالإضافة إلى عين أبو عيشة القرية من الساحل شمال المدينة (رَ: عيون الماء). والحافة الجبلية التي تنهض غرب المدينة هي منطقة تقسيم المياه التي تنحدر باتجاه الجنوب الغربي لتنتهي في وادي الأردن، وبعد أن تنعطف إلى الشرق من جهة، والمياه التي تنحدر باتجاه بحيرة طبرية لتنتهي عند شاطئها الشمالي الغربي من جهة ثانية.

2) الظروف المناخية: الأحوال المناخية لطبرية هي أثر للأوضاع الطبوغرافية في هذه المنطقة التي تنخفض عن سطح  البحر أكثر من مائتي متر. فحرارة الصيف فيها أعلى بكثير مما هي عليه في السهل الساحلي*. ويصل متوسط أعلى درجات الحرارة اليومية إلى 38 درجة مئوية، وتستمر عدة ساعات. وقد سجلت درجات حرارة قصوى وصلت إلى 50 درجة مئوية. ومن جهة أخرى، يبدو أن تصل درجة الحرارة القصوى في فصل الشتاء إلى 18 درجة مئوية وذلك بسبب تأثير حرارة البحيرة ذاتها. وفصل الربيع في طبرية قصير، والانتقال من الشتاء إلى الصيف سريع. ويزداد الارتفاع  في درجات الحرارة مع هبوب الرياح الشرقية (الخماسين). بل تنتسب تلك الرياح التي تهب ساخنة من مرتفعات الجولان في تكوين موجات حارة تصل إلى الشاطىء الغربي من البحيرة (رَ: المناخ).

أما الأمطار، فإن الاختلاف بين كمياتها الهاطلة على طبرية والكميات التي تسقط على الحافة الجبلية الغربية قليل لا يذكر، بسبب الاختلاف البسيط في الارتفاعات، وبالمقارنة مع معدلات الأمطار السنوية التي تبلغ 500 مم فوق الجليل الأدنى. ويتلقى الجزء الجنوبي من طبرية 375مم، في حين يتلقى الجزء الشمالي منها 475مم. إذاً فالمنطقة تقع في أقاليم يمكن قيام الزراعة* غير المروية في أراضيه. ونظام الأمطار في هذه المنطقة عاصف رعدي على شكل زخات مفاجئة قصيرة الأمد، تحدث في نهاية موسم الشتاء، عندما تزداد حركة الهواء، يرافقها ارتفاع درجة الحرارة المنخفض الغوري. وقد تسببت هذه الأمطار المفاجئة في فيضانات خطيرة وتدفقات مائية سريعة أدت إلى تدمير بعض المناطق المبنية في مدينة طبرية. ويبلغ معدل الآيام الماطرة في طبرية 23 يوماً في السنة. وترتفع نسبة الرطوبة في المدينة إلى 65%.

ب- النمو العمراني للمدينة: يقوم القسمان الأوسط والجنوبي من المدينة الحالية على أنقاض المدينة الرومانية القديمة التي شيدها هيرودوتس، وبنى فيها هياكل وحمامات وميدانا يتوسطها ومباني كبيرة. وجلب إليها المياه بقناة طولها 15 كم. وتكثر في المدينة آثار كنائس لمختلف الطوائف المسيحية، وتقع جميعها على شاطىء البحيرة، ويعود إلى أيام تنصر قسطنطين الروماني. لكن الفرس أنزلوا بها الدمار عندما احتلوا فلسطين.

تشغل المدينة القديمة موضعاً قريباً من موقع “الرقة” الكنعانية، وهي تعني شريطاً أو شاطئاً. وذكر ناصر خسرو أن قسماً من مباني طبرية امتد فوق مياه البحيرة، وشيدت مناظر على رؤوس الأعمدة الرخامية التي وضعت أساساتها في الماء. أما المقدسي فقد قال في وصفها: “لها سور حصين يبدأ من الشاطىء، ويمتد حول المدينة. أما من جهة البحر فلا سور لها. ويتركز المسجد في وسط المدينة. كما يوجد في الجانب الغربي من المدينة مسجد اسمه مسجد الياسمين “. ويبدو أن قلعة طبرية التي رممها ظاهر العمر* في عام 1730م قد استخدمت مكاتب للدوائر الحكومية، فعرفت باسم السرايا القديمة. وأضاف ظاهر العمر أقساماً جديدة إلى سور طبرية في عام 1749م، ويبني في الحي الشمالي جامعاً كبيراً يعرف باسم الجامع الزيداني.

وكانت طبرية في الثلث الأول من القرن التاسع عشر محاطة بسور سميك متين البناء من جهة اليابسة، وكان طول ما بقي قائماً منه نحو 100م، وعرضه لا يتجاوز 40م، وفيه ما يقرب من 25 برجاً، وارتفاعه ستة أمتار، مع متراس وحاجز عال ومتراغل لاطلاق نيران الأسلحة الصغيرة. ويحيط ذلك السور بالبلدة من ثلاثة جوانب، ويلامس طرفاه الماء. وقد انهار قسم كبير من السور اثر الزلزال الذي ضرب فلسطين سنة 1837م. وكان البناء في ذلك التاريخ محصوراً داخل السور، وظل كذلك حتى عام 1904، حين سمح للسكان بالبناء خارجه، لكن ما بني لم يتجاوز خمسة عشر بيتاً.

يظهر من المخطط الذي رسمه بركهارت للمدينة سنة 1812م أن لها بوابتين،الأولى كبيرة في الشمال، والثانية صغيرة في الجنوب. وتقع السرايا بالقرب من الأولى. وفي البلدة سوق حديثة البناء، ومسجدان أحدهما واسع، وثانيهما بناية جميلة ذات أقواس. وتتصل العقود القريبة من الشاطىء بعضها بعض بأزقة ضيقة متقاطعة لها سقوف منخفضة جداً. وقد استخدمت مستودعات لاحتفاظها بالرطوبة أثناء فصل الصيف.

امتدت مدينة طبرية الحديثة شمال المدينة الرومانية القديمة التي كانت تقع بين المدينة الحالية والحمامات المعدنية. وقد حال دون امتداد المدينة العمراني جنوباً، قرب السلسلة الجبلية من شاطىء البحيرة، ووجود الحمامات. فظلت المدينة حبيسة السور الذي يحيط بها من جميع الجهات، باستثناء جهة البحيرة. وقد تكونت نواة المدينة الحديثة على شاطىء البحيرة داخل السور القديم بين الساحل والطريق الرئيسة التي تخترق المدينة وتربطها بالناصرة وحيفا. لكن المدينة خرجت من تلك العزلة، وبدأت مبانيها تنتشر شمالاً بغرب. وامتد بعضها قليلاً إلى الغرب والجنوب.

بدأت مرحلة نمو جديدة في طبرية مع بداية عام 1920، عندما أقام اليهود مستعمرة قريات شموئيل على ارتفاع 80 م فوق سطح البحر إلى الشمال الغربي من المدينة. وبعد الاحتلال في عام 1948 أصبحت مدينة طبرية إحدى مدن التطور الرئيسة في فلسطين المحتلة.

ج- سكان طبرية:

1) النمو السكاني: يلاحظ المتبع لتاريخ مدينة طبرية أنها ظلت فترة طويلة منذ نشاتها حامية للجند ومنتجعاً ترفيهياً وصحياً، ولما تم اختيارها بعد الفتح الإسلامي عاصمة لجند الأردن، غدت أيضاً مركزاً إدارياً وقد ارتبط نمو عدد سكان طبرية إلى حد كبير بهذه الوظائف الثلاث التي جذبت إليها السكان من مناطق أجرى مجاورة. وتوضح بقايا المباني العامة التي وجدت في حفريات بعض المواقع حول المدينة أن السكان كانوا يعدون في الماضي (خاصة في العهد الإسلامي) أكثر بكثير من سكان طبرية في الوقت الحاضر. وربما بلغ عدد السكان في تلك الفترة 35.000 نسمة. وقد يعزى ذلك إلى:

(1) العوامل الطبيعية: وتتمثل في المناخ* الدافىء الملائم لزراعة بعض المحاصيل، ووجود الينابيع الحارة بجوار المدينة مباشرة، إذ كانت تلك الينابيع سبباً في جذب الراغبين في الاستشفاء من فلسطين وبلاد الشام الأخرى. ويضاف إلى ذلك توافر الأسماك* بكثرة في بحيرة طبرية، وتوافر الأراضي الخصبة ذات التربة* البركانية الصالحة للزراعة.

(2) العوامل البشرية: ضمت القلعة التي بناها الرومان عدداً كبيراً من الجند وأسرهم. وعمل جزء من السكان في خدمة زائري الحمامات المعدنية. وعزز مكانة المدينة أيام الفتح الاسلامي أنها اختيرت عاصمة لجند الأردن، فأصبحت أكثر مراكزه النشطة تجارياً وإدارياً.

وكانت العوامل الطبيعية مع العوامل البشرية سبباً في استقرار السكان في هذه المنطقة، حيث تطورت صناعة خط الأسماك للتسويق والتصدير، ونشطت الحركة التجارية، وازدهرت أيام الرومان صناعة الخمور، وتبعد أراضي الحطام البركاني الواقعة غرب المدينة من أفضل الترب لزراعة أشجار العنب. وقد استخدمت الصخور البازلتية المنتشرة حول المدينة في البناء. وتوجد شمال غرب المدينة منطقة تسمى المقاطع، كانت تصدر منها حجارة البناء إلى منطقة السهل الساحلي الفلسطيني.

ولا تتوافر معلومات دقيقة من عدد سكان المدينة في العصور الماضية. وقد نزل اليهود طبرية عام 1560م، وكانت علاقتهم بأهلها الأصليين حسنة في بادىء الأمر. لكنها أخذت تسوء في العهد البريطاني، عندما نمت فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد أعطى كثير من المؤرخين والرحالة الذين زاروا المدينة تقديرات مختلفة لعدد سكان المدينة.

ورغم عدم وجود بيانات أساسية عن السكان، من حيث الزيادة الطبيعية والهجرة، فإن استخدام معدل الزيادة السنوية للسكان يعد الوسيلة الوحيدة التي تمكن من التعرف على مدى التغير الذي طرأ على نمو سكان المدينة منذ مطلع هذا القرن. وقد بلغ معدل الزيادة السنوية لسكان طبرية بين 1908 و1922 نحو 18 بالألف. وارتفع هذا المعدل إلى 24 بالألف للفترة الواقعة بين التعدادين الرسمين: 1922 و1931. وتوالى الارتفاع حتى وصل إلى 32 بالألف بين 1931 و1945. ويعزى ذلك الارتفاع إلى الزيادة الطبيعية وإلى الهجرة. هذا إلى أن تقدم الخدمات الصحية أدى إلى تخفيض في معدل الوفيات المرتفع بسبب الأوبئة، ولا سيما في الثلاثينات من هذا القرن، إذ انخفض معدل وفيات الأطفال الرضع من 125 بالألف إلى 75 بالألف للفترة من 1931 – 1941.

أما الهجرة فقد أدت دوراً هاماً سلبياً وإيجابياً في نمو سكان طبرية، سواء أكانت هجرة اليهود إليها. أو تهجر سكانها العرب القسري. فمنذ أن سمح السلطان سليمان القانوني لليهود بالاستيطان في طبرية في منتصف القرن السادس عشر بدأت أعدادهم تتزايد، لكن لا توجد بيانات موثوقة من عددهم حتى القرن التاسع عشر، باستثناء ما ذكر في بعض الصادر من أن عددهم في عام 1839 قد بلغ 600 نسمة. وفي القرن التاسع عشر وردت تقديرات مختلفة حول عدد اليهود في المدينة، ومنها أن بركهارت سنة 1812م جعلهم ربع سكان المدينة، أي ألف يهودي حسب تقديره.

وفي تعداد 1922 بلغت نسبة اليهود 64% لكن نسبة السكان اليهود في تعداد 1931 انخفضت إلى 47% من مجموع سكان المدينة، تبعاً لتقديرات  نوتشتين وجوركات، اللذين أوضحا أن هناك أخطاء في تسجيل السكان العرب في تعداد 1923. وأوضح المؤلفان أن معدل للهجرة الصافية إلى طبرية كان 6% من حجم السكان الأصلين بين عامي 1923 و1931، ومن جهة ثانية كان نصف سكان طبرية عام 1947 من الغرب.

وطبرية من مدن فلسطين الأولى التي استقبلت المهاجرين بسبب وجود مركز ديني يهودي فيها. وتدل الأرقام السابقة على أن هجرة اليهود إليها ظلت مستمرة. لكن ذلك لم يقلل من حجم السكان العرب في المدينة، فقد قدر عدد سكانها في عام 1945 نحو 11.310 نسمات من العرب واليهود، في حين قدر عدد سكانها عام 1948، اثر النكبة وإجبار السكان العرب على مغادرة المدينة، بنحو 5.566 نسمة، كلهم من اليهود (أي نصف السكان تقريباً في ذلك العام). وتشير الأرقام إلى أن المدينة الفلسطينية التي أجلي عنها سكانها العرب في عام 1948 أعيد حشدها بالمهاجرين اليهود، وكانت طبرية أولى تلك المدن، إذ ألف المهاجرون اليهود الجند 46% من سكانها اليهود قبل حرب 1967*. وقد بلع عدد سكانها في عام 1983، 28.200 نسمة وارتفع في عام 2001 إلى 39.500 نسمة.

2) تركيب السكان النوعي والتعليمي والمهني: يتبين من بيانات تعداد 1931 الخاصة بالتركيب النوعي لسكان طبرية أن نسبة الذكور إلى الاناث في المدينة بلغت 94 من الذكور لكل 100 أنثى. وكانت تلك النسبة 97 عند السكان العرب و93 عند السكان اليهود. أما المستوى التعليمي في المدينة فكان مرتفعاً بدليل انخفاض نسبة الأمية إلى 53% لمن هم فوق نسبة الرابعة عشرة حسب تعداد 1931، ويظهر ذلك في كثرة المدارس الخاصة في المدينة. من جهة أخرى بلغت نسبة المتعلمين 497 بالألف من سكان المدينة (7 سنوات فما فوق) في عام 1943. وكانت نسبة الذكور 645 في الألف والإناث 364 في الألف وفي العام نفسه بلغت نسبة الذكور الملتحقين بالتعليم بين 5 و15 سنة 65% في حين بلغت نسبة الإناث في فئة العمر نفسها 55%.

ويلاحظ في تركيب السكان المهني أن سكان طبرية اعتمدوا في معيشتهم على الزراعة والصيد. وامتلك بعضهم الزوارق لصيد الأسماك من البحيرة، وعمل بعضهم في الأعمال الزراعية. وكان نحو ربع السكان العاملين يعملون في الأوظائف الإدارية والتعليمية والصحية في المدينة، وإلى جانب اعتماد جزء من السكان في معيشتهم على الخدمات السياحية والترفيهية. واعتمد جزء ضئيل من السكان اليهود على التجارة، في حين اعتمد كثيرون منهم على المعونات التي كانت تأتيهم من الصندوق القومي اليهودي في أوروبا. وقد تبدل هذا التركيب المهني بعد احتلال الصهيونيين لفلسطين عام 1948، فأصبحت السياحة* هي الوظيفة الرئيسة في المدينة.

د- مخطط المدينة: بلغت مساحة مدينة طبرية 1.305 دونمات في عام 1945، منها 432 دونماً للطرق والأودية. وبلغ عرضها من ساحل البحيرة إلى أرض العريضة غربي المدينة مباشرة 400م، ويتراوح طولها من الشمال إلى الجنوب بين 600 و700م. وامتدت المدينة فوق مصطبة من اللحقيات والأنقاض والصخور* البازلتية على ساحل بحيرة طبرية الغربي. وقد فرضت الطبيعة عليها اتجاهات النمو العمراني والشكل التنظيمي. فارتفاع التلال إلى الغرب والشمال الغربي والجنوب منها مباشرة، أجبرها على الامتداد بشكل طولي بمحاذاة الساحل وباتجاه الشمال والشمال الغربي. وتخترق المدينة من الغرب إلى الشرق عند أودية.

كانت تخترق المدينة شوارع عريضة تمتد شرقاً بغرب، في حين امتد شارع رئيس باتجاه شمالي جنوبي، وأقيمت المحلات التجارية على جانبيه، وشكل بذلك السوق الرئيسة للمدينة. وقامت على جوانب الشوارع العريضة الأخرى بعض الحوانيت. وفي المدينة جامعان رئيسان، الأول جامع الجسر في الركن الجنوبي للمدينة، والثاني جامع الزيداني في الركن الشمالي. وقد أقيم مسلخ جنوب المدينة شرق طريق طبرية – سمخ الرئيسة. وامتدت بعض الشوارع العريضة باتجاه الغرب، لكن امتدادها كان قليلاً. وفي الوقت نفسه امتدت شوارع أخرى باتجاه الشمال بين الطريق الرئيسة التي تسير بمحاذاة الساحل متجهة إلى المطلة شمالاً، والطريق الرئيسة التي تربط طبرية بالناصرة وحيفا. وتعامدت على هذه الطريق الرئيسة شوارع عرضية.

وأنشىء في الجزء الشمالي الحديث في المدينة المستشفى الرئيس، إلى الشمال من مبنى الحكومة القديم في عهد الانتداب البريطاني. بشكل عام اقتسم طبرية (قبل 1948) إلى ثلاثة أقسام رئيسة من الشمال إلى الجنوب على النحو التالي:

(1) الشريط الساحلي: يقسم الأجزاء الرئيسة، كمحطة الزوارق في القسم الشمالي على ساحل البحيرة، ويجاورها جامع الزبداني. ويقوم على هذا الشريط الحي السكني اليهودي، والمسلخ. وفي الجزء الجنوبي من هذا الشريط تقع الحمامات المعدنية.

(2) القسم الأوسط: يحاذي الشريط الساحلي، ويبدأ شمالاً بالمستشفى الرئيس وبعض مستشفيات الإرساليات الأجنبية، وكذلك مبنى الحكومة القديم. ثم تمتد السوق التجارية الرئيسة، وتتجمع حولها المنطقة السكنية الرئيسة التي كانت تشكل مع السوق، المدينة المسورة في الماضي. وإلى الجنوب من الشرق التجارية والمنطقة السكنية، يقع جامع الجسر.

(3) القسم الغربي: يضم معظمه أرض المقاطع التي استخدمت لمقطع حجارة البازلت السوداء من أجل البناء، ويشمل أرض العريضة التي استغلت في الزراعة، ويحتوي على مدافن المدينة.

تغيرت معالم المدينة، ولا سيما المنطقة الشمالية منها بعد عام 1948، فقد قامت السلطات الصهيونية المحتلة بهدم الأحياء العربية، وطورت مستعمرة قريات شموئيل التي أنشئت عام 1920، وأقامت فيها الحدائق والمنتزهات العامة والفنادق السياحية والمباني الحديثة، وأنشأت حياً سكنياً جديداً على المرتفعات الغربية المطلة على حمامات طبرية المعدنية.

1) مباني المدينة: بنيت مسكن طبرية من أحجار البازلت السوداء، التي كانت تؤخذ من منطقة المقاطع غرب المدينة. وقد استغل السكان هذه المادة المتوفرة محلياً لبناء مساكنهم، وكانت فيما مضى مورداً حسناً لهم، إذ كانت تلك الحجارة تصدر إلى منطقة السهل الساحلي. وأكثر من نصف مباني طبرية ذات طابق واحد، وعدد طوابق الباقي اثنان أو ثلاثة. ومعظم مباني المدينة متلاصقة. ويكاد نمط البناء يكون واحداً، فأغلب مبانيها موشورية السقف، وهي إما مربعة أو مستطيلة. وقد بنيت معظم السقوف من التراب والقليل منها من الآجر.

2) حمامات طبرية المعدنية: تقع على بعد كيلومترين إلى الجنوب من مدينة طبرية حماماتها الشهيرة ذات المياه المعدنية الحارة، التي استخدمت، وما زالت للاستشفاء، فهي غنية بالمعادن والمواد الكيمائية المختلفة مثل الصوديوم، والملح، واليود، والكبريت والمنغنيز. وقد أنشأ الكنعانيون عندها مدينة “حمات” ومعناها: الينابيع الحارة. وعرفت في العهد الروماني باسم “أماتوس”. وتقوم الحمامات اليوم على أنقاض أبنية شيدها الرومان، ثم العرب. والبركة المعروفة باسم الحمام العتيق بنيت أيام الفتح الإسلامي، أما البركة التي تعرف باسم الحمام الكبير فقد بنيت في عهد عبدالله الجزار والي عكا عام 1830م. ترتفع درجة الحرارة الحمامات إلى 37.8 درجة مئوية، وقد كان الناس يفدون على تلك الحمامات من جميع أنحاء سورية وفلسطين، للاستشفاء من أمراض الروماتيزم والجلد. وتربط الحمامات بطبرية طريق معبدة، تقع آثار مدينة طبرية القديمة على جانبيها، وقد أعطي لبنانيان في عام 1910 امتياز تعمير هذه الحمامات واستثمارها لمدة 35 عاماً، لكن الحكومة البريطانية أقامت العراقيل أمامهما، ولم تمكنهما من القيام بذلك، ثم اعطت الامتياز شركة يهودية.

3) الخدمات والمرافق في طبرية: كانت طبرية أيام العثمانيين مركزاً لمديرية طبرية التي أنشئت عام 1911، وأقيمت فيها أثناء ذلك دار للحكومة وست مدارس وفندق ومستشفى ومعصرة زيتون. وفي أيام الحرب العالمية الأولى كان فيها مدرستان رسميتان، واحدة للذكور وأخرى للإناث، وست مدارس لليهود، وثلاث مدارس أخرى تابعة للإرساليات الأجنبية. ووجدت فيها ثلاث كنائس للمسيحيين، وعشرة معابد لليهود، وجامعان كبيران للمسلمين.

اعتمد السكان على عين أبو عيشة للتزود بمياه الشرب، وقد جرت إليها بالأنابيب، في حين استخدموا مياه البحيرة العذبة لجميع الأغراض الأخرى.

شكلت طبرية مركزاً تجارياً رئيساً في الغور الشمالي، فالسكة الحديدية جنوبي البحيرة تربطها بالغور وبحيفا عن طريق سمخ، والطرق المعبدة تربطها بصفد وبالقدس.

وتمتع سكان طبرية بمستوى تعليمي جيد، وبذلك لتوفر الخدمات التعليمية التي قدمتها المدينة لساكنيها.

وبلغ عدد الطلبة العرب الملتحفين بالمدارس الابتدائية في طبرية 1.030 طالباً وطالبة في العام الدراسي 47/1948. وكان لليهود في طبرية عام 42/1943 ست مدارس، التحق بها في العام نفسه 851 طالباً وطالبة.

4) الاحتلال الإسرائيلي لطبرية وتغير معالمها: بقي السكان اليهود الذين وفدوا إلى المدينة على علاقة حسنة بسكانها العرب حتى بداية الانتداب البريطاني لفلسطين في عام 1920، حين اخذت تحدث بعد ذلك التاريخ صدامات كثيرة بين السكان العرب واليهود في المدينة، وكانت أشدها أحداث ثورة 1936 – 1939*. وبعد إعلان التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947 (رَ: تقسيم فلسطين)، نشبت المعارك بين السكان العرب والمهاجرين اليهود، وانتهت في 15 نيسان 1948 باستيلاء اليهود على على المدينة بمساعدة القوات البريطانية المرابطة فيها، والتي قامت بإجلاء السكان العرب إلى الكنائس والجوامع في مدينة الناصرة، فاندفع اليهود إلى بيوت العرب ونهبوا ما فيها، وفي 19 نيسان من العام نفسه سلم البريطانيون المدينة إلى اليهود. وكانت طبرية بذلك أول مدينة فلسطينية يسلمها البريطانيون لليهود (رَ: طبرية، معركة). وقد هدم هؤلاء أحياء طبرية العربية، وأقاموا في مسجدها الجنوبي (جامع الجسر) متحفاً محلياً، ووسعوا، وجددوا مستعمرة قريات شموئيل، وأحاطوا المدينة بعدد من المستعمرات، أهمها “كنيرت، ويفنيئل، وروش بينا، وجسر بنات يعقوب”.

طبريا 1931م

مدينة الرملة المحتلة

الرملة 1932م

تاريخ مدينة الرملة

مدينة عربية كانت مركزاً لقضاء الرملة في عهد الانتداب البريطاني. وقد احتلها العدو الصهيوني في ساعة مبكرة من صباح يوم الاثنين 12/7/1948 بعد مقاومة باسلة من أهلها، وقام بطرد معظم سكانها العرب فلم يبق منهم فيها سوى 400 نسمة (رَ: اللد والرملة، معركة). وأنشأ بعد عام 1948 في ظاهر الرملة مستعمرات كثيرة منها مستعمرة “أحيسمخ” في الجهة الشمالية الشرقية ومستعمرة “متسلياح” في الجهة الجنوبية ومستعمرة “ياد رامبام” في الجهة الجنوبية الشرقية.

أ- الموقع الجغرافي: للرملة موقع جغرافي هام لأنها في منتصف السهل الساحلي الفلسطيني* جنوبي شرق يافا* وجنوبي غرب اللد*. وتمر بها الطرق* والسكك الحديدية* التي تربط مصر ببلاد الشام والعراق. وهي نقطة انقطاع بين بيئتي السهل الساحلي والبحر المتوسط من جهة، وبيئتي الجبل والغور* من جهة ثانية. ومن الطبيعي اذن أن تصبح نقطة وصل بين هذه البيئات المتفاوتة نسبياً في إنتاجها، وأن تكون عقدة هامة للمواصلات التي تلتقي في المدينة قادمة من الغرب والشرق مثلها في ذلك مثل مدينة اللد.

وتعد منطقة الرملة ظهيراً غنياً وقريباً لميناء يافا الذي ازدهر في أواخر عهد الانتداب إذ كان يستقبل البواخر التي كانت تأتي بالبضائع الأجنبية فتوزع عن طريق الرملة إلى بقية أجزاء فلسطين، ثم تحمل حمضيات منطقة اللد والرملة إلى الخارج. ويمثل وادي الصرار الذي ينحدر من جبال القدس* نحو البحر المتوسط فتحة طبيعة هامة تربط القدس بالرملة. وتسير الطريق المعبدة والسكة الحديدية بين القدس* والرملة على طول مجرى الوادي، ثم تمران بالرملة في السهل الساحلي متجهتين نحو يافا وتبعد الرملة عن القدس مسافة 45 كم، ويشرف موقعا باب الواد (بعد 21 كم من الرملة) واللطرون (16 كم) على طريق القدس – الرملة يتحكمان بها.

ترتبط مدينة الرملة بإقليمها بوسائل مواصلات جيدة. فهي تبعد عن محطة اللد مسافة 3.5كم، وعن عساكر* 9.5 كم، وعن بيت دجن*9  كم، وعن صرفند* 7 كم، وعن القباب 10كم. كما كانت تسفيد كثيراً من قرب مطار اللد منها.

ولموقع الرملة أهمية حربية إلى جانب أهميته الاقتصادية. فقد كانت منطقة الرملة مسرحاً لكثير من المعارك في التاريخ واتخذها الفرنجة* مركزاً لجيوشهم عند محاولتهم غزو فلسطين. وكانت قاعدة عسكرية للجنود الأتراك والألمان خلال الحرب العالمية الأولى. وفي عهد الانتداب البريطاني أقام الإنكليز معسكراً ضخماً لجنودهم على مسافة 5 كم منها.

ب- طبيعة الأرض والمناخ*: تقوم الرملة فوق بقعة منبسطة من أرض السهل الساحلي لفلسطين. ويراوح ارتفاع أرضها بين 75 و100 عن سطح البحر. وتنحدر الأرض بصفة عامة نحو الشمال والشمال الغربي. ويمر وادي الحبل بالأراضي الواقعة شرقي الرملة ويفيض في فصل الشتاء بمياه الأمطار فيغذي خزانات المياه الجوفية. ويعد هذا الوادي الحد الشرقي للأراضي الزراعية المحيطة بالرملة.

تتكون الأرض من لحقيات الحقبة الرابعة التي اختلطت فيها رمال البحر الزاحفة عبر السهل الساحلي نحو الشرق بالإرسابات الطمية التي تترسب فوق أرض السهل الساحلي نتيجة فيضانات الأودية القادمة من المرتفعات الجبلية شرقاً والمتجهة نحو البحرالمتوسط. ولذا يغلب على تربة منطقة الرملة الطفل وتنتمي إلى تربة البحر المتوسط الحمراء التي تصلح لزراعة جميع أنواع المحاصيل الزراعية، ولا سيما الحمضيات* والزيتون* والحبوب*.

تقتصر المياه السطحية في منطقة الرملة على مياه فيضانات الأودية التي تحدث أحياناً خلال فصل الشتاء. غير أن المنطقة غنية بمياهها الجوفية في ري الأرض الزراعية المحيطة بالرملة وتستخدم في الشرب والاستعمالات المنزلية والصناعية.

مناخ الرملة معتدل، وهو جزء من مناخ السهل الساحلي الفلسطيني. ويبلغ متوسط درجة الحرارة السنوية في الرملة نحو 20 درجة مئوية. ويراوح بين 13 درجة مئوية في شهر كانون الثاني و26 درجة مئوية في شهر آب. ومن النادر أن يحدث الصقيع أو تسقط الثلوج على المدينة ويبلغ المعدل السنوي للرطوبة النسبية في البحر نحو 65 درجة مئوية، وهو معدل مناسب تتميز به الرملة من بين بقية المدن الساحلية الأخرى. وتتلقى الرملة النسيم الذي يهب عليها من البحر المتوسط ابتداء من الساعة التاسعة صباحاً فيلطف حرارة جوها. وأما كمية الأمطار السنوية التي تهطل على الرملة فتزيد في متوسطها العام على 500مم، وهي كمية كافية لخزن الرطوبة في التربة* ونمو معظم أنواع المحاصيل الزراعية.

ج– النشأة والنمو: الرملة إحدى مدن فلسطين التي تأسست في العهد الإسلامي. ولا يقوم دليل على موضعها قبل هذا التاريخ. ولكن المنطقة القريبة من موضع المدينة الحالي شغلتها في العصر الحجري الحديث (رَ: العصور القديمة) قرية زراعية أقام عليها الكنعانيون فيما بعد قرية جازر* التي تقع عليها اليوم قرية أبوشوشة*. وقد وجدت في أقدم مستوطنات لهذه القرية بقايا سور وبقايا حاصلات زراعية وبعض الكسرات من الأواني الفخارية.

سميت رملة لغلبة الرمل عليها. وقبل سميت بامرأة اسمها رملة وجدها سليمان بن عبد الملك في بيت شعر حين نزل مكانها يرتاد بناءها وأحسنت ضيافته فسألها عن اسمها فقالت: رملة، فبنى البلدة وسماها باسمها.

اختط بناءها الأمير سليمان بن عبد الملك* يوم كان والياً على فلسطين في عهد أخيه الوليد بن عبد الملك* ونقل إليها مقر الحكومة الإقليمية التي كانت في اللد. واستمرت اقامته في المدينة الجديدة التي أسسها وهو خليفة طوال السنوات 715هـ – 717هـ، ونقل بعض سكان اللد إليها، وأصبحت حاضرة جند فلسطين. وقد اختط سليمان المدينة على أرض مريعة الشكل قسمها شارعان رئيسان متقاطعان في الوسط إلى أربعة أقسام. وخطت في كل قسم الأحياء وسكنت كل قبيلة حياً منها. وأول ما بنى فيها سليمان قصره ثم دار الإمارة. ثم بدأ بتشييد المسجد واستمر في بنائه عندما ولي الخلافة. ولما استقرت القبائل في المدينة بنيت لهم الدور والحوانيت. ومن أشهر القبائل التي نزلت بها قبائل لخم* وكنانة*. وفي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك حفرت قناة تدعى بردة لنقل الماء إلى المدينة، كما حفرت آبار لاستخراج الماء العذب. وذكرها الاصطخري بقوله: “إن الرملة هي مدينة فلسطين العظمى، ويليها بيت المقدس في الكبر”. ووصف المقدسي مزاياها وفرة فاكهتها، ولا سيما التين والنخيل، وعذوبة مياهها وطيب غذائها وجمعها بين فضائل الريف والمدن التي تقوم في السهل وتجاوز التلال والبحر، وتحدث عما فيها من الحصون والمساجد والخانات والحمامات المريحة والمساكن الرحبة والطرق الفسيحة.

كانت الرملة في عهد العباسيين تابعة لولاية الشام. وشهدت بعض حوادث التمرد التي لم يكتب لها النجاح. وقد حكمها الطولونيون مدة من الزمن وشهدت مرور موكب قطر الندى ابنة الأمير خمارويه وحفيدة أحمد بن طولون* وهي في طريقها إلى بغداد لتكون زوجة الخليفة العباسي المعتضد. وكان ذلك في سنة 281هـ/895م. وأصبحت الرملة في عهد الاخشيديين إمارة تابعة لهم، وزارها في أيامها المتنبي ومدح فيها أميرها الحسن بن عبد الله بن طغج الاخشيدي. واستولى عليها بعد ذلك القرامطة* في سنة 361هـ/971م ثم الفاطميون* في سنة 367هـ/977م. وفي سنة 423هـ/1031م أصاب الرملة زلزال عنيف هدم ثلثها وخرب مسجدها وأهلك كثيراً من أهلها (رَ: الزلازل). وفي سنة 463هـ/1070م تعرضت المدينة لزلزال آخر هدم الدور والسور وضعضع الجامع ومات من أهلها كثيرون.

وعندما نشبت الحروب بين الصليبيين والمسلمين احتل الفرنج مدينة الرملة في سنة 493هـ/1099م وكان أهلها قد خرجوا منها قبل الاحتلال. وفي سنة 496هـ/1102 استعادها المسلمون وقضوا على معظم من كان فيها من فرسان بغدوين الصليبي. ولكن الصليبيين احتلوها مرة أخرى وبقيت في أيديهم إلى أن استردها المسلمون بعد معركة حطين* التي قادها صلاح الدين الأيوبي* ودمر قلعتها حتى لا يحتلها الصليبيون وهي عامرة. ولكنه جدد بناء الجامع الأبيض فيها. وفي سنة 601هـ/1204م عادت الرملة لحكم الصليبيين فأقاموا فيها أبرشية وشيدوا كنيسة. ولكن حكمهم فيها لم يدم كثيراً، إذ تمكن الظاهر بيبرس* من تحريرها هي وسائر مدن فلسطين والشام في صيف سنة 660هـ/1261م وبنى لجامعها مئذنة ومحراباً. وفي سنة 693هـ/1293م أصابها الزلزال شديد دمر أبرشيتها.

كانت الرملة في القرن الثاني عشر الميلادي مدينة عامرة فيها أسواق وتجارات. وفي القرن الرابع عشر الميلادي كانت مدينة فلسطين العظمى ويليها في الكبير بيت المقدس. وكانت فيها حوانيت كثيرة وأسواق حسنة، واشتهرت بصنع الثياب القطنية إذ كان القطن ويزرع في مرج ابن عامر.

دخلت الرملة مع غيرها من مدن فلسطين والشام في الحكم العثماني بعد انتصار العثمانيين على المماليك* في مرج دابق سنة 924هـ/1516م. وقد تدهورت حاة المدينة في أوائل العهد وزالت أساورها وأسواقها القديمة وبنتيجة ما شهدته من حوادث التدمير أثناء الحروب الصليبية، واكتست هي وقراها في القرن الثامن عشر الميلادي طابع الفقر، وجفت آبارها وخربت صهاريجها. وأما أهلها فكانوا يشتغلون بغزل القطن وصنع الصابون.

وفي سنة 1214هـ/ 1799م احتلها نابليون بونابرت وكان أهلها قد خرجوا قبل دخوله إليها والتجأت النسوة المسيحيات إلى دير البلدة. ولما أخفقت حملة نابليون على الشرق انسحب جنودها من الرملة (رَ: الحملة الفرنسية). وفي الفترة بين 1831 – 1840م خضعت الرملة لحكم الباشوات في مصر ثم عادت إلى حكم العثمانيين. وفي أواخر العهد العثماني شهدت الرملة بعض التقدم فأصبحت مركز ناحية تتبع قضاء يافا (رَ: الإدارة). وانتهى عهد العثمانيون في سنة 1917 ليخلفه عهد الانتداب البريطاني الذي استمر مدة 31 عاماً. وفي سنة 1927 تعرضت الرملة ونابلس والقدس واللد لزلزال أحدث أضراراً كثيرة في الممتلكات.

د- مشاهد الرملة التاريخية: أهمها أطلال قصر بناه الخليفة سليمان بن عبد الملك. وتقوم مكانه اليوم حديقة البلدية، ولا تزال بعض جدرانه شاخصة في جانب الحديقة. وهناك أطلال الجامع الأبيض الذي بناه سليمان بن عبد الملك أيضاً ودمره الصليبيون وأعاد بناءه صلاح الدين الأيوبي ثم جدده الظاهر بيبرس. وتقع بقاياه المتمثلة بجدرانه في غرب المدينة. وأما المئذنة الحالية فيبدو كما يتبين في الكتابات المنقوشة عليها أنها بنيت في أيام السلطان محمد بن قلاوون على أنقاض منارة بناها الظاهر بيبرس. ومن مشاهد الرملة أيضاً الجامع الكبير وهو في الأصل كنيسة القدس يوحنا المعمدان التي أسسها الصليبيون في القرن الثاني عشر الميلادي. وقد رمم عدة مرات كان آخرها في زمن السلطان العثماني محمد رشاد.

ومن المشاهد الأثرية الشاخصة في الرملة بركة العنزية التي تقع في شمال غربي بنحو كيلومتر واحد. ويعتقد أنها تأسست بأمر من السيدة خيزران زوجة المهدي الخليفة العباسي في زمن ولدها هارون الرشيد سنة 173هـ/789م. ويستدل على ذلك من الكتابة المحفورة عليها. وقد وصفها كمال سامح في كتابه “العمارة في صدر الاسلام”. وهذا الصهريج الذي بني لجمع الماء هو الأثر العباسي الوحيد في هذه البلاد. وفي الرملة قبر يقال انه قبر الفضل ابن العباس ابن عم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه استشهد في فلسطين في معركة فلسطين في معركة أجنادين أو في طاعون عمواس.

هـ- الرملة الحديثة: تطورت الرملة في عهد الانتداب البريطاني تطوراً كبيرا وزاد عدد سكانها من 6.500 نسمة قبل الحرب العالمية الأولى إلى 7.312 نسمة في عام 1922 و10.347 نسمة عام 1932، ثم ارتفع عددهم إلى 15.160 نسمة عام 1945 و16.370 عام 1946. وتبع ذلك نمو العمران في المدينة فامتدت المباني السكنية والمنشآت على شكل محاور بمحاذاة الطريق الرئيسة المتفرعة من المدينة، ولا سيما طريق الرملة – يافا. وتوسعت مساحة المدينة تدريجياً حتى بلغت في عام 1943 نحو 1.769 دونماً تشغلها آلاف المباني. وشهدت مرحلة نمو سريع في مستويات سكانها التعليمية والثقافية.

لكن الازدهار التي حظيت به الرملة لم يدم طويلاً لأنها تضررت من كارثة عام 1948. ففي ذلك العام احتلت (إسرائيل) المدينة وطردت معظم سكانها العرب ودمرت بعض بيوتها ولم يبق من سكانها إلا القليل. وأخذ المهاجرون الصهيونيون يحلون على السكان العرب تدريجياً. ففي أواخر عام 1948 قدر عدد سكان الرملة بنحو 1.547 نسمة، وارتفع بفعل الهجرة الصهيونية فوصل إلى 20.548 نسمة في عام 1961. ونتج عن تيار هذه الهجرة إلى المدينة توسع في مساحتها وزيادة في عدد مبانيها السكنية. واتجه النمو العمراني للرملة نحو الغرب والجنوب الغربي بصورة رئيسة. وتركز معظم الصهيونيين فيما يسمى الآن بالرملة الجديدة في حين بقي العرب في الرملة القديمة إلى جانب من استقر معهم فيها من الصهيونيين. وفي عام 1969 كان مجموع العائلات الصهيونية المقيمة في الأحياء الجديدة من الرملة نحو 4.200 عائلة، ومجموع العائلات الصهيونية في الأحياء القديمة من المدينة نحو 300 عائلة تعيش في البيوت العربية التي أخليت من سكانها العرب بعد طردهم.

بلغ عدد سكان الرملة في عام 1973 نحو 36.000 نسمة من بينهم 4.800 عربي فيما وصل عام 2001 إلى 63.400 نسمة ولا تجد في الأحياء العربية في المدينة الاهتمام اللازم من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني، وتتركز معظم الخدمات والمرافق العامة في الأحياء الصهيونية، ولا سيما الأحياء الجديدة.

و- التركيب الوظيفي: تتنوع الوظائف التي تمارسها الرملة منذ نشأتها الأولى حتى اليوم. وقد تأثرت مراحل تطور نمو المدينة بتطور هذه الوظائف. كما أن الأهمية النسبية لكل وظيفة اختلفت من عصر لآخر حسب الظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها المدينة. والوظائف التي تمارسها الرملة هي:

1) الوظيفة الإدارية: واكبت هذه الوظيفة مدينة الرملة منذ نشأتها الأولى لأن المدينة خطط لها أن تكون عاصمة لجند فلسطين منذ البداية بسبب توسط موقعها. وقد اتخذها الأمويون والعباسيون والمماليك عاصمة لفلسطين. وفي أواخر العهد العثماني كانت الرملة مركزاً لناحية من أعمال قضاء يافا تتبعها 59 قرية. ثم أصبحت في عهد الانتداب البريطاني مركزا لقضاء يحمل اسمها.ويضم قضاء الرملة حالياً مدينتي الرملة واللد وسبعين قرية فضلاًً عن المستعمرات الصهيونية.

تشرف الرملة على قضاء مساحته 926.7 كم2. وكان الصهيونيون قبل عام 1948 يملكون نحو 13.8% من مجموع مساحة القضاء، وهم يحتلون اليوم القضاء كله. وكانت الرملة تدير شؤون سكان القضاء الذين بلغ عددهم نحو 49.075 نسمة في عام 1922، ونحو 70.579 نسمة في عام 1931، ونحو 127.270 نسمة في عام 1945. بعد أن كانت نسبتهم 8% في عام 1922. وأما اليوم فهم يمثلون غالبية سكان القضاء المحتل.

2) الوظيفة التجارية: الرملة مركز تجاري هام منذ صدر الإسلام حتى اليوم. ففي الماضي كانت المدينة تقع على طريق القوافل التجارية بين مصر والشام (رَ: الطرق). وقد استقر في الرملة كثير من التجار لازدهار الحركة التجارية في معظم العصور السابقة. وفي عهد الانتداب البريطاني كانت الرملة سوقاً تجارية للقرى التابعة لها تعرض فيها كثير من المنتجات الزراعية والحيوانية والصناعية. وقد أثر في الرملة وقوع مدينة اللد أكبر مدن القضاء بالقرب منها. واليوم تقدم سوق الرملة المحلية خدمات أساسية لسكان المستعمرات الصهيونية المجاورة وتستوعب منتجات هذه المستعمرات.

3) الوظيفة الزراعية: أثرت نشأة الرملة وسط إقليم زراعي في أهمية الوظيفة الزراعية للمدينة فكانت نسبة كبيرة من سكانها تعمل في الزراعة، ولا سيما زراعة الزيتون والحمضيات والحبوب والخضر*. وقد تحدث الرحالون الذين زاروا المدينة في القرون الماضية عن خصب أرضها ووفرة مياهها وتنوع محاصبلها الزراعية كالعنب* والرمان والتفاح والبرتقال والبطيخ والتين والنخيل والقمح* والبصل والقطن. وظهر أثر إنتاجها الزراعي الكبير في رواج الحركة التجارية في أسواقها كسوق القماحين الذي يتصل بسوق البطالين وسوق العطارين الذي يتصل بسوق البطالين وسوق القطانين والعطارين والحبالين والبقالين وغيرها من الأسواق التي تخصصت في بيع أنواع معينة من المحاصيل الزراعية.

بلغت مساحة الأراضي التابعة لمدينة الرملة في عام 1945 نحو 38.983 دونما منها 1.169 دونما للطرق والسكك الحديدية والأودية و185 دونماً ملكها الصهيونيون. وفي عام 1943 بلغ مجموع المساحات المغروسة أشجار زيتون نحو 7.420 دونماً، وأشجار برتقال نحو 3.663 دونماً. وتتوزع بقية المحاصيل الزراعية ينسب متفاوتة على الأرض المحيطة بالمدينة.

4) الوظيفة الصناعيةعرفت الرملة منذ القدم بعض الصناعات مثل صناعة الأقمشة القطنية والكنانية وغزل الصوف والبسط ومنتجات الألبان وزيت الزيتون والصابون* وغيرها. وفي فترة الانتداب تطور الانتاج الصناعي للمدينة رغم أنه بقي مقتصراً على الصناعات التقليدية والخفيفة. وكانت أهم منتجات الرملة الصناعية المصنوعات الغذائية والمنسوجات بأنواعها المختلفة (رَ: المواد الغذائية، صناعة، والنسيج، صناعة).

يعتمد اقتصاد المدينة في الوقت الحاضر على الصناعة* لوقوعها على طريق القدس يافا، وعلى ملتقى خطوط حديدبة تسهل نقل البضائع ونقل العمال من قراهم إلى المدينة وبالعكس. وتستفيد الصناعة في الرملة من قربها مياه أسدود*. كما أنها توظف آلاف العمال الذين يتوزعون على عشرات المصانع الكبيرة. وأهم منتجاتها الصناعية الاسمنت، ففيها أكبر مصنع للاسمنت في (إسرائيل)، ومنتجات الأخشاب، والأساليب المعدنية والمحركات، والثلاجات، والمنتجات المعدنية المتنوعة، والبيوت الجاهزة، والأطعمة المعلبة. وتتركز معظم المصانع داخل منطقتين صناعيتين في الرملة.

5) الوظيفة التعليمية: كان في الرملة أواخر العهد العثماني سبع مدارس معظمها أهلية. وفي أواخر عهد الانتداب اشتملت الرملة على مدرستين ثانويتين حكوميتين احداهما للبنين والثانية للبنات. بالإضافة إلى ثلاث مدارس ابتدائية، هي مدرسة بستان بلدية الرملة، والمدرسة الصلاحية، ومدرسة الإناث الوطنية. وكان في الرملة مدارس أخرى خاصة تقوم بنصيبها في الحركة التعليمية في مقدمتها المدرسة العباسية التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى*، ومدرسة الراهبات للبنات، ومدرسة تراسنطا اللاتينية. وفي عام 1946 بلغ مجموع طلبة المدارس في الرملة 2.482 طالباًز وقد تخرج من الرملة عدد من العلماء الذين ساهموا في تنشئة أجيال كثيرة من سكانها.


مدينة القدس المحتلة

تُعدّ مدينة القدس من أقدم مدن الأرض في التاريخ، فقد هُدمت وأعيد بناؤها أكثر من ثماني عشرة مرة. وترجع نشأتها إلى خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، حيث عمّرها الكنعانيون، وأعطوها اسمها، وفي عام ثلاثة آلا قبل الميلاد سكنها العرب اليبوسيون، وبنوا المدينة وأطلقوا عليها اسم مدينة السلام، نسبة إلى سالم أو شالم "إله السلام" عندهم. وقد ظهرت في هذه المدينة جماعة آمنت بالتوحيد، برعاية ملكها "ملكي صادق"، وقد وسّع هذا المللك المدينة، وأطلق عليها اسم "أورسالم" أي مدينة السلام.

راجع المقال التالي :  تاريخ القدس | القدس عبر التاريخ والعصور

مدينة اللد المحتلة

اللد 1932م

  اللد 1932م

تاريخ مدينة اللد

مدينة عربية ساهمت كغيرها من المدن العربية الفلسطينية في التصدي للعدوان الإسرائيلي عام 1948 وكانت مقاومة سكانها لهذا العدوان امتداداً لجهادهم خلال الثورات الفلسطينية على الاحتلال  البريطاني. ولكن القوات الإسرائيلية تمكنت في 11/7/1948 من اقتحام المدينة واحتلالها وطرد معظم سكانها العرب (رَ: اللد والرملة، معركة).

أ- الموقع الجغرافي: تقع اللد على مسافة 16 كم جنوبي شرق يافا* وأقل من 5 كم شمالي شرق الرملة*. وموقعها الجغرافي هام جداً. فهي ظهور شرقي لميناء يافا وبوابة غريبة لمدينة القدس* وتوأم لمدينة الرملة. ولذا كانت، وما تزال، عقدة مواصلات عظيمة الأهمية. فقد تعاقبت عليها أمم شتى للاستفادة من موقفها الاستراتيجي في السيطرة على المنطقة الساحلية من جهة، وللانطلاق إلى المنطقة الجبلية وغيرها من المناطق الداخلية من جهة أخرى. وكانت محطة للقوافل التجارية منذ أقدم الأزمنة. وهي اليوم عقدة مواصلات برية تلتقي عندها خطوط السكك الحديدية* والطرق* المعبدة. فمحطة اللد للسكة الحديدية تبعد عن محطة يافا 111كم، وعن محطة القدس 50 كم، وعن محطة بئر السبع 100 كم. كما أنشأت فيها سلطة الانتداب البريطاني أكبر مطار في فلسطين.

ب- الموضع: تقوم مدينة اللد فوق رقعة منبسطة من أرض السهل الساحلي* الفلسطيني ترتفع نحو 50 م عن سطح البحر. وتتألف أرضية المدينة من تكوينات صخرية رسوبية حديثة النشأة أهمها الطَفَل الطميي والطفل الرملي. وتسود التربة* الحمراء البنية الون التي تنتمي إلى مجموعة ترب البحر المتوسط الحمراء في السهل الساحلي الفلسطيني. وحول اللد أيضاً التربة الطميية البنية اللون التي ساهمت مياه الأمطار والأودية في نقلها من المرتفعات الجبلية في الشرق إلى سطح أراضي اللد.

وتعد تربة اللد من الترب الخصبة في فلسطين لتوافر المواد المعدنية والمواد العضوية فيها.

جـ- المناخ* والمياه: ومناخ اللد مناخ البحر المتوسط الحار الجاف صيفاً، الدافىء الممطر شتاء. ويتميز باعتداله على وجه العموم، إذ بلغ المتوسط السنوي لدرجات الحرارة نحو 19. وتتفاوت متوسطات درجات الحرارة من شهر لأخر بل خلال اليوم الواحد. ويعد شهر آب من أكثر الشهور ارتفاعاً. فمتوسط درجة الحرارة فيه بلغ 26 درجة مئوية، في حين يعد شهر كانون الثاني من أكثر شهور العام برودة وبلغ متوسطه 12 درجة مئوية. وتصل درجة الحرارة إلى قمتها حول الساعة الثانية بعد الظهر، وإلى أدناها حول الساعة الخامسة صباحاً، وتراوح بين 22 درجة مئوية و31 درجة مئوية شهر آب، وبين 9 و17 درجة في أيام شهر كانون الثاني. ويبلغ المعدل السنوي للرطوبة النسبية في اللد نحو 25%، وترتفع هذه الرطوبة إلى أكثر من 70% في شهر كانون الثاني. وتتدنى إلى نحو 50% في شهري نيسان وأيار.

يبلغ متوسط كمية الأمطار السنوية نحو 550 مم. وتزيد هذه الكمية على 650 مم في السنوات المطيرة، وتقل عن 350مم في السنوات الجافة. وعلى الرغم من تذبذب كميات الأمطار السنوية وعدم انتظامها فإنها تكفي لقيام زراعة ناجحة في منطقة اللد بسبب احتفاظ التربة بالرطوبة واعتدال المناخ. وتغذي الأمطار ومياه الأودية المنحدرة من المرتفعات الجبلية والفائضة بالمياه شتاء خزانات المياه الجوفية فتتوافر الآبار* حول اللد وتساهم مياها في ري الأراضي الزراعية والتسرب والأغراض المنزلية والصناعية. ويعد الوادي الكبير من أهم الأودية في منطقة اللد، فهو يفيض بالمياه عقب هطول الأمطار شتاء. وهو يمر من الطرف الشرقي بلدية اللد متجها نحو الشمال الغربي قريباً من الطرف الشرقي ليافا فيلتقي بنهر العوجا* الذي يصب في البحر المتوسط.

د- النشأة والتطور:

1) في عصر ما قبل التاريخ. تعود أقدم اشارة لنشاط الانسان في منطقة اللد الى العصر الحجري المتوسط قبل 12،000 نسمة. فقد عثر في عام 1928 على آثار مرحلة انتقال الانسان من عصر الكهوف والصيد في عصر القرى والزراعة في مغارة شقبة التي تقع في وادي البطوف على بعد عشرة كيلومترات من مدينة اللد. وقد سعي الآثاريون حضارة هذه المرحلة الانتقالية بالحضارة النطوفية. وفي العصر الحجري الحديث قامت قبيل 9.000 سنة في المكان الذي فيه مدينة اللد اليوم قرية زراعية، فقد عثر فيها وفي وادي رباح وأبو غوش باتاشي ومجدو* وتشكيم وغيرها على أوان فخارية من النوع الذي وجد سابقاً أثناء التنقيبات في موقع أريحا. وفي هذا العصر أيضاً تأسست في جوار مدينة الرملة قرية زراعية لا تبعد كثيراً عن اللد في موقع يسمى جازر تقع عليه اليوم قرية أبو شوشة*. وقد وجد في هذه القرية بقايا سور يحيط بها وبقايا حاملات زراعية وكسرات من أوان فخارية هشة الصنع. وترى صورة من قبر الفرعون انتيInti  من السلالة الخامسة بمصر حصار مدينة فلستية سماها نتياNetia  (رَ: العصور القديمة).

2) تأسيس اللد من قبل الفلسطينيين: لا يعرف بالضبط تاريخ تأسيس المدينة التي سميت اللد. ومن المحتمل أن يكون الفلستيون هم الذين أسسوا فوق أنقاض قرية أقدم عهدا يعود تاريخها للعصر الحجري الحديث، كما بنوا مدينة صقلع Ziklog واستوطنوها إضافة إلى استيطانهم خمس مدن كنعانية كانت قائمة آنذاك. وربما كانت تسميتهم لها اللد، أو لود، تخليداً لذكرى أقاربهم الليديين الذين استوطنوا سواحل آسيا الصغرى الايجية. وترد في العهد القديم إشارات إلى أرض الفلسطينيين التي كانت تشمل الساحل الفلسطيني بين يافا ووادي غزة* حيث وجد الفلسطينيون بكثافة في خمس مدن كنعانية هي غزة وعسقلان وأشدود وعقرون وجت. وجاء ذكر لود أكثر من مرة في العهد القديم. وقد جرت في منطقتها معارك شديدة بين أهل البلاد من الأيدوميين* والفلسطينيين والكنعانيين وبين المحتلين الجدد من العبرانيين*، منها الحروب مع آهاز التي كانت الغلبة فيها للأيدوميين والفلسطينيين وتحررت بعدها بيت شمس وتيمنا وكموز، والأخيرة هي قرية جمزو القريبة من اللد.

3) في العهد الروماني: سميت في العهد الاغريقي ليدا Lydda. وهذه التسمية قريبة جداً من اسم الليديين الإغريق في آسيا الصغرى. وأصبحت ليدا أحد الأقسام العشرة التي خصصت لجمع الضرائب* في العهد الروماني  زمن أغسطس. وفي هذا العهد تبدل أسمها وأصبحت تعرف بديوسبولس Diopolis. والأرجح أن تغيير الاسم حدث في سنة 202 ق.م. زمن الامبراطور سبتيموس سيفيروسSeptimus Severus . وبرزت أهمية ديوسبولس في بداية العهد المسيحي، ويقال ان القديس بطرس زارها مبشراً بالدين الجديد. ويذكر أن القديس جاورجيوس* ولد فيها من أب ثري متنفذ كان من كبار رجال الجيش في عهد الامبراطور ديوكلتيان. ولما شب جاورجيوس تنصر واعتنق المسيحية* وجاهر بها وبالدفاع عنها فأمر الامبراطور ديوكلتيان بفتله في سنة 303م. ولما اعتنق الامبراطور قسطنطين* الكبير (306 -337م) المسيحية بنى على قبر هذا الشهيد كنيسة تخليداً وتذكاراً له. وقد دمرت هذه الكنيسة أكثر من مرة أثناء الحروب الصليبية، وكان يعاد بناؤها أو ترميمها بعد كل تدمير. وكانت الكنيسة المذكورة الوحيدة في اللد قبل احتلال الصهيونيين لها في عام 1948، وهي من أملاك الروم الارثوذكس. وقد شيد على القسم منها في العهود الإسلامية جامع المدينة الحالي.

شاع احترام القديس جورج لدى المسيحيين والمسلمين الذين يسمونه الخضر. ويحتفل به المسيحيون والمسلمون على السواء في عيد خاص في اليوم السادس عشر من شهر تشرين الثاني من كل عام. وبالإضافة إلى هذه الكنيسة وجد في ديوسبولس مجمع كنسي في القرن الخامس. وكانت ديو سبولس في التقسيمات الإدارية للرزم البيزنطين ضمن فلسطين الأولى التي شملت القدس ونابلس ويافا وغزة وعسقلان وغيرها، ومركزها الرئيس مدينة قيصرية فلسطين.

4) بعد الفتح الإسلامي: فتح القائد عمرو بن العاص* هذه المدينة في خلافة أبي بكر الصديق (رضى) بعد أن تم له فتح غزة* ونابلس*. وقد اتخذت عاصمة لجند فلسطين إلى أن بنيت مدينة الرملة. وفضل العرب ذكرها باسم اللد. وهو الاسم القديم لها. وعندما بنى الأمير سليمان بن عبد الملك مدينة الرملة في عهد أخية الخليفة الوليد بن عبد الملك* نقل إليها الكثيرين من سكان مدينة اللد. وبالرغم من أن مدينة اللد ورد ذكرها في الكتب التاريخية والجغرافية العربية القديمة مثل الطبري والمقدسي والحموي وأبي الفداء فإنها لم تكن ذات أهمية بارزة. ولم تسلم من احتلال الصليبيين لها هي والرملة وهم في طريقهم إلى القدس في حزيران سنة 493هـ/1099م. وسميت اللد في عهدهم القديس جورج تيمناً بالقديس جاورجيوس المار ذكره. وعلى أثر معركة حطين* وفي سنة 583هـ/1187م عادت إلى أهلها ورأى صلاح الدين الأيوبي* بتدمير حصونها حتى لا يستفيد منها الصليبيون بقيادة ريكاردوس قلب الأسد اثر انتصاراتهم في عكا* وأرسوف*. وذكر أن مفاوضات الصلح بين ريكاردوس ملك الصليبيين والملك العادل نيابة عن أخيه صلاح الدين الأيوبي بدأت في اللد، ولكنها فشلت ولم يصل الطرفين إلى اتفاق وعادت اللد إلى سيطرة الصليبيين الذين احتفظوا بها إلى أن حررها الملك الظاهر بيبرس*. وقل شأن المدينة احتفظوا بها إلى أن حررها الملك الظاهر بيبرس*. وقل شأن المدينة بعد الكوارث التي حلت بها أثناء الحروب الصليبية، ثم أصبحت في عهد المماليك* مركزاً من مراكز البريد* بين دمشق وغزة.

5) العهد العثماني: وفي سنة 922هـ/1516م استولى العثمانيون في عهد السلطان سليم الأول على اللد وغيرها من مدن الشام وفلسطين. وقد أهمل شأنها في هذا العهد وتعرضت لمنا تعرضت له يافا والرملة من بؤس وشقاء. وفي القرن الثامن عشر زارها الرحالة الفرنسي فولني وقال عنها. “إنها عرفت في قديم الزمان بديوسبولس، وهي اليوم تشبه مكاناً أشعل فيه العدو النار. ومع ذلك تقام فيها سوق يتوافد إليها أهل القرى المجاورة لبيع القطن المغزول”. ويبدو أن اللد انتعشت قليلاً في القرن التاسع عشر. فقد ذكر الرحالة ثومسون الذي زارها أثناء الحكم المصري* للبلاد (1831-1840م) أنها قرية مزدهرة تحيط بها سهول خصبة غرست فيها أشجار الزيتون وأشجار أخرى. وأن الأرض الممتدة بينها وبين الرملة مملوءة بأشجار الزيتون. وقدر عدد سكان اللد عام 1912 نحو 7.000 نسمة. وكانت تشغل رقعة صغيرة المساحة تضم مئات المساكن البسيطة.

6) في عهد الانتداب البريطاني: وفي 15/10/1917 انتهى العهد العثماني بدأ عهد الحكم البريطاني الذي استمر واحد وثلاثين عاماً. وقد أخذت اللد تتوسع في هذه العهد نتيجة مرور خط  بسكة حديد القنطرة – حيفا منها منذ عام 1919. ونتيجة إنشاء مطار اللد عام 1936. وما حل عام 1945 حتى أصبحت  رقعة المدينة تشغل مساحة 3.855 دونماً.

بلغ عدد سكان اللد عام 1931، 11.250 نسمة كانوا يسكنون 2.475 بيتا. وفي عام 1946 قدر عدد السكان  بنحو 18.250 عربياً. والجدير بالذكر أن مدينة اللد كانت بين سنتي 1936 و1947 خالية من الصهيونيين.

7) في ظل الاحتلال الإسرائيلي: نتج عن الاحتلال الإسرائيلي لمدينة اللد في 11/7/1948 طرد معظم السكان العرب من مدينتهم وإجبارهم على الرحيل عنها. ولم يبق من السكان العرب الذين بلغ مجموعهم آنذاك نحو 19.000 سوى 1.052 عربياً. وفي نهاية عام 1949 بلغ عدد ساكني اللد 10.450 نسمة منهم 9.400 مهاجر يهودي استوطنوا المدينة. ومنذ ذلك الوقت أخذ عدد سكان اللد يتزايد بفعل تدفق المهاجرين اليهود. ففي عام 1966 بلغ العدد 25.000 نسمة، وزاد في عام 1969 إلى 28.000 نسمة منهم 2.900 عربي. وفي عام 1973 وصل عدد سكان اللد إلى 33.200 نسمة بينهم 3.400 عربي. وبلغ الأجمالي في عام 1983، 40.400 نسمة، ووصل عام 2001 إلى 69.000 نسمة.

وقد واكب نمو عدد سكان اللد نمو في عمرانها. وكان هذا يتجه في شكل محاور على طول الطرق المتفرعة من المدينة إلى المدن الأخرى. وعلى الرغم من الامتداد العمراني ونشوء ما يسمى بمدينة اللد الجديدة احتفظت اللد القديمة بطابعها الشرقي حتى اليوم. فهي تشتمل على المباني السكنية القديمة المحيطة بمنطقة النواة المركزية التي تضم الأسواق القديمة والمحلات التجارية. وأما اللد الجديدة التي ظهرت إلى الوجود بشكل عملي ملموس منذ بداية الخمسينات بعد تدفق المهاجرين اليهود للإقامة فيها فإنها من المدن العصرية التي تضم المباني السكنية الحديثة إلى جانب المحلات التجارية الكبيرة والمصانع التي أقيمت في المنطقة الصناعية.

هـ- التركيب الوظيفي للمدينة: تساهم مدينة اللد في ممارسة عدد من الوظائف التي تطورت حسب مراحل تطور المدينة، وهي:

1) الوظيفة الزراعية: تعد اللد بالدرجة الأولى مدينة زراعية لأنها قامت وسط أراض سهلية خصيبة تتوافر فيها مقومات الزراعة، فالأرض منبسطة تغطيها تربة البحر المتوسط الحمراء التي اختلطت بالتربة الرملية فأصبحت تربة طفلية تصلح الزراعة الحمضيات والزيتون. والمياه متوافرة، سواء مياه الأمطار الشتوية أو مياه الآبار والعيون. والمناخ معتدل والسكان نشيطون، والأسواق متوافرة، وطرق النقل ميسورة تربط بين أماكن الانتاج والتسويق، ولا سيما بين ميناء يافا ومنطقة اللد التي تعد ظهراً زراعياً غنياً له.

يبلغ مجموع مساحة الأراضي التابعة لمدينة اللد 19.868 دونماً منها 663 للطرق والأودية والخطوط الحديدية. ولا يملك الصهيونيون فيها شيئاً رغم اغتصابهم لها بعد 1948. وقد غرست الحمضيات في 3.217 دونماً موزعة على مجموعة كبيرة من البساتين (البيارات)، ومعتمدة على مياه الآبار الموجودة فيها. وكان يحيط باللد عام 1942 نحو 5.900 دونم مغروسة أشجار زيتون. وكذلك خصصت مساحات من أراضي اللد الزراعية للحبوب والخضر.

بدأت حكومة الكيان الصهيوني منذ أن احتلت اللد عام 1948 تستغل أراضيها بإقامة المستعمرات عليها وزراعة مختلف أنواع المحاصيل الزراعية فيها، ولا سيما الحمضيات والزيتون. وأهم المستعمرات الصهيونية التي أقيمت في ظاهر اللد مستعمرة “زيتان” في الشمال الغربي، ومستعمرة “ياجل” قرب المطار، ومستعمرة “أحيعزر” بينهما، ومستعمرة “جناتوه” الواقعة شرقي اللد.

2) الوظيفة التجارية: أثر الموقع الجغرافي الهام لمدينة اللد في زيادة رواج الحركة التجارية في المدينة. إذ تعج أسواقها يومياً بالحركة والنشاط بالإضافة إلى السوق الذي كان يعقد في منتصف الأسبوع ويجتمع فيه الآلاف من الباعة والمشترين لمختلف أنواع البضائع، ولا سيما المواشي. وساعد على ازدهار التجارة في اللد مركزية موقعها في وسط فلسطين عامة والسهل الساحلي خاصة بالإضافة إلى كون المدينة مركز تجمع لطرق المواصلات من مختلف أنحاء فلسطين، ومراكز عبور التجارة* بين الساحل والداخل. ولا غرابة في أن يزاول عدد كبير من سكان اللد حرقة التجارة، وأن يتعاملوا مع كثير من سكان القرى المجاورة ومع بعض التجار الذين يأتون إلى سوق اللد من القرى البعيدة.

وتعد اللد حالياً مركزاً تسويقياً للمستعمرات الصهيونية المجاورة، فيتم في أسواقها تبادل المنتجات الريفية ومنتجات المدينة، ولا سيما المنتجات الصناعية. وقد ساهم مطار اللد في ترويج الحركة السياحية داخل المدينة وأثر في زيادة عدد الفنادق ووكالات السياحة والسفر والمحلات التجارية وجعل من اللد منفذاً جوياً رئيساً لفلسطين إلى العالم الخارجي، يؤكد ذلك ارتفاع عدد المسافرين المارين بالمطار إلى أكثر من مليون مسافر حالياً.

3) الوظيفة الصناعية: كانت اللد مركز كثير من الصناعات القائمة على المحاصيل الزراعية التي تنتجها كالحمضيات والزيتون والحبوب ومختلف أنواع الخضر والفواكه. ويشتهر إقليم اللد أيضاً بثروته الحيوانية المتنوعة التي ساهمت في إنشاء الصناعات الغذائية. وقد أقام سكان اللد عدداً من الصناعات التقليدية الخفيفة. وكانت معظم المصانع صغيرة الحجم أقرب إلى “الورش” منها إلى المصانع. وأهم المنتجات الصناعية التقليدية التي كانت سائدة الصناعات الغذائية فطحن الحبوب والحلويات وزيت الزيتون ومنتجات الألبان إلى جانب صناعات أخرى كالصابون والجلود والأخشاب والمنسوجات واللبن ومواد البناء.

ويعد مطار الد أهم مصدر لتشغيل الأيدي العاملة الصناعية في المدينة لأنه يضم صناعة الطائرات وإصلاحها وصيانتها. وتنشط في اللد الصناعات الغذائية وصناعة الأدوات الكهربائية والسجاير والورق وتكرير النفط.

4) الوظيفة الثقافية: كان في اللد في أواخر العهد العثماني أربع مدارس إحداها مدرسة حكومية ابتدائية والأخرى مدارس خاصة بينها واحدة للبنات. وفي أواخر عهد الانتداب البريطاني اشتملت على مدرستين حكوميتين هما مدرسة اللد الثانوية للبنين ومدرسة بنات اللد الابتدائية. وكان مجموع تلاميذ المدرسة الثانوية عام 1948 نحو 1.046 تلميذاً موزعين على 19 صفاً. وقد ألحقت بالمدرسة أرض مساحتها نحو 14 دونماً منها 9 دونمات خصصت للتعليم الزراعي العملي. وأما عدد تلميذات المدرسة الابتدائية فقد بلغ عام 1948 نحو 387 تلميذة.

وفي اللد مدارس أخرى خاصة منها مدرستان للبنات فيهما 238 تلميذة، وسبع مدارس للبنين تضم 713 تلميذاً. وقد نتج عن انتشار التعليم في اللد ارتفاع مستوى السكان الثقافي.

 

مدينة صفد المحتلة

صفد 1937م

 صفد 1937م

تاريخ مدينة صفد

مدينة عربية، وقاعدة قضاء يحمل اسمها. وعاصمة الجليل* الأعلى، وأهم موقع فيه، وهي تحت ظل الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى الآن.

أ- الإطار الطبيعي لصفد:

1) الموقع الجغرافي: احتل موقع صفد، مكانة هامة عبر العصور التاريخية، ولم يزل. وكان لقلعتها الحصينة شأن عظيم أثناء خروب الفرنجة، بسبب إشرافها على الجزء الشمالي من إقليم الجليل، وعلى الطريق بين دمشق وعكا*، وقد حرصت الغزوات الحربية على احتلال صفد، تمهيداً للسيطرة على الجليل.

ولم يقل موقعها التجاري أهمية عن موقعها الاستراتيجي، فقد كانت صفد محطة من محطات البريد* بين الشام ومصر في عهد المماليك*. يأتيها البريد عن طريق غزة* واللد* وجنين* وحطين، ومنها إلى دمشق عبر جسر بنات يعقوب* على نهر الأردن*. كما كان الحمام الزاجل يأتي إليها من مصر متبعاً الطريق نفسها. وكانت في العهدين الروماني والإسلامي محطة على طريق القوافل التجارية بين الشام ومصر.

اختارت السلطات الحاكمة مدينة صفد مركزاً إدارياً لإقليم الجليل الأعلى، لموقعها الجغرافي الهام المتوسط. ففي عهد الانتداب البريطاني كانت صفد مقراً لإدارة الأقليم، ونقطة تجمع لطرق المواصلات التي تربطها بإقليم الجليل والأقاليم المجاورة في فلسطين وسورية ولبنان (رَ: الإدارة) وبالإضافة إلى الطرق* الرئيسة تنتشر طرق ثانوية تربط صفد بالقرى العربية المجاورة لها. وهي تبعد عن الحدود الشمالية لفلسطين مسافة 29 كم، وعن الخالصة*40 كم، وعن ترشيحا* 36 كم، وعن المحطة 48 كم، وعن حيفا* 74 كم، وعن اللد 165 كم، وعن يافا* 175 كم، وعن القدس* 206كم، وعن بئر السبع* 264كم.

2) أرض صفد: تقوم صفد فوق رقعة جبلية يتراوح ارتفاعها بين 790 و 840 م فوق سطح البحر. وتحيط بها من الشمال الغربي منطقة جبل صفد التي يتراوح بين 600 و820م. كما يمتد في شمال المدينة وشمالها الشرقي جبل كنعان، الذي يزيد ارتفاعه على 950م. وإلى الجنوب الشرقي من صفد تمتد منطقة الظاهرية الفوقا الجبلية. التي تهطل بحافة شديدة الانحدار على وادي الأردن المتوسط، في حين تقف جبال زيود والجرمق شامخة غرب صفد. لتمثل قممها أعلى قمم الجبال في فلسطين (1.100 – 1.200 م).

أقيمت صفد على عدة تلال تفصل بينها أودية تتجه نحو الجنوب. والتلة الشمالية الغربية. التي تعد امتداداً جنوباً لسفح جبل كنعان، هي أقدم بقعة معمورة في صفد. ولا شك أن عامل الحماية هو الدافع الرئيس لنشأة صفد القديمة. وقد امتدت المدينة بعدئذ نحو الجنوب، فأحاطت بقلعتها التي بناها العرب. وقد شيد حول صفد سور حصين وخندق عريض لحمايتها من أخطار المعتدين. غير أن المدينة امتدت بعمرانها خارج السور نتيجة زيادة عدد سكانها وتوسعها، حتى إن المباني شغلت الأودية، مثلما شغلت التلال والمنحدرات.

يحيط بمدينة صفد من الشمال أحد روافد وادي الليمون الذي يرفد وادي عمود*، الذي ينتهي في بحيرة طبرية*، وتبدأ بعض الأودية الرافدة لوادي عمود. من الجبال الممتدة في الطرف الجنوبي لصفد. وقد حذرت هذه الأودية لنفسها خوانق في المرتفعات الجبلية التي تتألف في الأصل من الصخور الكلسية. وتتعرض منطقة صفد للهزات الأرضية والزلازل* نتيجة عدم استقرار القشرة الأرضية ذات التكوينات الجيولوجية الحديثة، ووجود صدوع (انكسارات) معتمدة كان بعضها موضعاً لمسارات مجاري الأودية. ومن أشهر الزلازل التي تعرضت لها صفد زلزال سنة 1837، الذي راح صحبته كثير من سكان المدينة.

3) المناخ* والمياه: مناخ صفد ينتمي إلى مناخ البحر المتوسط. ويؤثر عامل الارتفاع في مناخ المدينة، إذ انعكست الطبيعة الجبلية للمدينة على مناخها، فجعلت منه مناخاً لطيفاً في الصيف، بارداً في الشتاء. وبذلك تعد صفد من مصايف فلسطين الجميلة، حيث تكسو الغابات مساحات من جبالها. فتكسب المنطقة جمالاً يشبه جمال منطقة رام الله*. ويتراوح متوسط درجة الحرارة في شهر آب ما بين نهاية دنيا تبلغ 18 وبين نهاية عظمى تبلغ 29، في حين يتراوح متوسط درجة الحرارة في شهر كانون الثاني ما بين نهاية دنيا تبلغ 4 وبين نهاية عظمى تبلغ 10.

وتهطل الأمطار بكميات كبيرة على مدينة صفد، فمتوسط كمية الأمطار السنوية نحو 728مم، وهي كمية كبيرة إذا قورنت بالكميات التي تتلقاها مدن فلسطين الأخرى. وتسقط الثلوج على صفد كل عام تقريباً. وهي كالأمطار، تساهم في تغذية خزانات المياه الجوفية بعد ذوبانها.

تتوافر المياه في منطقة صفد. وبخاصة مياه الينابيع التي تستخدم لأغراض الشرب والري. وتكثر الينابيع في المنخفضات وبطون الأودية وعلى طول أقدام الجبال والصدوع (الانكسارات). ومن العيون المشهورة، عين العافية وعين الحاصل وعين الزرقاء وعين الجن وعين التبنة (رَ: عيون الماء).ويتأتي الماء إلى صفد من منبعين ينبثقان شرق صفد، ويسميان عين الرمانة وعين اللبوية. أما الآبار* فيتراوح عددها بين 20 و30 بئراً، ويكلف حفرها كثيراً بسبب عمق خزانات مياهها الجوفية. وتعتمد الزراعة* على مياه الأمطار الكافية لنمو جميع أنواع المحاصيل.

ب- النشأة والنمو: تأسست مدينة صفد. على غرار كثير من مدن فلسطين الأخرى في العهود التاريخية المبكرة، على يد الكنعانيين. اسمها القديم “صفت” أي العطاء أو الوثاق. وكانت عند تأسيسها قرية صغيرة ضئيلة الشأن، وظلت كذلك حقباً طويلة من الزمن. احتلها الرومان وكانت فيها قلعة حصينة في عهودهم. ولم يكن لها شأن عظيم في صدر الإسلام، ولم يرد لها ذكر في الفتوحات العربية الأولى، ويعود أقدم ذكر لها إلى القرن العاشر الميلادي.

برزت مدينة صفد بشكل واضح بين أحداث الحروب الصليبية، إذ احتلها الصليبيون في سنة 536 هـ/1140م وبنوا فيها حصناً للدفاع عن الساحل الذي غزوه أمام هجمات أمراء دمشق والأيوبيين (رَ: الفرنجة). وفي سنة 553هـ/ 1157م التجأ بخدوين الثالث ملك الصليبيين إلى هذا الحصن اثر اندحار جيشه أمام جنود الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي* عند موقع الملاحة* فلما انتصر صلاح الدين الأيوبي* في معركة حطين* سنة 583هـ/1187م حاصر مدينة  صفد، وتولى هو زمام القتال، وأفلح في الاستيلاء على المدينة والحصن في سنة 586هـ/ 1189م. وفي سنة 618هـ/1220م دمر المسلمون الحصن خشية استيلاء الصليبيين عليه مرة أخرى. وفي سنة 639هـ/1240م عادت صفد إلى حكم الصليبيين، وبنوا فيها الحصن مرة أخرى وظلت بأيديهم إلى أن حمل السلطان الظاهر بيبرس على الحصن، واستولى عليه، واسترده من الصليبيين في سنة 667هـ/ 1267م. وبنى الملك بيبرس* مسجداً في الحصن، وجدد مباني مدينة صفد وغمرها بعد أن تحررت من سيطرة الغزاة. وظلت صفد في عهد المماليك مركزاً له شأنه، وأصبحت قصة إحدى النيابات السورية التي ضمت مدن الجليل جميعها ومدينة عكا أيضاً. وفقدت مدينة صفد بعد هذا التاريخ أهميتها بالتدرج إلى أن استسلمت مع مدن فلسطين الأخرى للعثمانيين زمن السلطان سليم بدون حرب في سنة 923هـ/ 1517م، وأصبحت قصبة سنجق، تتبعه مدن الجليل ومدينة عكا وصور (رَ: الإدارة). وفي القرن السابع عشر احتل الأمير فخر الدين بن قرقماز* المعني الثاني مكانة هامة في الجليل. واتخذ صفد حصنا لحماية أملاكه فيها. ولكن الأتراك قضوا عليه فتأسست بعد ذلك إمارة للشهابيين، وعين الشهابيون عمر بن زيدان شيخاً على صفد لمساعدتهم. واتسع نفوذ الشيخ عمر على مر الأيام وفي سنة 1164هـ/1750م استقل ابنه الشيخ ظاهر العمر* عن الشهابيين، واتخذ من مدينة عكا مقراً له. وفي عهد الشيخ ظاهر نشطت الزراعة والتجارة* والعمارة. وشعر الناس بالأمان. وفي سنة 1173هـ/ 1759م أصبحت مدينة صفد زلزال كاد يأتي على سكانها ومبانيها. وفي سنة 1182هـ/1768 م أصبح الشيخ ظاهر العمر أميراً على الجليل. وحكم صفد وعكا والناصرة، وحاول أن يستقل عن الدولة العثمانية. ولكنه اغتيل. وحكم صفد بعده الوالي التركي أحمد باشا الجزار*. وقبل أن يحاصر نابليون عكا اضطر إلى احتلال صفد أولاً في سنة 1214هـ/ 1799م. ولكنه لقي من الوالي أحمد باشا الجزار بمساعدة الأسطول الانكليزي مقاومة عنيفة. فأخفق في تحقيق أهدافه من حملته العسكرية، وانسحبت قواته من الشام وفلسطين (رَ: الحملة الفرنسية).

كانت صفد في أوائل القرن السابع عشر مدينة زاهرة، وقد شاهدها الرحالة السويسري بركهارت أثناء مروره بها في سنة 1227هـ/1812، ووجدها بلدة منبعة تقع حول تل في أعلاه قلعة، ويحيط بها سور وخندق، وتكتفها مزارع الزيتون والكروم، ويشتغل أهلها بصنع النيلة ونسج الأقمشة القطنية، وكانت تقام فيها سوق للقرويين المجاورين في كل يوم جمعة. وفي سنة 1235هـ/ 1819م أصابها زلزال آخر الحق بها أضراراً بالغة. وفي سنة 1248هـ/ 1833م احتلها إبراهيم باشا نجل والي مصر. وفي سنة 1253هـ/ 1837م أصابها زلزال ثالث تحولت المدينة بعده إلى قرية صغيرة بسبب التدمير الشامل الذي تعرضت له. وفي سنة 1257هـ/1841م عادت إلى الحكم العثماني، وفي سنة 1304هـ/1886م أصبحت صفد مركزاً لقضاء في سنجق عكا. وشهدت في هذا الوقت بعض التقدم العمراني. وفي سنة 1918م احتلها الإنكليز أثناء الحرب العالمية الأولى.

ضم قضاء صفد في عهد الانتداب البريطاني أكثر من ستين قرية عربية أهمها آبل القمح* وبيريا* والبويزية*والخالصة والجاعونة* والزوق التحتاني* والريحانية* وسعسع* والشونة* والصالحية* والصفصاف* والعزيزات* وعكبرة وعلما* وعين الزيتون* وقدس* وقديتا* والملاحة* والمنصورة* والناعمة* وهونين* وطوبى الشمالية وكفر برعم* وجاحولة* والبدوارة* وطبطيا* وخيام الوليد* والزنغرية* وغيرها. وكانت هذه عشائر عربية تقيم في هذه القرى أو في جوارها، أهمها عرب الغوارنة الذين استوطنوا الخالصة والقرى المجاورة لها، وعرب الهيب وعرب الشمالية وعرب كعوش وعرب المحمدات وعرب السيادة.

كان مجموع سكان صفد عام 1908 نحو 10.000 نسمة. وضمت خلال الحرب العالمية الأولى 4.000 بيت و12.000 نسمة. وقد اشتملت المدينة على أحياء متعددة، ثلاثة منها ممتدة على سفح جبل كنعان. ومن أحيائها الاكراد والديانة والجورة والقلعة والبرج والصواوين وجامع الأحمر والوطاة والسوق. وأحسن الأحياء عمراناً حي القلعة الذي اشتمل على نحو 100 منزل حديث. وباستثناء ما يقرب من 400 بيت آجرية السقوف، حديثة الطراز، فإن بقية بيوت صفد مبنية على الطراز القديم بالحجارة البيضاء، ومتلاصقة بعضها ببعض. وتتألف أكثر بيوت صفد من طابق واحد. وقد اكسبت الأبنية الجديدة مدينة صفد جمالاً عمرانياً ملحوظاً.

يشتمل وسط مدينة صفد على الأسواق التي ضمت 80 محلاً تجارياً. وفيه الجوامع، وأهمها جامع اليونسي والجامع الأحمر وجامع السويقة وجامع الجوقنداري وجامع سيدنا يعقوب وجامع خفاجة (رَ: الجوامع والمساجد). كذلك توجد في وسط المدينة دار الحكومة والمشفى وبعض المكاتب الحكومية. ويتخذ مخطط صفد شكلاً دائرياً، أو شبه دائري. بمعنى أن الشوارع تحيط بقلب المدينة في أشكال دائرية، فيمثل وسط المدينة البؤرة التي تصب عليها شوارع المدينة من الأطراف. ولا شك في أن الطبيعة الجبلية لأرض صفد فرضت على المخطط مثل هذا الشكل الدائري الشعاعي.

احتفظت صفد في عهد الانتداب البريطاني بشكلها العام. رغم تطور نموها السكاني والعمراني. ففي عام 1922 بلغ عدد سكان المدينة 8.761 نسمة. وهو أقل ما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها. ويعزى هبوط عدد السكان إلى الظروف السيئة التي مرت بها المدينة خلال الحرب، إذ تعرض كثير من سكانها للأمراض والمجاعات. وهاجر بعضهم منها إلى الخارج ابتغاء الرزق الواسع. وبعد أن اسقر الوضع قليلاً في المدينة أخد حجمها يتزايد تدرجاً، فارتفع عدد سكانها في عام 1931 إلى 9.441 نسمة، كانوا يقيمون في 2.126 بيتاً. وفي عام 1945 وصل عدد السكان إلى11.930 نسمة، وقدر عددهم في أواخر الانتداب بنحو 13.386 نسمة.

توسع امتداد صفد العمراني، إذ بلغت مساحتها عام 1945 نحو 1.429 دونماً. وكانت بلدية صفد تشرف على شؤون المدينة وتنظيمها الهندسي. وقد تضاعفت نفقات البلدية من 2.196 ج.ف. عام 1927 إلى 5.102 ج .ف. عام 1944. وأعطت البلدية 98 رخصة بناء عام 1935، و113 رخصة بناء عام 1944. وقد ساهمت في تنفيذ المشروعات الحيوية، كمشروعات المياه والكهرباء والشوارع والمدارس وغيرها. وظهر أثر نشاطها في إقامة الأسواق والفنادق والمقاهي والنوادي والمتنزهات.

تركز السكان العرب في الجزئين الشرقي والجنوبي من المدينة، وتركز اليهود في الجزء الغربي منها. وقد جاهد العرب لتحرير مدينتهم من المستوطنين الصهيونين طوال فترة الانتداب، ووصل جهادهم إلى ذروته في حرب 1948*. لكن الصهيونيين تمكنوا من السيطرة على الموقف، واحتلال صفد بتاريخ 12/5/1948 (رَ: صفد، معركة). ونتج عن الحرب ترحيل معظم السكان العرب من صفد، فانخفض عدد سكانها إلى 2.317 نسمة في أواخر عام 1948. وما لبث أن ارتفع عدد السكان بقدوم المستوطنين الصهيونيين إليها بصورة مطردة، فوصل عددهم إلى 4.000 صهيوني في أواخر عام 1949، وإلى 5.500 في أواخر عام 1950، ثم قفز عددهم إلى 15.900 في عام 1983. وقد بنيت ضاحية سكن جديدة شرقي صفد فيما بلغ عام 2001 25.000 ألف نسمة.

ج- التركيب الوظيفي لصفد: ساهمت صفد، منذ نشأتها الأولى، في وظائف قليلة، كالوظائف العسكرية والتجارية والزراعية ثم تطورت المدينة بمرور الزمن، فكبر حجمها، توسعت مساحتها، وتنوعت وظائفها.

1) الوظيفة العسكرية: مارست صفد وظيفتها العسكرية منذ نشأتها، بحكم وضعها الطبوغرافي الذي يسهل مهمة الدفاع والحماية من أخطار المعتدين. وبحكم موقعها الجغرافي الذي يجعلها تطل على المناطق المجاورة.وتشرف على المنافذ الطبيعية. وتتحكم في الطرق المؤدية إلى تلك المناطق. فهي تشرف على سهل الحولة* في الشمال، وعلى بحيرة طبرية في الجنوب الشرقي، وتتحكم من الغرب في طريق عكا – الرامة – فراضية، وتسيطر على الطرق المؤدية إلى الحدود الشمالية لفلسطين. لهذا السبب حرصت (إسرائيل) على احتلالها في بداية حرب 1948، لتتمكن من السيطرة على الجليل بأكمله.

3) الوظيفة الإدارية: كانت المدينة مركزاً لقضاء صفد في العهدين العثماني والبريطاني. وقد ضم قضاء صفد منذ عام 1899 وحتى أواخر العهد العثماني 78 مزرعة وقرية. وفي العهد البريطاني ضم القضاء المذكور مدينة صفد و69 قرية. فضلاً عن عشائر عربية متعددة كانت تقيم بجوار بعض القرى. وفي أواخر العهد العثماني بلغت مساحة قضاء صفد 750 كم2، وأصبحت مساحته عام 1945 نحو 696كم2.

بلغ عدد سكان صفد عام 1904 م نحو 22.715 نسمة. وزاد عددهم عام 1908 فوصل إلى 26.113. وفي أواخر العهد العثماني ارتفع عددهم إلى 32.137. وفي عام 1922 انخفض عدد سكان قضاء صفد إلى 22.790 نسمة. ثم عاد فارتفع إلى 39.713 نسمة عام 1931. وفي عام 1945 قدر عددهم بنحو 53.620 نسمة. وكانت كثافة السكان تعدل 77 نسمة في الـ كم2.

أشرف على إدارة الحكومة في صفد أيام الانتداب قائمقام عربي تابع لحاكم اللواء في الناصرة*. وضمت المدينة محاكم ودوائر حكومة للزراعة والصحة والبريد والأراضي. أما المدارس فكانت تابعة لمفتش المعارف في حيفا. وكان يشرف على الأمن العام أفراد الشرطة* الفلسطينية برئاسة مفتش بريطاني. وقد استفاد سكان القضاء من الخدمات الإدارية التي قدمتها صفد لهم طوال فترة الانتداب البريطاني. لكن الوضع تغير بعد عام 1948، إذ أصبحت صفد مركزاً لقضاء في المقاطعة الشمالية، نبعته مجموعة من المستعمرات اليهودية التي أقيم معظمها على أراضي القرى العربية المدمرة.

3) الوظيفة الزراعية: تصلح الأراضي الجبلية المحيطة بصفد لزراعة القطاني والعنب والزيتون والتبغ. وتحيط بالمدينة بساتين الأشجار المثمرة كالعنب والزيتون على منحدرات الجبال. أما الحبوب والخضر وبعض أنواع الفواكه فإنها تنتشر في المنخفضات وبطون الأودية. وتجود زراعة الليمون الحلو في وادي الليمون الواقع في المنحدرات الغربية للمدينة، ويعرف أيضاً بوادي الطواحين.

ويمتد في الجنوب الشرقي من صفد وادي الحمراء الذي يمتلىء بالبساتين، ويزود المدينة بنصف حاجاتها من الفواكه والخضر. ولا سيما التوت والخوح والرمان والبندورة. وكانت صفد تستمد بقية المنتجات الزراعية التي تحتاج إليها من القرى العربية المجاورة لها. وأهم المحصولات الزراعية التي ينتجها قضاء صفد الزيتون والعنب والتين والبطيخ والمشمش والبرقوق والخوخ والكشمري والبرتقال والقمح* والشعير والذرة وأنواع الخضر المختلفة.

4) الوظيفة التجارية: كانت صفد محطة لمرور القوافي التجارية في القديم، وهي مركز تسويقي لمنتجات إقليمها الزراعية والحيوانية، ومركز تجاري يجد فيه القرويون ما يطلبون من المواد التموينية والأقمشة والملبوسات والأدوات الكهربائية والمنزلية … إلخ. وكانت أسواق صفد تغص بالمنتجات الزراعية والحيوانية والغابية. كالبندورة والعنب والتين والليمون والقمح وأنواع البقول المختلفة، ومنتجات الألبان والفحم والحطب وغيرها. وبالإضافة إلى هذه الأسواق كانت تقام سوق رئيسة كل يوم جمعة. يؤمها عدد كثير من سكان الإقليم لتبادل المنتجات المختلفة.

ومما شجع الحركة التجارية في صفد كونها مركزاً سياحياً ومصيفاً مشهوراً من مصايف فلسطين، فهي تشبه بالمقومات السياحية، كالمناظر الطبيعية الجميلة كالأشجار الباسقة وعيون الماء*. والأماكن الأثرية والتاريخية. لذا تكثر فيها الفنادق والمحلات التجارية التي تروج الحركة التجارية. وتنشط وسائل المواصلات المختلفة (رَ: السياحة).

كان معظم السكان العرب في صفد يشتغلون بالتجارة ويحترفون البيع. قبل احتلال (إسرائيل) للمدينة عام 1948.

5) الوظيفة الصناعية: عرفت صفد بعض الصناعات منذ القديم، إذ نشأت فيها صناعة اللباد معتمدة على الأصواف التي توفرها أغنام المنطقة، وخلال القرن التاسع عشر، كانت الصباغة بالنيلة ونسج الأقمشة القطنية، مهن الأهالي الرئيسة في صفد. وفي عهد الانتداب البريطاني أضيفت إلى الصناعات السابقة صناعات جديدة كالصناعات الغذائية (رَ: المواد الغذائية، صناعة) والخشبية والجلدية وصناعة الخضر والكراسي من نباتات سهل الحولة المائية، وغيرها من الصناعات الخفيفة التقليدية.

تطورت الصناعة* في صفد بعد عام 1948 عندما حولها المحتلون الصهيونيون مدينة صناعية لتثبيت أقدام أبناء الجيل الجديد منهم فيها. وبالرغم من ذلك فإن الجيل الجديد من أبناء اليهود الذين ولدوا في صفد (الصابرا). عزفوا عن سكنى المدينة، وأخذوا ينزحون عنها. ومن أهم صناعات صفد الصناعات الغذائية، كالحلويات والشكولاته والماصة (الخبز اليهودي غير المحمر) والقهوة وغيرها. وتوجد فيها صناعات الدخان وآلات الخياطة والمواقد والدراجات وتقطيع الماس (رَ: الألماس، صناعة) والمنسوجات والألبسة والطباعة ومواد البناء. وتأتي السياحة في رأس صناعات المدينة، ولا سيما في جبل كنعان، المصيف المزدهر.

6) الوظيفة التعليمية: تـأسست المدرسة الرشدية في صفد عام 1880م. وضمت في أواخر القرن التاسع عشر 30 تلميذاً. وكان للإنكليز مدرسة إعدادية ضمت في الوقت نفسه 50 تلميذا. وفي الحرب العالمية الأولى بلغ عدد المدارس في مركز القضاء وفي جميع ملحقاته عشر مدارس رسمية و26 مدرسة غير رسمية، منها في صفد ثلاث مدارس للذكور ومدرسة واحدة للإناث. وضمت هذه المدارس 280 تلميذاً و150 تلميذة.

تطور التعليم في صفد خلال فترة الانتداب البريطاني، ففي العام الدراسي 1942/ 1943 اشتملت صفد على ثلاث مدارس للبنين (مدرستين ابتدائيتين ومدرسة ثانوية) ومدرسة للإناث. وضمت جميع هذه المدارس 805 تلاميذ، يعلمهم 24 معلماً، و319 تلميذة تعلمهن 11 معلمة. وفي العام الدراسي 1946/1947 كان في صفد ثلاث مدارس للبنين ومدرستان للإناث، وبلغ مجموع تلاميذ هذه المدارس الخمس في تشرين الأول 1947 قرابة الألفين. واشتهرت صفد بكليتها الاسكتلندية التي كان لها فضل تعليم اللغة الإنكليزية والرياضيات، ولكنها انتقلت بعد الحرب العالمية الثانية إلى مدينة حيفا (رَ: التربية والتعليم).

أثر تقدم التعليم في ارتفاع المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لسكان صفد. وقد ساهم المتعلمون من أبناء المدينة مساهمة إيجابية في تربية أبناء المدن والقرى الفلسطينية الأخرى وتعليمهم. كما ساهموا في نشر الثقافة والوعي بين أبناء صفد، مما كان له أثر إيجابي في كفاحهم الاستعمارين البريطاني والصهيوني في فلسطين.

 

مدينة يافا المحتلة

يافا 1937
 يافا 1937

تاريخ مدينة يافا

مدينة عربية فلسطينية تقع على الساحل الشرقي للبحر المتوسط. وقد تعرضت للاحتلال الصهيوني منذ عام 1948.

أ- الاطار الطبيعي:

1) الموقع الجغرافي: تقع مدينة يافا على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط إلى الجنوب من مصب نهر العوجا* بنحو 7 كم، وإلى الشمال الغربي من مدينة القدس* بنحو 60 كم. ولموقعها أهمية خاصة لأنها تطل على البحر المتوسط ذي المياه الدافئة والهادئة نسبيا. فهي احدى نوافذ فلسطين على البحر المتوسط، في هي احدى البوابات الرئيسة الغربية لفلسطين. وعبرها يتم اتصال فلسطين بدول حوض البحر المتوسط والدول الأوروبية والافريقية والأمريكية. وقد كان ليافا منذ القديم دور كبير في ربط فلسطين بالعالم فكانت محطة رئيسية تتلاقى فيها بضائع الشرق والغرب، وكانت جسر عبور للقوافل التجارية بين مصر وبلاد الشام لأنها في منتصف السهل الساحلي* الفلسطيني الذي يعد من أكثر الطرق* التجارية يسرا وسهولة وأمنا. وعلاوة على ذلك كان السهل الساحلي معبرا مفضلا للغزوات الحربية والجيوش المتجهة نحو مصر جنوبا، أو نحو بلاد الشام شمالا وشرقا.

أدى افتتاح ميناء يافا عام 1936 إلى ازدهار المدينة ونشاطها الاقتصادي فشهدت حركة تجارية متقطعة النظير. وكانت تخدم ظهيرها القريب الذي يقع خلفها مباشرة ويتمثل في السهل الساحلي الغني بموارده الزراعية والبشرية. وتخدم ظهيرها البعيد المتمثل في الجزء الشرقي من فلسطين وفي بلاد شرق الأردن والعراق.

ومما ساعد على نمو يافا وازدياد نشاطها الاقتصادي كونها عقدة مواصلات برية وبحرية. فطريق السهل الساحلي الرئيسة المعبدة وخط سكة حديد القنطرة – رفح – حيفا يمران بها. وهي ترتبط بالقدس عبر مدينتي اللد* والرملة* بطريق رئيسة معبدة وخط للسكة الحديدية. وتربطها طريق معبدة رئيسة أخرى بئر السبع والخليل* وخليج العقبة*. وكانت ترسو في مينائها مئات البواخر سنويا لشحن البضائع وتفريغها. ولكن الاحتلال الصهيوني ليافا عمل على اهمال مينائها إلى أن أغلق نهائيا في تشرين الثاني 1965.

2) طبيعة أرض يافا: أنشئت مدينة يافا وسط اقليم السهل الساحلي على ربوة ترتفع نحو 32 م عن سطح البحر وتنحدر اليه بشدة وببطء إلى السهول الخصبة المجاورة لها. ويمتاز اقليمها بانبساط أرضه وخصب تربته وتوافر مياهه واعتدال مناخه واستقاة ساحله. ولا يستبعد أن تكون الاستقامة ناجمة عن ارتفاع الأرض اليابسة وتراجع مياه البحر. وتتفاوت طبيعة ساحل يافا المستقيم وما بين جروف صخرية ينتصب بعضها فيعلو نحو 35 م عن سطح البحر (حيث موضع مدينة يافا) وشواطىء رملية ضحلة تكتنفها المستنقعات عند مصبات بعض المجاري المائية. ويمتد مياه يافا على ساحل مكشوف تتخلله صخور خطرة تحتم على البواخر أن ترسو بعيدا عنه.

تتألف الأرض التي تقع عليها يافا والمنطقة المحيطة بها من تكوينات الحقبة الرابعة. وقد تجمعت في العصر الحديث من اختلاط الرمال التي تدفعها أمواج البحر المتوسط نحو الشرق بالطمي الذي تنقله الأودية المنحدرة من المرتفعات الجبلية وترسبه في السهل الساحلي. ونشأ من هذا التمازج في المواد الأصلية ما يعرف بتربة البحر المتوسط الحمراء. وتعد هذه التربة* الطفلية لقوامها وتركيبها من أخصب الترب في فلسطين. وهي مساحة لزراعة جميع أنواع المحاصيل الزراعية بصفة عامة، وللحمضيات بصفة خاصة. وتتوافر هذه التربة ميزة التهوية وجودة الصرف.

يجري في أراضي يافا الشمالية نهر العوجا الذي يصب في البحر المتوسط شمالها بنحو 7 كم. ويطلق على مجراه الأدنى قبل مصبه في البحر اسم نهر جريشة. وتمتد على جوانب النهر بساتين الحمضيات الجميلة التي جعلت من هذه البقعة منتزها محليا لسكان يافا يؤمونه في عطل نهاية الأسبوع وأثناء المناسبات والأعياد. وبالاضافة إلى المياه السطحية المتوافرة في نهر العوجا تتوافر في اقليم يافا المياه الجوفية. وقد حفر الأهالي مئات الآبار في أراضيهم الزراعية المجاورة. ولكن الضخ الجائر لمياه الآبار* في أواخر عهد الانتداب عرض بعضها هبوط مستويات مياها وتملحها. وبالرغم من ذلك ظلت المياه الجوفية تتدفق بغزارة وعذوبة وتساهم في تزويد المنطقة بمياه الشرب والري. وتوجد المياه فيها على أعماق مختلفة يزيد معظمها على 20م.

3) المناخ*: تتبع يافا مناخ البحر المتوسط ذا الحرارة المعتدلة نسبيا. وتراوح درجات الحرارة في شهر آب بين حد أدنى قدره 22 وحد أعلة قدره 31درجة مئوية. في حين تراوح درجات الحرارة في شهر كانون بين 8 درجة مئوية و18 درجة مئوية. ويندر أن يحدث الصقيع أو يسقط الثلج في منطقة يافا، الأمر الذي يساعد أشجار الحمضيات على النمو ويحفظها من أخطار الصقيع.

وتهطل أمطار يافا خلال النصف الشتوي من السنة، بين شهري تشرين الأول ونيسان، بسبب ما تتعرض له من منخفضات جوية وأعاصير ورياح غربية.ويتجاوز متوسط كميتها السنوية 500 مم. ولكن الأمطار تتباين بشدة من سنة لأخرى. فقد هطل أعظم متوسط سنوي، وهو 880مم، في عام 1927/1929، وأدنى متوسط، وهو 308 مم، في عام 1932/1933. ويضاف إلى كمية الأمطار ما يتكاثف من ندى خلال 200 ليلة في كل سنة تقريبا، وتبلغ حصيلة الأرض من ماء هذا الندى قرابة 30مم.

والرطوبة النسبية في مدينة يافا عالية صيفا وشتاء. فمعدلها لكل من آب وكانون الثاني قرابة 73%. وينسب ارتفاع معدل الرطوبة النسبية، ولا سيما في أشهر الصيف. مضايقات شديدة للسكان.

ب- النشأة والنمو: أكتسب الموقع الجغرافي مدينة يافا أهمية خربية وتجارية وزراعية بالاضافة إلى ما تثيره في الأذهان من ذكريات دينية. وكانت على مر التاريخ معبرا للغزاة والتجار والحجاج، بل كانت بابا لفسطين ومدخلا إلى القدس. فقد تطلعت اليها دول وأقوام كثيرة وحوصرت وفتحت وخربت وأعيد بناؤها مرارا. ويصور تاريخها بشكل عام تاريخ الميلاد بكل دقائقه.

1) اسم المدينة: يافا تحريف لكلمة “يافي Yafi” الكنعانية أي الجميلة. وقد جاء ذكر الاسم بلفظ “يابو “Ya-Pu أو باللغة البابلية والخط المسماري. وقد عرفها اليهود باسم “يافو Yafo” تحريفا للاسم الكنعاني. وبدل اليونان اسمها فدعوها “جوبيJoppe”. وجاءت “يافا” في بعض الكتب العربية. وأطلق عليها الفرنجة* ايام الحروب الصليبية اسم “جافا Jaffa “.

2) تاريخ المدينة القديم (4000- 2500 ق.م.): أصبح ساحل فلسطين في بداية الألف الرابع قبل الميلاد مأهولا بالسكان الذين بدت لهم رابية يافا موقعا مثاليا للاستيطان الدائم لأنها على الطرف الجنوبي للغابات التي كانت تغطي القسم الشمالي من الساحل البحري وراء مجرى نهر العوجا حيث تتوافر الحجارة والأخشاب والمياه المعدنية والغذاء الكافي.

ومنذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد بدأت هجرة الموجات السامية من الجزيرة العربية نحو غربي آسيا. ويعود بناء مدينة يافا إلى الموجة الثالثة التي غطت الساحل السوري. وكانت كسائر المدن الكنعانية مملكة بحد ذاتها تألف من  قلعة في أعلى الرابية فيها قصر الملك وأماكن العبادة، ومجموعة غير منظمة من البيوت الحجرية الصغيرة على المنحدر باتجاه الساحل تحيط بها سور حجري قوي تدعمه أبراج وله بوابة واحدة.

وإلى جانب الصيد والزراعة ظهرت بعض الصناعات المبكرة في يافا كالغزل والنسيج وعصر الزيت والخمور وصناعة الفخار*. وبدأت بتقدم بناء السفن علاقات التجارة مع مصر وسواحل آسيا الصغرى وجزر بحر ايجة فظهرت تأثيرات الفن المصري والايجي في يافا ومدن الساحل الفلسطيني واستبدل بالحجر النحاس والبرونز المستوردان لصناعة السلاح. ولا يعرف ما اذا كانت الفتوحات السومرية والبابلية في الألف قبل الميلاد قد وصلت جنوبا حتى يافا. ولكن حاكم يافا بعد ذلك يقرون كان يستخدم اللغة البابلية والخط المسماري في رسالته إلى ملك مصر.

3) خلال العصر المصري في فلسطين (2500-853 ق.م.): يظن أن يافا أصبحت القاعدة البحرية التي ينتقل اليها الجنود من مصر. وقد ذكرت ضمن 113 مدينة احتلها تحتمس الثالث* (القرن 15 ق.م.). وظلت تحت السيطرة المصرية حتى في فترة غزو الخابيرو* للبلاد ( أوائل القرن 14 ق.م.) فكانت قلعة هامة ومركز حامية مصرية، وكان يحكمها أمير مجلي باسم فرعون مصر.

ازدهرت أحوال يافا بعد انتصار رعمسيس الثاني على الحثيين* (النصف الأول من القرن 13 ق.م.) وعرف عمالها بالمهارة، وأهلها بالغنى، واشتهرت حدائقها بالجمال وجودة الثمار.

تمكنت القبائل العبرانية التي عبرت نهر الأردن* بقيادة بوضع  بعد عام 1205 ق.م. من احتلال يافا. وكان اليهود الذين نزلوها بنوا فلم يستطيعوا العيش مع سكان المدينة المتحضرين.

وفي الفترة نفسها ظهر الفلسطينيون على أبواب يافا في طريقهم إلى غزو مصر فاستطاع رعمسيس الثالث أن يهزمهم. وربما يكون قد جمع سفنه عند يافا التي طلبت مركز حامية مصرية ترتبط بمصر مباشرة، ونقطة مراقبة، وقاعدة انزال للقوات عند الضرورة. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين كانوا قد أصبحوا ساميين بلغتهم وعاداتهم وديناتهم فان المدن الساحلية، ومنها يافا، ظلت أكثر تقبلا للتأثيرات الايجية بسبب الصلات التجارية بين هذه المدن وبلاد بحر ايجة وقبرص وكريت.

اشتهرت يافا أواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد يحادث النبي يونس الذي ابتلعه الحوت وقذفه الى الشاطىء شمالها في موقع قد يكون النبي يونس – أو تل يونس – بينها وبين مصب نهر روبين*.

احتل داود يافا والسهل الساحلي في القرن العاشر قبل الميلاد فتحالفت مصر مع دولته الجديدة لحماية حدودها الشمالية  من الأشوريين. وعلى الرغم من ذلك ظلت السيادة المصرية على السهل الساحلي قائمة، وعرفت يافا ازدهارا اقتصاديا وسم فترة حكم سليمان.

4) أيام الحكم الأشوري والبابلي والفارسي (803-332 ق.م.) أخضع سنحاريب الأشوري يافا مع مدن الساحل الفلسطيني وخربها. ثم احتل نبوخذ نصر البابلي فلسطين عام 587 ق.م. وقضى على آخر محاولات ملك مصر لاعادة نفوذ مصر إلى آسيا بدعم من ملك يهودا.

وفي عام 538 ق.م. دخلت فلسطين في حوزة كورش الذي سمح لليهود باعادة بناء الهيكل. وحمل أهل صور وصيدا الأرز من لبنان بطريق البحر فنزلوا يافا حسب الاجازة الممنوحة لهم من كورش.

شهدت يافا في عام 525 ق.م. توقف أسطول قميز من كورش في طريقه لاخضاع مصر. وقد منح قميز ملك صيدا مدينتي دور (الطنطورة*)  ويافا تقديرا لخدمات الأسطول الفينيقي. وإلى هذه الفترة من السيادة الصيدونية على يافا يعود بناء معبد الاله الفينيقي أشمون. ثم عادت يافا إلى الادارة الفارسية المباشرة 16 سنة أخرى.

5) المرحلة اليونانية – الهلنستية في يافا (332 -26 ق.م.): كانت يافا بسبب صلاتها التجارية مع جزر بحر ايجة من أكثر المدن تقبلا للحضارة اليونانية. وقد استوطنها عدد من اليونانيين وأطلقوا عليها اسم جوبي اليوناني. وروت أساطير اليونان أن الأميرة “أندروميدا” كانت موثقة بالسلاسل عند صخور يافا. وقد أنشأ الاسكندر في يافا أول دار لسك النقود* في فلسطين.

تنازع يافا قواد الاسكندر بعد موته عام 323 ق.م. فأصبحت أحد أهم المراكز الهلنستية في فلسطين. وشهدت فترة ازدهار أيام حكم بطليموس ملك مصر لفلسطين (رَ: العصر الهلنستي).

ثم حكم السلوقيون* يافا. وفي أيدهم حدثت ثورة المكابيين ونال اليهود على أثرها نوعا من الاستقلال الذاتي. وقد استعمل جوناثان أخو يهوذا القلاقل الداخلية في المملكة السلوقية كي ينال حق الاشراف على الساحل كله من صور شمالا حتى حدود مصر جنوبا. وقد قاوم أهل يافا التي كانت قاعدة كبرى للعمليات السوقية حكم جوناثان فدخل المدينة مرتين، وأجمل سكانها اليونان – وقوى تحصيناتها، وحسن ميناءها.

حاول السلوقيون استرداد يافا والساحل الفلسطيني (113 ق.م.) فاستنجد المكابيون بالرومان فأعادوا يافا إلى اليهود حلفائهم. وقد أدعى هؤلاء الملك (104 ق.م.) وسكوا النقود التي تحمل  صورة مرساة سفينة.

6) تحت حكم الرومان والبيزنطيين (66 ق.م. – 636م): قضى الرومان على نفوذ المكايين السياسي فأعلنت المدن الساحلية، ومنها يافا ،مدنا حرة لها قدر كبير من الحكم الذاتي. وتعود الى هذه المرحلة قطع النقود التي تحمل صورة أندروميدا وهي تجلس على صخرة وتريف يديها إلى السماء.

وقد كأفا يوليوس قيصر أنتباتر حاكم أدوم وصديق المكابيين على مساعدته اياه في  حملته على مصر مجعله حاكما على يهودا (49 ق.م.) وملكه يافا ومنحها امتيازات كثيرة. ثم ثبت مارك أنطونيوس أبناء انتباتر الذين تهودوا على حكم يافا. ولكن هؤلاء الحكام لم يتمكنوا من كسب ولاء سكانها فقام أحدهم، وهو هيرودس، بانشاء مياه قيسارية* لينافس يافا ويكون بديلا عنها.

انتقلت يافا والمدن الساحلية الأخرى إلى حوزة كيلوباترة. وبعد سقوطها أعاد أغسطس قيصر يافا الى هيرودس (30 ق.م.) وبعد موت هيرودس أنهى أغسطس استقلال المناطق اليهودية، وألحقها بولاية سورية ففصلت يافا اداريا عن القدس وأعيد توحيدها مع المدن العشر* الممتازة الساحلية التي تتبع الحكام أو البواب الرومانيين، ومركزهم في قيسارية.

كان سكان يافا من أوائل من اعتنق المسيحية* وكانت المدينة مركز لنشاط الرسول بطرس*. وأصبح الحجاج يأتون اليها فيما بعد لزيارة قبر طابيثا (اسم آرامي معناه غزالة، قرب مقام الشيخ أبو كبير) وبيت سمعان الدباغ (عند جامع الطابية حاليا) وهما مكانان يرتبطان بطرس. وفي هذه المرحلة انتشرت مساكن يافا على مساحات واسعة خارج الأسوار.

غدت يافا مسرحا للحوادث خلال ثورة اليهود ضد روما في القرن الأول الميلادي. وقد استولى الرومان عليها ونهبوها وأحرقوها وقتلوا الكثيرين من يهودها. ثم عاد من نجا منهم إلى خرائبها وانتهزوا الفرصة على السواحل السورية – المصرية. وأعاد الرومان احتلال يافا أيام نيرون (68م) فهدموها وأقاموا معسكر محصنا على رأس رابيتها لمنع اليهود من العودة اليها. وقد سك القادة الرومان في ذكرى أنصارهم نقودا يشير بعضها إلى تحطيم السفن اليهودية في يافا، الأمر الذي يدل على الأهمية العسكرية التي حملت الرومان على احتلالها.

وقعت يافا زمنا قصيرا تحت حكم زنوبيا ملكة تدمر قبل أن يقضي الامبراطور أورليان على نفوذ هذه المملكة عام 273م. ولم يكن لوقوع يافا تحت حكم الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) من أثر يذكر في حياة أهل المدينة ومظهرها سوى ازدياد أهميتها التجارية.

7) من الفتح العربي الاسلامي إلى حروب الفرنجة الصليبيين (636م-1099م). فتح عمرو بن العاص* يافا عام دخول عمر بن الخطاب* القدس (15هـ/636م)، ويقال فتحها معاوية*. وعاد اليها اسم يافا القديم، وأكملت القبائل العربية التي نزلت فلسطين عملية تعريب سكانها ولغتها. وقد ظلت طوال قرون الحكم العربي من مدن فلسطين الهامة، ومركزا تجاريا رئيسا، ومرفأ لبيت المقدس، وموسى للحجاج. واليها ينسب عدد من الفقهاء ورواة الحديث.

وحين استقل أحمد بن طولون* بمصر على الخلافة العباسية (القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي) دخلت فلسطين في ممتلكاته. وقد بنيت في عهده قلعة يافا وعرف حبها باسم الطابية. ونقل اليها من خماوية بالأسطول قسما من جيشه الذي هزم الخليفة العباسي في معركة الطواحين* (271هـ/885م)، وربما كانت هي الطواحين المقامة على نهر العوجا شمالي يافا. وقد أصبحت يافا في أواخر القرن الثالث الهجري مركزا تجاريا رئيسا لكونها ميناء الرملة عاصمة البلاد آنذاك.

ولما وقع الصدام بين القرابطة* والفاطميين* حكام مصر الذين مدوا سلطانهم حتى دمشق في منتصف القرن الرابع الهجري تراجع الفاطميون واحتموا فحاصرها القرامطة واستولوا عليها. ثم عاد الفاطميون وأخرجوهم منها وقضوا على نفوذهم. ويصف المقدسي يافا في هذه الفترة بأنها “خزانة فلسطين، وفرضة الرملة، وعليها حصن منيع بأبواب محددة، وباب البحر كله حديد”.

وكانت يافا مركزا لتبادل الأسرى على الساحل السوري. وقد أصابها زلزال شديد عام 425هـ/1033م فأحدث فيها خظانا كبيرا (رَ: الزلازل). ولكن ذلك كله لم يمنع نزول الحجاج الأوروبيين فيها تحملهم اليها الأساطيل الايطالية في طريقهم إلى القدس.

ثم حكم السلاجقة فلسطين وفيها يافا (468هـ/1075م) فهدم القائد السلجوقي أتسز من أوق الخوارزمي* سور المدينة. وفي هذه المرحلة من الصراع السلجوقي – الفاطمي وصلت أولى حملات الفرنجة الصليبية.

8) حروب الفرنجة الصليبية (1099 -1268م): اتبع الفرنجة في سيرهم نحو القدس الطريق الساحلي من أنكاكية حتى يافا ليظلوا على اتصال بالمراكب التي تحمل المؤن والمدد. وبوصول أخبار التقدم الصليبي إلى يافا أخلتها حاميتها من السكان وهدمتها وميناءها لمنع الصليبيين من استخدام قاعدتها. ولم يستطع الأسطول الفاطمي الراسي في قاعدة عسقلان أن يمنع سفن جنوة وبيزا من انزال المؤن والأعتدة في ميناء يافا (رََ: الجنويون) و(رَ: البيازنة). ولما تم استيلاء الفرنجة على القدس عادوا إلى يافا وشرعوا يعيشون بناءها وبناء أسوارها وقلعتها ومينائها. ورجع بعض السكان إلى المدينة واستقر فيها إلى جانبهم عدد كبير من الفرنجة. وحينما أقيمت مملكة القدس اللاتينية* آخر عام 492هـ/1099م جعلت يافا وما جاورها “كونتية” تابعة لها على النمط الاقطاعي. وبعد الاستيلاء عن عسقلان ألحقت بها ودعيت “كونتية يافا وعسقلان”. وقد أعيد تأسيس أسقفية يافا، ومنح غودفري دي بويون سنة 504هـ/1110م أهل بيزا حتى تملك ربع المدينة، ومنح أهل البندقية امتيازات أخرى مقابل مساعداتهم العسكرية، الأمر الذي جعلهم سادة التجارة الخارجية في يافا.

وعادت يافا إلى حكم العرب المسلمين مدة 11 سنة فقط خلال الاحتلال الفرنجي. وقد سعى الصليبيون لصبغها بالصبغة الفرنجة، وظلت المنفذ الوحيد لمملكة القدس اللاتينية. ولما فقد الفرنجة القدس أصبحت عكا الميناء العسكري الرئيس واحتفظت يافا بالمكانة الأولى في التتجارة والحج.

 القرى والمدن الفلسطينية التي احتُلت وطُرد أهلها في عام 1948

 

ولما هزم صلاح الدين الصليبية في معركة حطين* (583هـ/1187م) أمر أخاه الملك العادل بالتوجه إلى فلسطين فاستولى على حصن بابا وسار إلى يافا فاستولى عليها. ثم أمر صلاح الدين بهدمها مع غيرها من المراكز الساحلية خوفا من أن يستخدمها الفرنجة بعد استيلاء جيوش الحملة الصليبية الثالثة على عكا بقيادة ريتشارد ملك انكلترا وفيليب أغسطس ملك فرنسا. ودخلها الفرنجة بعد معركة أرسوف الشهيرة (1191م) بين صلاح الدين وريتشارد. فشرع هذا بعيد بناء أسوارها وأبراجها. ثم استطاع صلاح الدين فتحها (588هـ/1196م) فقاد ريتشارد النجدات اليها من عكا. وبدأت آنئذ المفاوضات بين ريتشارد والملك العادل نيابة من صلاح الدين فانتهت بصلح الرملة* (22 شعبان 588هـ/12 أيلول 1196م). ثم استرد الملك العادل يافا (593هـ/1191م) وخربها. ولكنه عاد فتنازل عنها صلحا لجيوش الحملة الصليبية الخامسة (600هـ/1204م). ونزل يافا فريدريك الثاني امبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة الذي كان يقود الحملة الصليبية السابعة، وحصنها وعقد مع الملك الكامل صلح يافا* (627هـ/1229م) الذي تملك بموجبه الفرنجة المدينة. وأصلح فريدريك أسوار يافا، وقد تكون قطعة المرمر المنقوشة التي عثر عليها أواخر القرن التاسع عشر عائدا إلى عملية الاصلاح هذه.

نزل يافا عام 650هـ/1252م لويس التاسع بعد خلاصه من الأسر في مصر، وأعاد بناء أسوار المدينة فامتدت إلى البحر، وشيد 24 برجا، وحفر الخنادق حول الأسوار، وأنشأ كنيسة وديرا للفرنسيسكان.

فتح الظاهر بيبرس* أول سلاطين المماليك* يافا عام 667هـ/1268م وأجلى سكانها وهدم أسوارها وقلعتها وبيوتها ليمنع استدامها موقفا لانزال جيوش الفرنجة. وقد ورد ذكر يافا في نص الهدنة بين قلاوون* والفرنجة في عكا عام 681هـ/1283م ضمن البلاد التي يملكها قلاوون باسم “مملكة يافا والرملة”.

9) في عهد المماليك (667هـ/1268م-962هـ/1516م): لم يدم خراب يافا طويلا. فقد عاد اليها أهلها وعمرت بيوتها وأعيد بناء قلعتها وترميم أسوارها واستأنفت السفن التجارية، ولا سيما الايطالية، الرسو في مينائها. وقد زارها أبو الفداء صاحب حماة عام 722هـ/1331م فوصفها في “تقرير البلدان” بأنها “بلدة صغيرة كثيرة الرخاء ساحلية من الفرض المشهورة. ومدينة يافا كانت حصنا كبير فيه أسواق عامرة ووكلاء التجار وميناء كبير فيه مرسى المراكب الواردة إلى فلسطين والقلعة منها إلى كل بلد”.

لكن السلطان الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون أمر بتخريب ميناء يافا عندما وصلته عام 738هـ/1337م أخبار الاستعداد لحملة صليبية جديدة. ويبدو أن مدينة يافا هجرت وأصبحت خرابا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي. وقد يعزى هذا إلى هجرات البدو، وإلى تخريب أحدثته حملة صليبية قام بها ملك قبرص ونهب فيها الاسكندرية ومدن الساحل السوري. ولم تجر أية محاولة لاعادة بناء المدينة مدة ثلاثة قرون. ولكن الموقع نفسه ظل محط نزول التجار ومكان رسو سفن الحجاج إلى القدس. وكان جند السلطان يقيمون في برجي القلعة المرممين لحماية الحجاج.

10) من دخول العثمانيين الى خروج ابراهيم باشا (923ه/1517م- 1256ه/1840م. أصبحت باشا،كغيرها من مدن فلسطين، تابعة لولاية دمشق( ر: الادارة).

وظلت على حالها من الخراب والهجر. ولم يترك دخولها في حكم الأمر فجر الدين بن قرقماز المعني الثاني* (980ه/1572م -1045ه/1635م) أثرا عمرانيا فيها سوى أن تكون القلعة والأسوار* قد رممت.وقد أقامت الطوائف المسيحية فيها بيوتا لاستضافة الحجاج في أواسط القرن السابع عشر. وأعاد العثمانيون تحصين المدينة وعززوا حاميتها وحسنوا ميناءها. وقد جذب ذلك اليها التجار من المناطق المجاورة، ولا سيما الرملة،للاقامة فيها فامتدت البيوت على منحدرات الرابية، وتحسنت أحوال المدينة وراجت أسواقها وقصدتها السفن من مصر وأوروبا، واحتل الفرنسيون يمثلهم نائب قنصل تابع لقنصل فرنسا في دمشق المكان الأول في تجارتها، وتلاهم في ذلك الانكليز. وسكن المدينة علاوة على أهلها بعض الأتراك واليونان والفرنسيين. وفي عام 1081هـ/1671م وصلت إلى مينائها الأخشاب التي استخدمت في تجديد سقف كنيسة المهد.

كانت يافا لا تزال بلا سور وتابعة لباشا غزة في مطلع القرن الثامن عشر. وقد بدأ احياء بعض الصناعات فيها كصناعة الصابون وغزل القطن. وفي منتصف هذا القرن شهدت حركة عمرانية، وزادت فيها حركة المسافرين، وورد أول ذكر لبرتقال يافا عام 1165هـ/1751م في كتاب عالم الطبيعة السويدي فريدريك هاسل كويست عن رحلاته إلى الشرق. وقد بلغ عدد بيوت يافا عام 1180هـ/1766م ما بين 400 و500 بيت، وغطت البساتين مساحات واسعة من أراضي المستنقعات* حولها وأصبح لكير من الدول الأوروبية ممثلون فيها.

وصلت إلى يافا عام 1180ه/1766م الحملة التي بعث بها علي بك الكبير* المملوكي حاكم مصر بقيادة محمد أبي الذهب* لمعاونة الشيخ ظاهر العمر* في قتاله والي دمشق العثماني عثمان باشا. وقد دخلها ظاهر العمر وأقام حامية فيها وفتح الطريق أمام جيش أبي الذهب ليتقدما معا نحو دمشق. وبعد فشل هذه الحملة تقوى الفريق الموالي للعثمانيين في يافا وطرد حامية ظاهر العمر واستولى على الأسطول المصري الصغير الموجود في الميناء فقام ظاهر العمر بالاستيلاء على يافا في شباط عام 1187هـ/1773م بعد حصار دام ثمانية شهور وعين علي بك المملوكي الذي كان قد لجأ اليه حاكما عليها.

حاصر أبو الذهب (الذي أصبح حاكم مصر) يافا وفتحها سنة 1189هـ/1775 بعد مجزرة عظيمة ونفى كثيرا من أهلها إلى مصر والرملة . وقد نزل يافا بعدئذ سكان من مصر والمغرب ومختلف المدن الشامية.

استعادت يافا حياتها وازدهارها بعد أقل من عشر سنوات، وان كان ميناؤها ظل محتاجا إلى ترميم وغدت تابعة للوالي في عكا. وقد انسحبت اليها الحامية العثمانية بعد استيلاء جيش نابليون عام 1214م/1799م على غزة والرملة. ثم دخلها الفرنسيون بعد حصار طويل ومقاومة شديدة وعملوا فيها القتل والنهب. وأعدم نابليون 4,000 من حاميتها – كانوا قد اعتصموا بالقلعة – بعد أن أعطاهم الآمان. وجرى التنفيذ في تلال الرمل الواقعة جنوبي غرب المدينة (بقعة الشهداء). وقد فشا الطاعون في جيش نابليون بسبب القتل الكثير. واستمر احتلال نابلون للمدينة ثلاثة شهور. وانتهى بعد أن ألحق بها ولا سيما بياراتها خرابا كبيرا (رَ: الحملة الفرنسية).

أعيد بناء تحصينات يافا. وقب اتمام عملية الترميم حاصرها أحمد الجزار* تسعة أشهر ودخلها. ثم عادت بعد وفاته إلى العثمانيين عام 1221هـ/1806م. وقد تقدمت بعمرانها وثروتها في عهد متسلمها محمد آغا أبو نبوت (1222هـ/1807-1332هـ/1818م)، وبلغ عدد سكانها 6,000 نسمة لم يكن بينهم يهود. وحصنها أبو نبوت فحفر حولها خندقا وأقام سدا على الميناء. وشيد الجامع الكبير المعروف باسمه والحق به مكتبة. وبنى جنوبي الجامع سوقا وسبيلا فوق نبعين عذبين بواجهة رخامية مزينة (لم يبق من السبيل سوى الحوض المرمري بعد أن هدم العثمانيون السوق أثناء الحرب العاملية الأولى). وبنى كذلك سبيلا آخر على طريق القدس بعد البوابة الشرقية بنصف ميل ولا يزال يدعى “سبيل أبي نبوت”.

وإلى ميناء يافا حمل الأسطول المصري بقيادة ابراهيم باشا المدافع والذخيرة والمؤن من الاسكندرية عندما سير محمد علي باشا جيوشه لقتال الدولة العثمانية. وعسكر الجيش المصري في 3 جمادي الثانية 1247هـ/ 9 تشرين الثاني 1831 جنوبي يافا على تلال بينها وبين مقام الشيخ ابراهيم العجمي. وقد أجمع أعيان البلد أمرهم على تسليم المدينة دون مقاومة.

ازدهرت تجارة يافا خلال حكم ابراهيم باشا وكثرت فيها مصانع الصابون والفخار والمدابغ واتسعت بساتينها وبياراتها وبلغ عدد سكانها 15 ألف نسمة. وضمت سفن ابراهيم باشا لحماية للميناء من اعتداء القراصنة الروم. وكان في نية القائد المصري أن يحول (بصة يافا) إلى مرفأ داخلي تصله قناة بالبحر. ولكن المشروع لم ينفذ بسبب اندلاع الثورة في بلاد الشام ضد حكم مصر. وكانت النجدات المصرية تصل بحرا إلى ميناء يافا وتنطلق منها إلى الداخل (رَ: الحكم المصري).

وبعد عودة ابراهيم باشا إلى مصر 1256هـ/1840م بقيت في يافا مئات العائلات المصرية فاستقرت في ضواحيها وأنشأت قرى صغيرة محاطة بالبساتين عرفت الواحدة منها باسم “سكة” ومنها السكة المصرية على الشاطىء غربي المقبرة الاسلامية وسكنة أبو كبير شرقي البلدة القديمة وسكنة حماد شمالي الأول وسكنة الدرويش جنوبي يافا.

11) من النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى الانتداب البريطاني: أخذت يافا تنمو بخطوات سريعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فزاد عمرانها وكبرت مساحتها وقدمت اليها جماعة من بيروت تحمل اليها زراعة شجرة التوت، وجماعة “كنيسة المسيح” الأمريكية التي أقامت الضاحية المعروفة باسم “الملكان”- تحريفا لكلمة الأمريكان – عند تلة على طريق نابلس شمالي شرق يافا ثم باعتها إلى “جماعة المعبد” الألمان. وفي أواخر القرن بنى رهبان الفرنسيسكان ديرهم في موقع القلعة (رَ: الرهبانيات). وفي عام 1284هـ/1867م أنشىء طريق يافا – القدس وأقيم عليه عام 1308هـ/1890م خمسة عشر مخفرا لحماية المسافرين والحجاج.

وفي عام 1297هـ/1879م – 1298هـ/ 1880م هدم سور المدينة وملىء الخندق ترابا وحجارة وأقيم فوقه على طول الشاطىء، الشارع الرئيس الذي يصل المدينة بحي العجمي. أخذت يافا تتسع من جهاتها الثلاث فبوشر عام 1304هـ/1886م ببناء حي المنشية شمال المدينة وحي العجمي جنوبها بجوار مقام الشيخ ابراهيم العجمي. وفي عام 1307هـ/1889م نالت شركة فرنسية امتياز انشاء خط سكة حديدية بربط يافا – بالقدس وطوله 87 كم. وقد افتتح الخط رسميا عام 1310هـ/1896م وكان أول خط سكة حديدية في فلسطين (رَ: السكك الحديدية).

ظلت يافا حتى الحرب العالمية الأولى ميناء فلسطين الأول. وكانت السفن تنقل اليها البضائع وتحمل منها ابرتقال والصابون والحبوب وغيرها.  واتصف بحاراتها بالجرأة والمهارة في الملاحة في مرفأ معرض للأنواء. وقد بدىء باجراء تحسينات على الميناء ومنحت الحكومة شركة فرنسية امتياز لاقامة ميناءي يافا وحيفا، ولكن المشروع توقف بسبب الحرب. وبلغت قيمة واردات تجارة يافا عام 1332هـ/ 1913م مبلغ 1,312,600 جنيه انكليزي، وقيمة الصادرات 745,400. وكان متوسط السفن التجارية التي رست في الميناء بين 1329هـ/1909م 1332هـ/1913م نحو 668 باخرة سنويا. وبلغ عدد صناديق البرتقال المصدرة منها عام 1330هـ/1911 م نحو 870,000 صندوق ثمنها 217,500 جنيه انكليزي. وكانت مصر أول الأقطار التي تصدر اليها يافا، تليها بريطانيا، فتركيا فروسيا وفرنسا.

كان في يافا إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى خمس وعشرون مدرسة خمس منها رسمية (واحدة رشدية) وعشرون أجنبية ابتدائية. وضم جامعها مكتبة وحلقات تدريس، وكان فيها مطابع، وبلغ عدد صحفها سبعنا أهمها فلسطين (أنشئت سنة 1330هـ/1911م). وصدرت في يافا مجلة الأصمعي* (1327هـ/1908م) وهي المجلة الأولى في فلسطين.

قفز عدد سكان يافا من 23,000 عام 1310هـ/1892م إلى 70,000 قبل الحرب العالمية الأولى – عدا ألوف الزوار والسائحين – فكونت بذلك من أكبر مراكز الألوية ومركزا لقيادة لواء من الجيش. وضمت ألفين من المغاربة الذين يتمتعون بحماية فرنسية لحراسة البساتين، وعددا من الفرنسيين والايطاليين المقيمين لأغارض تجارية وتعليمية.ولم يكن في يافا حتى بداية القرن السابع عشر طائفة يهودية، وكان الحجاج اليهود يمرون بها مرورا في طريقهم إلى القدس. ثم اشترى يهودي عماني – هو اسحق أغيمان – بضعة بيوت عام 1236هـ/1820م باسم طائفة السفارديين في القدس. وفي عام 1246هـ/1830 قدم بعض اليهود من شمالي أفريقيا فشكلوا نواة الطائفة اليهودية في المدينة. وبدأ اليهود يقيمون في يافا لأغارض تجارية بعد عام 1257هـ/1841م اثر تعيين حاخام فيها، وقد قدر عددهم في منتصف القرن التاسع عشر بنحو ثلاثين عائلة. ولكن أعدادا من اليهود الأشكنازيين أخذت تتدفق منذ عام 1298هـ/1882م على منطقة يافا مستفيدة من نظام الامتيازات والاضطهادات الأوروبية لهم. وقد أنشىء فيها بين 1302هـ/1886م 1309هـ/1896م حيان يهوديان هما “نيفي صدق” و”نيفي شالوم”. ويعد تغير نظام الحكم في الدولة العثمانية عام 1327هـ/1909م اشترى الصندوق القومي اليهودي قطعة أرض مساحتها 130,000م2 على الجانب الغربي من طريق نابلس، وعلى بعد نصف ميل من المدينة، وبنى عليها مساكن لستين عائلة فكانت نواة تل أبيب*. ويراوح عدد اليهود المقيمين في يافا قبل الحرب بين ثلاثة وأربعة آلاف. وأما الأجانب منهم فلا تعرف أعدادهم، وقد قدروا بثلاثين ألفا في يافا وجوارها.

ولما دخلت تركيا الحرب رحل عن يافا رعايا دول الحلفاء وقام حسن الجابي قائد موقع المدينة باجراء كثر من التحسينات فيها، فعمر الميناء، وأنشأ شارع جمال باشا عبر البيارات شرقي المدينة، ووسع الشوارع، وأزال سوق أبي نبوت لتسهيل الوصول إلى الميناء، وبنى جامعا في حي المنشية قرب الشاطىء (رَ: حسن بك، مسجد).

ضربت السفن البريطانية والفرنسية يافا مرتين عام 1335هـ/1916م ولكنها لم تحدث فيها تخريبا. وكان العثمانيون يتوقعون انزالا بريطانيا فيها فأخلوها في آذار عام 1326هـ/1917م ونقلوا سجلات الحكومة إلى الرملة والقدس. وتم جلاء العثمانيين التام عن يافا في 15/11/1917 فأحرقت ثكنات الشرطة وحلت الحامية التركية إلى نابلس. وفي 12 جمادي الأولى 1336هـ/ 16 تشرين الثاني دخلت طلائع القوات ابريطانية المدينة.

12) في عهد الانتداب البريطاني: تطورت باشا خلال فترة الانتداب البريطاني تطورا ملموسا في سكانها وعمرانها. فقد ازداد عدد السكان من 47,709 نسمة عام 1922م إلى 51,866 نسمة عام 1931م، وكانوا يقيمون في 11,304 بيوت. وأضيف اليهم في ذلك التعداد 3,480 نسمة من سكان ضواحي يافا الذين كانوا يقطنون في 655 بيتا. وفي عام 1945م قدر عدد سكان يافا بنحو 66,310 نسمات، وازداد العدد إلى 72,000 نسمة عام 1947.

وواصل العمران نموه وتحسنه أيام الانتداب بسبب ازدياد عدد السكان من جهة وتنوع وظائف المدينة من جهة ثانية. وفي عام 1945 م بلغت مساحة يافا 9,737 دونما. وضمت عدة أحياء هي:

1) البلدة القديمة، ومن أقسامها الطابية والقلعة والنقيب.

2) المنشية، ويقع في الجهة الشمالية من يافا.

3) ارشيد، بين البلدة القديمة وحي المنشية.

4) العجمي، ويقع في الجنوب من يافا.

5) الجبلية، جنوبي حي العجمي.

6) هريش (اهريش)، ويقع في الجهة الشمالية من حي العجمي.

7) النزهة، ويقع شرقي يافا – وقد أنشىء بعد الحرب العالمية الأولى، ويعرف امتداده إلى الجنوب باسم الرياض، وهو أحدث أحياء يافا.

وهناك أحياء تعرف باسم “السكنات” تقع بين بيارات المدينة، ومنها سكته درويش وسكته العراينة وسكتة أبو كبير وسكنة السبيل وسكنة تركي وغيرها.

والبلدة القديمة هي إلى جانب كونها حيا سكنيا، حي الأعمال وفيها شارع اسكندر عوض الذي يكتظ بالمحلات التجارية من جوار دار الحكومة وينتهي عند الطرف الجنوبي من شارع جمال باشا. وأما الأحياء الأخرى فمعظم مبانيها سكنية، وفيها بعض المباني والمنشآت المستعملة للأغراض التجارية والصناعية والادارية والصحية والتعليمية وغيرها.

يتخذ مخطط يافا التنظيمي شكلا مستطيلا تمتد معه المدينة امتدادا طوليا من الشمال إلى الجنوب أكثر من امتدادها العرضي من الغرب إلى الشرق. وتتخذ شبكة الشوارع في المدينة شكل الخطوط المستقيمة المتعامدة تقريبا. وقد قامت البلدة القديمة وبعض الأحياء في بادىء نشأتها فوق الكثبان الرملية. ونشأت السكنات فوق الأراضي الزراعية المحيطة بيافا وتشغلها بيارات الحمضيات. وقد أشرفت بلدية يافا على ادارة المدينة واعمارها فتحت الشوارع الجديدة وعبدتها ووفرت الخدمات والمرافق العامة ومنحت رخص البناء وتعهدت الأسواق والمنشآت. وازدادت نفقات البلدية من 28,880 ج ف. عام 1927 م إلى 193,585 ج ف. عام 1944 م وبلغ عدد رخص البناء التي منحتها للمواطنين في عام 1934 م مثلا نحو 748 رخصة. وفي عام 1944 م نحو 130 رخصة.

13) في ظل الاحتلال الاسرائيلي: في عام 1948 تعرضت يافا كغيرها من مدن وقرى فلسطين للعدوان الصهيوني. ونتج عن ذلك العدوان تشرد معظم سكانها العرب واستشهاد أكثر من 1,300 عربي (رَ: يافا، معارك). وقام اليهود بحشر من تبقى من العرب في حي العجمي بالمدينة وأحاطوه بسياج من الأسلاك الشائكة وجعلوا الدخول اليه والخروج منه باذن من السلطة المحتلة. والجدير بالذكر أنه لم يبق في يافا من سكانها العرب في 18/11/1948 سوى 3,651 عربيا. وقد بلغوا في 21/12/1949 نحو 4,000 عربي، ووصل عددهم في عام 1958م إلى نحو 6,500 عربي. وفي عام 1965م إلى نحو 10,000 عربي. ويقدر عدد سكانها العرب حاليا بنحو 20 ألف نسمة. وقد ألحقت يافا بتل أبيب تحت ادارة موحدة، وتدفق اليها آلاف المهاجرين اليهود. وقدرت المصادر الاسرائيلية بأن عدد سكان يافا وتل أبيب في عام 1983 بنحو 327 ألف نسمة، وفي عام 2001 قدروا بنحو 348 ألف نسمة.

تختلف يافا حاليا عما كانت عليه قبل عام 1948م. فقد تغيرت بنيتها الداخلية وتبدل مظهرها الخارجي وملامحها الحضارية فحل الطراز الأوروبي في البناء والعمارة وتخطيط الشوارع والطرق وأسلوب الحياة على الطراز العربي الذي كان سائدا. ولم يبق من الأحياء التي ترمز إلى تاريخ المدينة سوى الحي العربي القديم الذي انقلب إلى حي للفن والفنانين. وحافظ حي العجمي في جنوب يافا على أوضاعه، ويعيش فيه العرب في بؤس. وبقيت كثير من أجزاء حي المنشية شمال يافا مهدمة منذ أحداث 1948.

ج- التركيب الوظيفي ليافا: تنوعت وظائف يافا تنوعا واضحا منذ القدم. فهي مدينة وميناء على البحر المتوسط ونقطة انقطاع بين اليابسة والبحر وملتقى التأثيرات البرية الداخلية القادمة من ظهيرها الخلفي والتأثيرات البحرية الخارجية القادمة من العالم العربي. واذا كان الموقع والموضع قد تضافرا لاحداث التنوع الوظيفي فان الأخير ساهم في تطور نمو المدينة وازدياد حجمها بمرور الزمن.

1) الوظيفة الزراعية: تحيط بمدينة يافا من معظم جهاتها بساتين الحمضيات وبساتين الفواكه الأخرى والخضر بأنواعها المختلفة. وتزرع الحبوب في مساحات محدودة. وتعتمد الزراعة* على الري من الآبار بصورة رئيسة. وعلى مياه الأمطار بصورة ثانوية. ولقد ازدادت أشجار الحمضيات المغرومة في أراضي يافا قبل الحرب العالمية الأولى ازديادا عظيما فبلغ محصول هذه المدينة منها ما يعادل محصول سورية. واشتهرت يافا برتقالها (اليافاوي) الذي يصدر إلى مختلف أجزاء فلسطين والعالم الخارجي. وقد صدر من الحمضيات الفلسطينية في عام 1885م عن طريق ميناء يافا قرابة 106 آلاف صندوق، وارتفع هذا الرقم إلى 251 ألف صندوق في عام 1900م، وإلى 854 ألف صندوق في عام 1910م. وإلى 1,5 مليون صندوق في عام 1914م، وإلى 2,1 مليون صندوق في عام 1925م، وإلى 2,5 مليون صندوق في عام 1930م، وإلى 6,6 مليون صندوق في عام 1935م، وإلى 15,3 مليون صندوق في عام 1939، وهبطت الكمية المصدرة إلى 1,4 مليون صندوق في عام 1945.

2) الوظيفة التجارية: كانت يافا ميناء فلسطين الأول قبل نهوض حيفا وتقدمها عليها في الثلاثينات من هذا القرن. ويتضح هذا الدور الطبيعي بارجوع إلى عدد البواخر التي رست في موانىء الشاطىء السوري عام 1910م. فقد كان ترتيب ميناء يافا الثاني بعد ميناء بيروت اذ بلغ مجموع البواخر القادمة اليه 707 بواخر والقادمة إلى ميناء بيروت 1,143 باخرة.

وأصبحت ليافا، بنسب أهمية مينائها،أهمية تجارية بارزة. فالى مينائها كانت البواخر والسفن الشراعية تأتي محملة بمختلف البضائع التي تحتاج اليها فلسطين وشرق الأردن من قماش وأخشاب ومواد غذائية وغيرها. وكانت تعود من فلسطين غلى الخارج وعليها خيرات البلاد من برتقال وصابون وحبوب وغيرها.

استمرت أهمية يافا كميناء للتصدير والتوريد حتى أواخر الثلاثينات عندما احتلت حيفا مركز الصدارة في التجارة* الداخلية والخارجية. وبعد عام 1948 م أخذت أهمية ميناء يافا تتقلص إلى أن أغلق نهائيا عام 1965م في وجه السفن – باستثناء مراكب صيد الأسماك الصغيرة – وحل محله ميناء أشدود* الذي يقع على مسافة 30 كم جنوبيه. وقد بوشر ببناء هذا الميناء في عام 1961م وانتهى عام 1965م.

وعلى صعيد التجارة الداخلية كانت يافا خلال فترة الانتداب البريطاني مركز هاما من مراكز التجارة الداخلية في فلسطين. وكانت تعج بالأسواق والمحلات التجارية التي تعرض مختلف البضائع والسلع
ويؤمها بالاضافة إلى سكانها المحليين، كثير من سكان القرى والمدن المجاورة يوميا لبيع منتجاتهم الريفية وشراء ما يحتاجون اليه من سلع متنوعة. ومن أسواق يافا سوق بسترس – اسكندر عوض، وسوق الدير، وسوق الحبوب، وسوق المنشية، وسوق البلابسة، وسوق الاسعاف.

3) الوظيفة الصناعية: الصناعة* دور في اقتصاديات يافا، ولكنه لا يصل إلى مرتبة الدور الذي للتجارة والزراعة. ففيها معامل للتبغ والبلاط والقرميد وسكب الحديد والنسيج والبسط والورق والزجاج وعدة مصابن ومدابغ ومطابع. وقبيل النكبة أقيم في ظاهرها معمل لغزل القطن. وكانت صناعة طحن الغلال من بين أهم الصناعات الغذائية في يافا.

بلغ عدد المؤسسات الصناعية التي كانت قائمة في يافا قبل عام 1918م نحو 93 مؤسسة. وازداد عددها بعد عام 1918م إلى 166 مؤسسة. وبلغ عدد العاملين في تلك المؤسسات عام 1927م نحو 388 عاملا وبلغت قيمة الأنتاج الصناعي في العام نفسه نحو 591 ألف جنيه فلسطيني.

وقد ازدهرت صناعة صيد الأسماك على شواطىء يافا وكانت تعد من أهم مراكز صيد الأسماك في فلسطين اذا بلغت الكميات المصطادة من مياهها في عام 1930م نحو 3,6 أطنان، وارتفعت إلى 670 طنا في عام 1936م، وإلى 1,056 طنا في عام 1945م. وازدهرت السياحة* في يافا فكانت المدينة محط أنظار السياح الذين يؤمونها من داخل فلسطين وخارجها لمشاهدة الأماكن الأثرية والتاريخية، وللاستجمام فوق شواطئها الجميلة وفي البساتين المحاذية لضفاف نهر العوجا – الجريشة.

4) الوظيفة الثقافية والتعليمية: كانت يافا مركز النشاط الثقافي والأدبي في فلسطين. وقد أخرجت مطابعها مجموعات من المكتب في شتى العلوم، وصدرت فيها معظم الصحف الفلسطينية وأهمها فلسطين والدفاع والصراط المستقيم.

ضمنت المدينة مختلف المدارس من حكومة وبلدية وخاصة تابعة للجمعيات والمؤسسات والأفراد. وكانت جميعها باشراف ادارة معارف اللواء الجنوبي. وقد كان في يافا العام الدراسي 1947/1948 تسع مدارس حكومة أربع منها للبنين تضم 1,698 طالبا يعلمهم 54 معلما وخمس للبنات عدد طالباتها 1,604 طالبات تعليمهن 45 معلمة. وكان لبلدية سبع مدارس منها مدرسة واحدة للبنات. وكان فيها إلى جانب تلك مدرستان تابعتان لجمعية الشبان المسلمين* وجمعية الاصلاح الاسلامية، وعدد كبير من المدارس الخاصة أو التابعة لمؤسسات وطنية أو أجنبية منها مدارس ثانوية كاملة كانت تقوم بقسط من أعباء التعليم.

 

مدينة الناصرة المحتلة

الناصرة 1932
 الناصرة 1932

تاريخ مدينة الناصرة

مدينة عربية ومركز قضاء يحمل اسمها. وهي واحدة من أكبر وأجمل مدن فلسطين، ولها مكانة خاصة في نفوس المسيحين في مختلف أنحاء العالم. فهم يحجون إليها كما يحجون إلى كنيسة القيامة في القدس* وكنيسة المهد في بيت لحم*. وقد نسب السيد المسيح إليها فدعي بالناصري وعرف أتباعه بالمسيحين تارة والنصارى تارة أخرى. واذا كانت صفد* عاصمة الجليل الأعلى فان الناصرة عاصمة الجليل الأدنى. وهي قاعدة لقضاء الناصرة منذ أواخر العهد العثماني. وقد تعرضت الناصرة للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 فهاجر عدد قليل من سكانها نتيجة لذلك، وصمد أكثرهم رغم قسوة الاحتلال واهماله شؤون المدينة. وظلت المدينة على حالها دون تطور رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على الاحتلال فتراجعت المشروعات فيها وحدث عجز متصاعد في موازنة بلديتها. ولم تتعرض الناصر العربية للتخلف والاهمال فحسب بل أخذت تعاني الاختناق والتسلط على يد سلطات الاحتلال التي أنشأت مدينة “تزاريت عليت” أي الناصرة العليا، على مرتفع جبلي بالقرب منها للتحكم في رقاب سكانها.

أ- الموقع الجغرافي: تقع الناصرة في قلب الجليل الأدنى  وتطل على سهل مرج ابن عامر* من الشمال. فهي لذلك نقطة انتقالية بين منطقة مرج ابن عامر السهلية ومنطقة الجليل الأعلى الجبلية. وقد كان لموقعها الجغرافي أهمية منذ القديم فكانت طرق فرعية تصلها بالطرق الرئيسة التي تربط بين سورية ومصر من جهة والأردن وفلسطين من جهة ثانية. وكانت بعض القوافل التجارية تعرج عليها أثناء مرورها في سهل مرج ابن عامر (رَ: الطرق).

وقد ضمن الفاحون خططهم العسكرية السيطرة على الناصرة للتحكم في سهل مرج ابن عامر منفذ الجيوش الطبيعي، والاتخاذ المدينة قاعدة انطلاق للسيطرة على المناطق المجاورة، جبلية كانت أم سهلية أم غورية.

ولا يزال لموقع الناصرة أهمية التجارية والسياحية والعسكرية. فموقعها الجغارفي في بقعة تتوسط  بيئات متنوعة حولها جعلها مركز التبادل التجاري لمنتجات هذه البيئات. ووقوع الناصرة في بقعة مقدسة عند المسيحين جعلها محط أنظار السياح الذين يفدون إليها لزيارة الأماكن التي ارتادها السيد المسيح ومشاهدة المواقع الأثرية المحيطة بالمدينة والتمتع بالمناظر الطبيعية الجميلة.

ويضاعف من أهمية موقع الناصرة أنها عقدة مواصلات تتفرع منها طرق برية إلى المدن والقرى المجاورة. فهناك طرق معبدة تربطها بسهل مرج ابن عامر مسافة 5كم، وبمدينة العفولة* مسافة 13 كم، وبجنين* ونابلس* والقدس والخليل* جنوباً، وطرق معبدة أخرى تربطها بطبرية* شرقاً، وبصفد شمالاً بشرق، وبشفا عمرو* شمالاً بغرب، وبحيفا* غرباً، وباللجون* جنوباً بغرب، وبيسان* جنوباً بشرق. وبذلك تتصل الناصرة بمدن المرتفعات الجبلية الفلسطينية وقراها، وبالسهول الساحلية والداخلية، وبغور الأردن، وبطرق الأقطار العربية المجاورة في لبنان وسورية والأردن ومصر.

ب- طبيعة الأرض: تقع الناصرة فوق رقعة متوسطة الارتفاع داخل الجليل الأدنى وترتفع نحو 400 م عن سطح البحر، و300 م عن مستوى سهل مرج ابن عامر. وتحيط بالناصرة جبال مرتفعة هي جزء من جبال الجليل* الأدنى التي تمتد بصفة عامة من الغرب إلى الشرق وتنحدر تدريجياً نحو سهل مرج ابن عامر. وبين السلاسل الجبلية في الجليل الأدنى أودية مستعرضة لها محور الجبال نفسه. ولذا فإن انفتاح الناصرة على المناطق المجاورة في الاتجاه الشرقي الغربي أكثر يسراً منه في الاتجاه الجنوبي الشمالي. وأهم الجبال المجاورة للناصرة جبل طابور (الطور*) وجبل صرطبة شرقي الناصرة، وجبل القفزة وتل عدا شيم وجبل الدحي جنوبها الشرقي، وجبل الشخ شمالها الشرقي، وجبل الرينة شماليها.

وتعد منطقة الناصرة خط لتقسيم المياه بين وادي الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً، اذ ينحدر منها وادي البيرة* وروافده نحو نهر الأردن*، ونهر المقطع* وروافده نحو البحر المتوسط. ونظراً لوجود بعض الصدوع (الانكسارات) التي تمتد على الأغلب في تجاه شرقي غربي تتخذ الأودية والمنخفضات المنشرة في المنطقة الاتجاه نفسه. وقد هبطت هذه الأودية بفعل حركات تكتونية على طول الصدوع وأصبحت فتحات طبيعية بين السلاسل الجبلية من جهة ومصادر طبيعية للمياه الجوفية من جهة أخرى. وأهم الينابيع المحيطة بالناصرة عين العذراء وعين القناة وعين أبو راس وعين القسطل وعين موسى وغيرها من الينابيع والآبار*.

ج- المناخ*: مناخ الناصرة هو مناخ البحر المتوسط المتميز بحرارته وجفافه صيفاً، ودفئه وهطول أمطاره شتاء. ويبلغ المتوسط السنوي للحرارة 17 درجة مئوية، ولا يزيد متوسطها اليومي من كانون الأول إلى آذار على 11 درجة مئوية. ويعد شهر كانون الثاني من أكثر شهور السنة برودة، اذ يبلغ متوسط الحرارة فيه 9 درجات مئوية، وشهر آب من أكثر الشهور حرارة بمتوسط مقداره 24 درجة مئوية. وتتعرض الناصرة في الشتاء إلى هبوب رياح شمالية باردة أحياناً. وتؤدي هذه الموجات الباردة إلى حدوث الصقيع فتسقط الثلوج على الجبال خلال فصل الشتاء. ويراوح معدل الرطوبة النسبية بين 40% في شهر أيار و73% في شهر كانون الثاني.

متوسط كمية الأمطار السنوية 639 مم. ويتركز هطولها في الفترة من أيلول إلى أيار. ويعد كانون الثاني من أكثر الشهور أمطاراً (173,2 مم). ونظراً لارتفاع كمية الأمطار التي تهطل على الناصرة وانخفاض درجات الحرارة شتاء. وبالتالي انخفاض قيم البحر والنتح، فان الموازنة المائية لفصل النمو تتسم بفائض مائي يظهر أثره في كثرة الينابيع والمسيلات المائية في المنطقة.

د- النشأة والتطور: دلت الحفريات الأثرية على أن الناصرة كانت مسكونة في العصر البرونزي المتوسط وفي العهد الحديدي. وقد وجدت فيها قبور أثرية منقورة في الصخور أو في الكهوف (رَ: العصور القديمة).

ويبدو أن المدينة لم تكن ذات شأن في العصور القديمة السابقة للميلاد. فلم يرد لها ذكر في العهد القديم أو في أي مصدر من المصادر الأدبية السابقة للانجيل الذي ورد فيه اسم المدينة 28 مرة.

وفي القرن الثاني بعد الميلاد ازداد الوجود اليهودي في المدينة وفي منطقة الجليل كلها بعد أن دمر هادريالوس* امبراطور روما مدينة القدس وطرد اليهود منها.

1) مدينة المسيح: استمدت الناصرة مكانتها في التاريخ لأنها مدينة السيد المسيح ومريم العذراء*. ففي الناصرة استوطنت مريم العذراء ويوسف النجار، وفيها بشر جبريل الخاصة قبل الميلاد، كما ورد في الانجيل – بميلاد السيد المسيح، وفيها قضى المسيح 30 سنة من عمره، وفيها حاول اليهود من سكانها طرحه من جبل  القفزة للتخلص منه (رَ: المسيحية). وقد منع اليهود المسيحين من الدخول إلى الناصرة في القرنين الثاني والثالث. ومنذ القرن الرابع بدأ تاريخ الناصرة يتحول بعد تنصر الامبراطور الروماني قسطنطين* 306-337م.

وذكر في رواية ضعيفة أن الملكة هيلانة والدة قسطنطين شيدت كنيسة البشارة في الناصرة في القرن الرابع. ولكن الحفريات الأثرية الأخيرة 1955-1966 تشير إلى أن أول كنيسة بنيت في الناصرة، وهي كنيسة البشارة. تم بناؤها حوالي سنة 450م. بيد أن اعتناق قسطنطين للمسيحية مكن المسيحيين من زيارة الناصرة والتبرك بالأماكن المرتبطة باسم السيد المسيح ووالدته العذراء.

وفي سنة 614 انضم يهود الناصرة إلى الفرس في حربهم مع البيزنطيين.

2) في عهد الأمويين والعباسيين: دخلت الناصرة في حوزة العرب المسلمين على يد شرحبيل بن حسنة* فاتح شمال فلسطين في السنة الثالثة عشرة للهجرة (634م). وكانت تابعة آنذاك لجند الأردن الذي كانت قاعدته طبرية. وفي سنة 104هـ/722م، أي في زمن الخليفة الأموي يزيد الثاني، زار السائح الانكليزي وليبلد الناصرة وذكر كنيسة البشارة. ويستدل من تقرير عن المعاهد الدينية المسيحية يرجع تاريخه إلى سنة 793هـ/808م (زمن هارون الرشيد) أنه كان في الناصرة دير فيه 12 راهباً، ودير آخر على جبل القفزة.

ويتحدث برنارد الحكيم عن جو الحرية الدينية في المدينة عند زيارته لها زمن العباسيين في سنة 869م فيقول:

“يوجد سلام تام بين المسيحين والمسلمين: ولو كنت مسافراً ومات جملي أو جملي الذي يحمل أمتعتي أترك كل شيء في مكانه بلا حارس وأذهب إلى أقرب مدينة فأستأجر دأبة وأعود فأجد عند رجوعي كل شيء كما تركته”.

3) في عهد الصليبيين: يظهر أن الناصرة حل بها خراب كبير في القرن الحادي عشر. فالمصادر تشير إلى أن الصليبيين وجدوا المدينة خراباً عندما احتلوها سنة 494هـ/1100م. وقد عمر تنكريد مدينة الناصرة وزينها وبنى فيها الكنائس بعد أن كان قد دخلها فاتحاً على رأس القوة الصليبية. ونقل الصليبيون أسقفية سكيتوبوليس (بيسان) إلى الناصرة فصارت مركزاً لها لأول مرة في تاريخها (رَ: الناصرة، كنائس).

وفي سنة 1140م انعقد فيها مجمع لفض الخلاف بين البابا فكتور الرابع والبابا اسكندر الثالث للذين كان كل منهما يدعي كرسي البابوية لنفسه.

وفي سنة 583هـ/1187م، أي بعد معركة حطين*، استولى مظفر الدين كوكوبوري أحد قادة صلاح الدين على مدينة الناصرة قسرا وملكها. وأظهر صلاح الدين – كما فعل في القدس وغيرها – عطفاً على أهل الناصرة ولم يمس كنائسها بأذى. وبموجب اتفاقية الصلح التي عقدها مع ريشارد ملك الانكليز سنة 587هـ/1196م بقيت الناصرة في عهدة صلاح الدين. غير أن الملك الكامل الأيوبي سلمها لفردريك الثاني امبراطور ألمانيا بعد عقد الصلح بينهما سنة 627هـ/1229م. وبقيت المدينة في حوزة الفرنجة* إلى أن استردها الخوارزمية* سنة 642هـ/1244م. ثم احتل الصليبيون الناصرة بقيادة لويس التاسع سنة 648هـ/1250م لفترة قصيرة، وزارها الملك لويس في سنة 649هـ/1251م.

4) هدم الناصرة: نزلت بالناصرة ضربة شديدة سنة 662هـ/1263م عندما هدم الظاهر بيبرس* المدينة وأديرتها وكنائسها وقتل كثيراً من سكانها النصارى. وفي سنة 670هـ/1271م احتلها الامير ادوارد الانجليزي (الملك ادوارد فيما بعد) في الحملة الصليبية التاسعة والأخيرة لفترة وجيزة أيضاً. ولكن احتلال الناصرة المتبادل هذا انتهى سنة 691هـ/1291م عندما أخرج السلطان خليل بن قلاوون* بقية الصليبيين من عكا وأجهز عليهم في الناصرة وهدم كنائسها. وظلت الناصرة في حالة من الانحطاط أكثر من ثلاثمائة سنة بعد هذا التاريخ.

وقد استوطن المسلمون المدينة بعد طرد الفرنجة. ولكن ظل الرهبان والحجاج المسيحيون يزورونها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وكانت المدينة لهذا الوقت قرية صغيرة من أعمال صفد.

5) في العهد العثماني: في سنة 923هـ/1517م دخلت الناصرة في حوزة العثمانيين. وبقول الرحالون الأوروبيون أنه لم يكن في الناصرة رهبان في أواسط القرن السادس عشر الميلادي. وكان عدد المسيحيين فيها لا يتجاوز بضع فئات. وفي سنة 1015هـ/1606م عقدت معاهدة بين السلطان أحمد الأول العثماني وهنري الرابع ملك فرنسا فوض الأخير بموجبها أن يقيم قناصل في المدن. وأخذت حالة الرهبان تتحسن. وفي سنة 1030هـ/1620م سلم الأمير فخر الدين بن قرقماز* المعني الثاني مغارة البشارة إلى الرهبان الفرنسيسكان. ومنذ ذلك الوقت أخذ المسيحيون يتوافدون إلى المدينة بأعداد متزايدة. وقد وفد إليها أولاً مسيحيون موازنة ثم مسيحيون من الروم الأرثوذكس. وكانت المدينة تتعرض في القرن السابع عشر باستمرار لهجمات الأعراب. وكان الحكام يتعرضون للرهبان أحياناً ويبعدونهم، ولكن هؤلاء كانوا يعودون دائماً.

وفي سنة 1143هـ/1730 م بنى اللاتين كنيسة في الناصرة. وكان جو التسامح الديني يسود المنطقة منذ عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني، ثم في عهد ظاهر العمر* الذي استولى على عكا سنة 1163هـ/1749م وجعلها  عاصمة ملكه وأطلق الحرية الدينية ومد رواق الأمن ووسع التجارة. وقد كان له فضل كبير في عمران الناصرة. وبعد مقتل ظاهر العمر سنة 1190هـ/1776م تلاه أحمد باشا الجرار* الذي حكم البلاد حكم ارهاب.

وتميز القرن الثامن عشر بمشاحنات بين طائفتي الروم واللاتين خاصة. وفي أواخر هذا القرن قال الرحالة الفرنسي فوليني عن الناصرة: “سكانها ثلثهم مسلمون والثلثان مسيحيون. وللأباء الفرنسيسيين فيها نزل ومعابد، وهم غادة ملتزمز البلدة”.

في نيسان 1214هـ/1799م احتل نابليون الناصرة وزار المدينة ثم ما لبث أن انسحب منها بعد هزيمته عند أسوار عكا (رَ: الحملة الفرنسية).

وفي سنة 1242هـ/1826م رخص السلطان محمود العثماني لرهبان الفرنسيسكان بتحديد بعض المقامات وأقطعهم الناصرة وبعض القرى على أن يؤدوا خراجها للدولة.

وتحدث الرحالة بوكهارت عن الناصرة، وكان قد نزلها سنة 1227هـ/1812م، فقال: “يتمتع مسيحيو الناصرة بحرية كبيرة. فالرهبان يذهبون للصيد وحدهم حسب عوائدهم مسافة تبعد عن الدير عدة مسافات دون أن يتعرضوا لأية إهانة من المسلمين”.

وشهدت الناصرة والبلاد كلها عهداً من التسامح في فترة حكم ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا المصري 1831-1841م وكان حكمه بداية عصر جديد من الإدارة الحديثة (رَ: الحكم المصري).

وفي القرن التاسع عشر بدأت الدولة العثمانية عصر التنظيمات وأخذت تحاول تحسين أوضاع الرعية فيها بصورة عامة. ومنذ بداية هذا القرن أخذت تعد إلى الناصرة أعداد متزايدة من الارساليات الأجنبية والتبشيرية وتقيم فيها منشآت مختلفة من كنائس وأديرة ومعاهدة تعليم لجميع الطوائف.

عانت الناصرة كما عانت سائر المدن الجبلية في فلسطين من زلزال عام 1837 م الذي دمر 424 بيتاً فيها وأعطب 373 بيتاً آخر وقتل من سكانها 126 فرداً (رَ: الزلازل).

وكانت الناصرة تقوم قبل الحرب العالمية الأولى على أربعة تلال يشكل مجموعها دائرة. ولم تكن المباني تغطي جميع هذه التلال*، بل كانت تتلاصق أحياناً وتتباعد مختفية بين تلك التلال أحياناً أخرى. وقد غطيت سفوح معظم مبانيها بالآجر الأحمر (القرميد) وأحاطت بها الأشجار المثمرة، ولا سيما أشجار الزيتون*. ولم يكن عدد مبانيها يتجاوز 1,500 بناء في ذلك الوقت، وكان نموها العمراني يمتد بخطى واسعة نحو الشرق والغرب.

قدر عدد سكان الناصرة في عام 1852 بنحو 3,000 نسمة، وقدر عددهم في عام 1881 بنحو 5,939 نسمة. وفي عام 1904 بلغ العدد 6,458 نسمة، ثم ارتفع إلى 7,988 في عام 1912، وإلى 8,584 ابان الحرب العالمية الأولى. وكان سكانها يعملون في الزراعة* والصناعة* والتجارة*.

وفي الحرب العالمية الأولى كانت الناصرة مقراً لقيادة الجيش الألماني-التركي.

6) في عهد الانتداب البريطاني: في أوائل عهد الانتداب البريطاني انخفض عدد سكان الناصرة قليلاً عما كان عليه في بداية الحرب العالمية. وقدر العدد بنحو 7,424 نسمة عام 1922. ويعزى هذا الانخفاض إلى أحداث الحرب والأمراض والمجاعات* التي أتت على عدد من السكان، بالاضافة إلى عامل الهجرة من الناصرة إلى خارج فلسطين. وفي تعداد عام 1931 ارتفع عدد سكان الناصرة إلى 8,756 نسمة يقيمون في 1,834 بيتاً داخل المدينة، علاوة على 138 نسمة كانوا يقيمون في 28 بيتاً بضواحي الناصرة.

شهدت الناصرة بعدئذ تطوراً ملموساً في سكانها وعمرانها فزاد عدد السكان وجميعهم من العرب، إلى 14,200 نسمة عام 1945. وكان عددهم في نهاية فترة الانتداب البريطاني نحو 17,000 نسمة. وقد أثرت الزيادة العددية للسكان في الزيادة العددية للمساكن والمنشآت والمرافق العامة. وظهر ذلك في النمو العمراني للمدينة وتوسعها وامتدادها فوق رقعة تجاوزت مساحتها 5,000 دونم. واتخذ هذا الاممتداد شكل المحاور على طول الطرق المتفرعة من الناصرة إلى المدن والقرى المجاورة. ولم يقتصر الأمر على عدد البيوت بل أصاب التطور نوعها وأساليب عمرانها، فبدت الناصرة بيضاء بيوتها الفخمة التي تضم التجهيزات العصرية، وبشوارعها النظيفة وحدائقها الغناء.

ساهمت بلدية الناصرة في تنظيم المدينة والاشراف على ادارتها وشؤونها منذ عام 1875 عندما تأسس أول مجلس بلدي في المدينة. ففي عام 1922 بلغ مجموع واردات البلدية نحو 4,308 جنيهات، والنفقات مثلها. وفي عام 1944 كانت وارداتها نحو 18,000 جنيه ونفقاتها نحو 17,000 جنيه. وقد أعطت البلدية عام 1935 وحده نحو 150 رخصة بناء بقيمة 17,000 جنيه.

7) في ظل الاحتلال الإسرائيلي: ظلت بلدية الناصرة تدير شؤون المدينة بعد عام 1948 رغم قسوة الاحتلال الإسرائيلي. فقد أقامت (إسرائيل) مدينة الناصرة العليا الصهيونية “نزاريت عليت” لتكون كماشة من الأبنية الحديثة على الجبال والهضاب المطلة على المدينة من جهتي الشرق والشمال. وتسكن هذه المدينة مجموعات من المستوطنين الصهيونيين خصصت لهم الأحياء الشرقية. وأما المنطقة الشمالية فقد خصصت لإقامة عائلات الجنود الصهيونيين المتزوجين.

بلغ مجموع سكان الناصرة العربية عام 1983 قرابة 41,700 نسمة وارتفع في عام 2001 حتى وصل إلى 62,200 نسمة. أما مجموع سكان الناصرة العليا الصهيونية فقد بلغ عام 1983 23,600 نسمة. ارتفع في عام 2001 ليصل إلى 44,800 نسمة. ولكن موازنة الأولى كانت 17 مليون ليرة إسرائيلية في حين كانت موازنة الثانية 30 مليون ليرة إسرائيلية، أي أن موازنة بلدية الناصرة العليا التي بلغ عدد سكانها ثلث عدد سكان الناصرة العربي تقريباً وصلت إلى ما يقرب ضعفي موزانة بلدية الناصرة العربية  بل إلى أكثر من ذلك اذا أضيف إليها الدعم المقنع الذي تقدمه الحكومة باسم صندوق مشاريع التطوير. وبذلك تبلغ مخصصات الفرد الصهيوني من الخدمات البلدية في الناصرة العليا 5,000 ليرة في العام مقابل 1,500 ليرة للفرد العربي في الناصرة.

هـ- التركيب الوظيفي للناصرة : تتنوع الوظائف التي تمارسها الناصرة منذ الماضي بسبب مكانتها الدينية المرموقة وموقعها الجغرافي الهام. فقد جذبت إليها السكان لإقامة والاستيطان، وأخذ هؤلاء يمارسون حرفاً متنوعة تناسب ظروف مدينتهم.

1) الوظيفة الدينية: للناصرة أهمية دينية خاصة كما لغيرها من مدن فلسطين المقدسة كالقدس وبيت لحم والخليل. ففيها 24 كنيسة وديراً وعدد من المتاحف الدينية. وتضم كذلك بعض المساجد وأضرحة الشهداء والصالحين من المسلمين. وأبرز معالم المدينة الدينية التاريخية كنيسة البشارة التي تقوم على الموضع الذي بشرت فيه مريم بأنها ستلد المسيح. وتقع الكنيسة على مقربة من حافة الجبل المطل على مرج ابن عامر وكان اليهود قد حاولوا أن يلقوا بالسيد المسيح من فوقه إلى أسفل. وهناك كذلك كنيسة القديس يوسف التي أقيمت سكان بيت يوسف النجار وحانوته وكنيسة البلاطة أو مائدة المسيح، وكنيسة سيدة الرحمة، وكنيسة المجمع، وعين العذراء.

جذبت أهمية الناصرة المدينة أنظار العالم المسيحي فأخذ يؤمها آلاف الحجاج المسيحيين والسياح سنويا لزيارة البقاع المقدسة والتاريخية، الأمر الذي يبعث الحياة ويزيد من الحركة والنشاط فيها.

2) الوظيفة الزراعية: تبلغ مساحة الأراضي التابعة للناصرة 1,226 دونماً منها 150 دونماً للطرق والأودية. ولم يكن اليهود يملكون من أراضيها شيئاً. ولكنهم وضعوا أيديهم بعد الاحتلال على مساحة من الأرض الجبلية المرتفعة فأقاموا عليها مدينة صهيونية تمهيداً لتهويد الناصرة.

ويقع كثير من الأراضي الزراعية المحيطة بالناصرة فوق سطوح الجبال والهضاب، وعلى سفوحها ومنحدراتها، وفي بطون الأودية والسهول. وتعد الأرض الزراعية التي تشغل جزءاً من سهل مرج ابن عامر أخصب أراضي الناصرة. وتستخدم الأراضي حول الناصرة في زراعة الأشجار المثمرة كالعنب والزيتون والتفاح والمشمش والتين والرمان واللوز وغيرها. وهناك مساحة كبيرة منها في السفوح الجبلية الشديدة الانحدار تكسوها الغابات الحرجية. وقد زرع اليهود غابة بلفور جنوبي غرب الناصرة تخليداً لذكرى بلفور صاحب الوعد المشؤوم. وتمتد الأشجار الحرجية على جانبي طريق العفولة – الناصرة وتضفي على الطريق منظراً بهيجاً.

وتزرع في أراضي الناصرة المحاصيل الحقلية من قمح وشعير وعدس وفول وحمص وغيرها، علاوة على الخضر على اختلاف أنواعها المعروفة. وتعتمد الزراعة على مياه الأمطار والمياه الجوفية من الينابيع والآبار لري مساحات من الأراضي المنبسطة والأخرى الواقعة في بطون الأودية. وبالرغم من أهمية مدينة الناصرة الزراعية فانها لا تزال تعتمد على المناطق الريفية المجاورة في امدادها بالخضر والفواكه. وأهم القرى الزراعية المجاورة للناصرة كفركنا* والرية* ودبورية ويافا الجليل واكمال.

3) الوظيفة التجارية: كانت الناصرة منذ مطلع هذا القرن مدينة زاهرة تعج بالحركة التجارية ويؤمها القرويون فيجدون ما يطلبون. ولكن الوضع التجاري ركد بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة عندما حلت مجموعة من المستعمرات الصهيونية لحل بعض القرى العربية التي كانت تنبع الناصرة في سهل مرج ابن عامر. لأن أهالي تلك المستعمرات لم يعودوا يعتمدون على الناصرة في تجارتهم. وبالرغم من ذلك فان النارة ظلت سوقاً لأهالي القرى العربية الباقية يعرضون فيها منتجاتهم الزراعية والحيوانية ويشترون منها جميع لوازمهم وحاجاتهم المنزلية.

وتأتي السياحة* على رأس العوامل التي جعلت حركة التجارة رائجة في الناصرة. فالمدينة مركز سياحي مرموق يستقبل عدداً كبيراً من السياح والحجاج المسيحيين كل عام. ويشتري هؤلاء أصنافاً متعددة من الهدايا التذكارية ويعودون بها إلى بلادهم. ويأتي الموقع الجغرافي للناصرة ووجود شبكة طرق كثيرة تربطها بجهات مختلفة من فلسطين والأقطار العربية عاملاً هاماً في ترويج الحركة التجارية. وتعد منطقة الناصرة ظهراً جغرافياً غنياً لميناءي حيفا وعكا.

4) الوظيفة الصناعية: اشتهرت الناصرة في القديم بصناعة النسيج. فقد كانت فيها أموال كثيرة لحياكة أنواع المفارش والجوارب. وتضع في المدينة المناجل والمحاريث. وتعد التجارة والمصنوعات الخشبية أقدم ما عرفته الناصرة من الصناعات. ومن صناعات الناصرة كذلك دباغة الجلود وتفصيلها، وخياطة الفراء، وصناعة الفخار والهدايا التذكارية من سجاد ونحاس وخشب محفور. واشتهرت نساء الناصرة بصنع المطرزات الحريرية. وفي الناصرة معاصر للزيتون والسمسم لاستخراج الزيت والسيرج والطحينة. وفيها أيضاً مصانع للصابون والبسط والحلويات وغيرها.

5) الوظيفة الإدارية: أصبحت الناصرة مركز لمقاطعة الناصرة منذ الاحتلال الإسرائيلي لها. وكانت في العهد العثماني قضاء تابعاً لمتصرفية عكا. ثم أصبحت في عهد الانتداب البريطاني مركز لواء الجليل الذي كان يتألف من خمسة أقضية هي: الناصرة وعكا وبيسان وصفد وطبرية (رَ: الإدارة).

اشتمل قضاء الناصرة عام 1904 على 25 قرية، زاد عددها إلى 37 قرية ومزرعة عام 1910. وفي أواخر الحكم البريطاني ضم قضاء الناصرة 23 قرية وعشيرة واحدة.

بلغت مساحة قضاء الناصرة في عام 1945 نحو 497كم2 منها 8كم2 للطرق والأودية والسكك الحديدية*. وبلغ عدد سكانه 46,100 نسمة في العام نفسه، أي أن كثفافة السكان بلغت 92,4ن/كم2. وتضم مدينة الناصرة الدوائر والمصالح الحكومية والمؤسسات العامة والخاصة التي تؤدي خدماتها لأهاليها وأهالي القضاء.

6) الوظيفة التعليمية: اشتملت الناصرة في أوائل عهد الانتداب البريطاني على عدد من المدارس منها اثنتان للحكومة ومدرسة للكاثوليك وعدة مدارس للأجانب. وكانت فيها دار المعلمين الروسية، وهي من أهم المدارس الفنية. وفي العام الدراسي 1942/1943 ضمت الناصرة ثلاث مدارس حكومية، اثنتان للبنين وواحدة للبنات. وقد أصبحت احدى مدرستي البنين ثانوية كاملة في عام 1948، أما المدرستان الأخريان للبنين والبنات فيهما ابتدائيتان كاملتان. وقد بلغ مجموع المدارس غير الحكومية 11 مدرسة في عام 1943. وفي العام نفسه بلغ مجموع الطلاب في مدارس الناصرة 1ـ735 تلميذاً ومجموع التلميذات 1,224 تلميذة. وتدل هذه الأرقام على أن حياة الناصرة العلمية راقية ظهر أثرها في مستويات الأهالي الثقافية العالية، فقد ساهمت الناصرة في تخريج جبل مشهور من المعلمين والمثقفين والأدباء.

7) الوظيفة الصحية: يتلقى المواطنون في الناصرة خدمات صحية جيدة، ففيها مستشفيان: الأول انكليزي كان يضم في عام 1944 نحو 72 سريراً، ومجموع المرضى الذين تلقوا معالجة فيه خلال ذلك العام 1,731 مريضاً. والثاني فرنسي كان يضم 88 سريراً وعولج فيه 1,278 مريضاً في العام نفسه (رَ: المستشفيات).

مدينة بئر السبع المحتلة

بئر السبع 1938
بئر السبع 1938

 تاريخ مدينة بئر السبع 

مدينة عربية من مدن اللواء الجنوبي لفلسطين، وهي قاعدة قضاء بئر السبع وعاصمة النقب*.

مرت بالمدينة منذ نشأتها أحداث كثيرة، وناضل سكانها ضد الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني، واشتركوا في جميع الثورات، وسقط منهم الشهداء. وقد وقفوا عام 1948 في وجه القوات الإسرائيلية محاولين منعها من احتلال المدينة والتقدم جنوباً في النقب. لكن القوات الصهيونية تغلبت على المقاومة العربية، واحتلت بئر السبع في 21/10/1948، وطردت سكانها العرب، وأحلت مكانهم مهاجرين يهودا (رَ: بئر السبع، معركة -).

أ – الإطار الطبيعي لمدينة بئر السبع.

1) الموقع الجغرافي: تقع مدينة بئر السبع في النقب الشمالي، وتكاد تكون في منتصف المسافة بين البحر الميت* شرقاً والبحر المتوسط غرباً. وهي تتوسط قاعدة المثلث الصحراوي للنقب، إذ تبعد نحو 75 كم غربي البحر الميت، ونحو 85 كم شرقي البحر المتوسط. اكتسب موقعها أهمية خاصة لأنه يربط بيئات ثلاثاً هي: البيئة الصحراوية جنوباً، والبيئة الجبلية شمالاً بشرق، والبيئة السهلية الساحلية شمالاً بغرب. ومن الطبيعي أن نلتقي في هذا الموقع منتجات هذه البيئات، وأن يصبح سوقاً رائجة يؤمها البدو والحضر على حد سواء.

وتعد بِئر السبع مدينة الحافة الصحراوية التي يحتم عليها موقعها الهامشي أن تستقطب أعداداً كبيرة من البدو للاستيطان فيها. كما أن موقعها جذب أعداداً من تجار الخليل وغزة* للإقامة فيها. وفي هذه الحالات كلها ساعدت الطرق* البرية التي تربط بئر السبع بالمواقع الأخرى على استمرار الاستيطان البشري في المدينة وزيادة الحركة التجارية فيها.

وقد زادت أهمية موقع بِئر السبع في العصور الحديثة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، فالمدينة تعد بحق البوابة الجنوبية لفلسطين من جهة النقب، والبوابة الشمالية للنقب، والبوابة الشرقية لسيناء.

ففي الحروب العربية – الإسرائيلية التي نشبت منذ عام 1948 كانت بئر السبع بموقعها الاستراتيجي الهام محط أنظار الجيوش المتحاربة. وقد حرص الجيش المصري عام 1948 على السيطرة على بئر السبع للتحكم في صحراء النقب (رَ: حرب 1948)، ثم تمكنت القوات الإسرائيلية من احتلال بئر السبع وانطلقت منها لاحتلال النقب بأكمله. وفي حروب 1956* و1967* و1973* كانت مدينة بئر السبع قاعدة انطلاق الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة وسيناء وقناة السويس، لذا اهتمت (إسرائيل) بربط المدينة بجميع جهات فلسطين بمختلف طرق المواصلات.

وهكذا أصبحت بئر السبع عقدة مواصلات هامة منذ عام 1948، تربطها بجميع أجزاء فلسطين شبكة مواصلات كثيفة، فالطرق المعبدة من الدرجة الأولى تربطها بمدن السهل الساحلي في الشمال والغرب مثل حيفا* (200 كم) ويافا* – تل أبيب* (107كم ) وأسدود والمجدل* (عسقلان) وغزة (65 كم). كما تربطها أيضاً بالمدن الجبلية في الشمال والشرق مثل الخليل والقدس* (85كم) ونابلس* (150كم)، وبالمدن الصحراوية في الشرق والجنوب والغرب مثل عراد وأسدوم  وديمونا* وإيلات* والعوجاء وغيرها، وتنتهي في بئر السبع السكة الحديدية التي تصلها بمحطة النعاني الواقعة على خط يافا – القدس الحديدي. وتم سنة 1965 تمديد هذا الخط الحديدي من بئر السبع إلى ديمونا، وإلى حقول الفوسفات* في النقب. وقد أقيم في بئر السبع مطار حربي، وفي بئر السبع أكبر وأهم محطات الضخ على خط النفط* بين إيلات وحيفا. وبعد عام 1967 أصبحت بئر السبع أحد الممرات الرئيسة التي يعبرها المسافرين العرب بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

2) معالم سطح الأرض في إقليم بئر السبع: يقع إقليم بئر السبع في الجزء الأعلى من حوض تصريف وادي غزة الذي يتألف من أودية الشريعة والشلالة وبئر السبع. وتقوم مدينة بئر السبع على الضفة اليمنى (الشمالية) لوادي بئر السبع فوق رقعة منبسطة من الأرض ترتفع في المتوسط نحو 236م عن سطح البحر. وإلى الشرق قليلاً من بئر السبع يلتقي رافداً وادي بئر السبع، وهما وادي الخليل ووادي المشاش القادمان من مرتفعات الخليل وعراد. وتوجد في بعض هذه الأودية الجافة ينابيع ماء أو آبار تعرف بأسماء مختلفة كالعد والعين والمشاش وغيرها (رَ: عيون الماء).

وإقليم بئر السبع منخفض يتخذ شكل المثلث الذي توازي قاعدته شاطىء البحر المتوسط في الغرب، ويتوغل رأسه كإسفين بين مرتفعات النقب والخليل في الشرق. وتنحدر الأرض بصفة عامة من الشرق إلى الغرب، وتتجه مجاري الأودية وفقاً لهذا الانحدار في طريقها نحو البحر المتوسط. لذا تتفاوت ارتفاعات الأرض في الإقليم فتصل إلى 500م عن سطح البحر في الجزء الشرقي، في حين تحوم حول 250م بجوار مدينة بئر السبع، وتهبط إلى ارتفاعات تراوح بين 50 و100م في الجزء الغربي.

وتتوافر مقومات الخصب في تربة إقليم بئر السبع التي تتألف من ترسبات من طبقات اللويس يصل ثخنها إلى 30م، لكنها تفتقر إلى المواد العضوية وإلى الرطوبة، وهذا يقلل إنتاجها الزراعي. وتؤثر الخواص الميكانيكة لهذه التربية في عملية الانجراف السطحي، وفي تكوين الأراضي الرديئة ذات السطوح الوعرة. وفي الإقليم شبكة من الأخاديد يلتقي بعضها ببعض فتكون أودية ذات مجار أكثر عمقاً واتساعاً.

وعندما تجف تربة اللويس خلال الصيف تنكمش وتتشقق وتتفكك ذراتها بسبب ارتفاع الحرارة. لما كانت هذه الذرات ناعمة خفيفة فإن الرياح ترفعها وتطيرها في زوابع ترابية معروفة في هذا الفصل. وتمتد الكثبان الرملية فوق مساحات واسعة تقدر بنحو 500كم2 في القسمين الغربي والجنوبي من إقليم بئر السبع، أي زهاء ثلث سطح أرض الإقليم.

3) المناخ والمياه: مناخ* مدينة بئر السبع شبه صحراوي بصفة عامة، وهو جزء من المناخ السائد في النقب الشمالي. أما القسم الجنوبي من إقليم بئر السبع فإن مناخه صحراوي قاري متطرف، أي أنه حار صيفاً بارد شتاء. ويصل المدى الحراري في بئر السبع إلى 15 درجة مئوية خلال شهري أيار وحزيران، الأمر الذي يؤكد صفة تطرف المناخ. ويراوح متوسط درجات الحرارة ما بين 12 درجة مئوية في شهر كانون الثاني و33.7 درجة مئوية في نهاية شهر آب. وأدنى درجة حرارة سجلت في بئر السبع كانت 1 درجة مئوية في نهاية كانون الثاني 1925.

تهب على بئر السبع صيفاً رياح جنوبية غربية وغربية أثناء الصباح، وتتحول الرياح إلى شمالية غربية بعد الظهر، ثم تتحول إلى جنوبية شرقية أثناء الليل. أما في الشتاء فإن اتجاهات الرياح تكون غير منتظمة، وتحمل الرياح الشرقية أو الجنوبية الشرقية كميات عظيمة من الغبار. ويبلغ المعدل السنوي للرطوبة النسبية في بئر السبع 58%، وتتفاوت المعدلات الشهرية ما بين 41% في نيسان و73% في أيار.

بلغ متوسط كمية الأمطار السنوية بين عامي 1920 و1965 نحو 195مم. وتراوحت هذه الكمية ما بين نهاية صغرى مقدارها 42مم، ونهاية عظمى مقدارها 339مم خلال الفترة نفسها، أي أن مدى التغير في كمية الأمطار بلغ 152%، وهي نسبة مرتفعة في فلسطين. أما معامل التغير فإنه وصل إلى 35. ويبلغ عدد الأيام المطيرة في بئر السبع نحو 33 يوماً في السنة. وتهطل نصف كمية الأمطار السنوية في شهري كانون الأول وكانون الثاني، وثلث كمية الأمطار السنوية في شهري تشرين الثاني وشباط، أي أن 80% من مجموع كمية الأمطار السنوية تهطل خلال هذه الشهور الأربعة. وقد هطلت كمية أمطار مقدارها 64مم (ثلث مجموع الأمطار) خلال 24 ساعة بتاريخ 5/12/1934.

ونظراً لقلة كمية الأمطار التي تهطل على إقليم بئر السبع وعدم كفايتها للزراعة* فإن الحاجة ماسة للمياه الجوفية إلى جانب المياه السطحية المتمثلة في فيضانات الأودية الجافة. وقد كان في بئر السبع أربع آبار عامة يشرف عليها المجلس البلدي وتصل مياهها إلى البيوت. كما اشتملت المدينة على آبار أخرى يملك 25 منها بعض المواطنين. غير أن مياه الآبار لم تكن كافية لسد حاجات السكان المتزايدة أثناء فترة الانتداب، لذا عدل الخبراء آنذاك عن فكرة حفر الآبار، وأخذوا يميلون إلى إنشاء السدود كالسد الذي تم تشييده في وادي أبي سمارة.

ب- نشأة بئر السبع وتطور نموها السكاني والعمراني:

1) الكنعانيون: كان الكنعانيون أول من عرف من سكان المنطقة، والراجح أنهم أطلقوا على مدينتهم هذا الأسم لوجود سبع آبار قديمة بها. وتشير أسفار العهد القديم إلى أنها كانت مأهولة حينما كان إبراهيم الخليل* يجوب بقطعانه هذه البلاد، وأن خلافاً نشب بينه وبين أبي مالك زعيم سكان بئر السبع حول بئر ماء. مما اضطر إبراهيم إلى أن يقدم سبع نعاج تعويضاً لأبي مالك، فدعي ذلك الموضع بئر السبع.

انتاب بئر السبع في تاريخها الموغل في القدم ما انتاب غيرها من بلاد فلسطين، وخضعت للأمم التي استولت على هذه البلاد من أشوريين وبابليين وفرس ويونان ومصريين وسواهم.

وقد أضعفت هجمات الغزاة على أرض كنعان أهلها الكنعانيين مما أدى إلى خضوعهم لقبائل عربية أخرى كالعموريين* الذين امتد نفوذهم إلى تل عراد وتل الملح في قضاء بئر السبع، وكانوا من ألد أعداء بني إسرائيل.

2) في عهد الفلسطينيين: استوطن الفلسطينيون جنوب فلسطين قبل قدوم بني إسرائيل إليها، وكانت بئر السبع قد شهدت صراع الفلسطينيين من الغرب والساميين من الجنوب والشرق، والإسرائيليين من الشمال. وكانت الحرب بين هذه الأقوام سجالاً تمكن الإسرائيليون خلالها من بسط نفوذهم على بئر السبع التي كانت أقصى حدود (الدولة اليهودية) في جنوب فلسطين، وكان يقال عن حدود هذه الدولة من دان إلى بئر السبع.

3) في عهد الأنباط والرومان: وقد ازدهرت مدينة بئر السبع ومنطقتها في عهدي الأنباط * والرومان حين كانت ممراً حيوياً لتجارة العالم تعبره القوافل العربية حاملة خيرات الهند وإفريقية إلى مصر وغيرها من مدن الساحل الفلسطيني، مما أدى إلى إنشاء سلسلة من المدن والمحطات التجارية مثل عبدة والعوجاء والخلصة ورحيبة وغيرها. امتد سلطان دولة الأنباط العربية من خليج العقبة* حتى حدود مصر وشواطىء البحر المتوسط. وحوالي القرن الرابع قبل الميلاد بلغ نفوذ الأنباط سيناء وجنوبي سورية والعراق، وظلت دولتهم قائمة حتى دخلت في حوزة الرومان في عهد الإمبراطور تراجان (98 – 116م).

وكانت بئر السبع في العهد الروماني قرية كبيرة تقيم بها حامية عسكرية. وحينما انتشرت المسيحية* في فلسطين جعلت بئر السبع أسقفية. وأنشأ الرومان كنائس بئر السبع وسبسطية، وأقاموا الكثير من الأبنية والإصلاحات العمرانية منها حصون الحفير وكرنب، وعبدوا الطرق، وحفروا الصهاريج وأقاموا السدود، وغرسوا الأشجار، واسترضوا القبائل العربية في المنطقة، وحالفوهم، ومنحوهم الألقاب والرتب لمساعدتهم في حفظ الأمن.

وقد أثرى سكان بئر السبع وما حولها لوقوع بلادهم في ملتقى طرق تجارية كان من أبرزها:

1)   طريق العقبة – بئر السبع وتمر بالكنتلا وبير بيرين والعوجاء والخلصة وبئر السبع، ومنها تتجه غرباً* وشمالاً إلى الخليل*.

2)   طريق العقبة – عين غضيّان – البتراء – ميّة عوض – عبدة – الخلصة – بئر السبع.

3)   طريق بئر السبع – عين حصب* مارة بكرنب، وتستمر الطريق من عين حصب في سيرها الجنوبي عبر وادي عربة حتى تصل إلى ميّة عوض.

ولا ريب في أن مرور القوافل التجارية في منطقة بئر السبع، وما تحقق لأهلها من أرباح، وإقامة السدود والصهاريج في البلاد، كل ذلك حفر بعض السكان على الاستقرار وإقامة المدن العامرة بالأسواق، وزراعة مختلف المزروعات والأشجار.

وكان العرب قبل الإسلام يرتادون هذه المنطقة، وقد توطنتها قبائل منهم كلخم* وجذام*، وكانت غزة على عهد الروم مدينة فاخرة وبقعة عامرة زاهرة تقصدها قريش في رحلة الصيف التجارية وتألف ضواحيها وخصبها، وإلى عهد قريب كانت قبائل بئر السبع تعرف بعريان غزة.

4) في الحكم العربي: في القرن السابع الميلادي فتح المسلمون فلسطين، وعرفت لديهم بئر السبع بأنها بلدة عمرو بن العاص* لاتخاذه قصر عجلان في قضائها مقراً له حينما اعتزل عمل مصر في عهد عثمان بن عفان. ولا شك في أن بئر السبع كانت مدينة عامرة، ولولا ذلك ما اتخذها – وهو من أعظم القادة – دار إقامة. وتذكر الروايات أنه انطلق من بئر السبع ليلحق بمعاوية بن ابي سفيان* في خلافة علي بن أبي طالب.

وكانت بئر السبع من مدن فلسطين المعروفة على عهد بني أمية، وقيل إن سليمان بن عبد الملك كان يقيم بها حينما جاءته الخلافة. وذكر أن والي فلسطين سعيد بن عبد الملك الذي عرف بحسن سيرته كان نازلاً بمدينة بئر السبع عندما بلغته أخبار مقتل الخليفة الأموي الوليد بن يزيد سنة 126هـ/ 744م.

5) أيام الصليبيين: تضافرت في العصور التالية عدة أسباب أضعفت شأن مدينة بئر السبع. ومن أبرزها تحول طرق التجارة عنها، والقحط الذي عم قضاءها. لذلك لم تكن المدينة ذات شأن في الحروب الصليبية، ولما استولى الصليبيون على بيت جبرين* ظنوها بئر السبع، ولم يتقدم هؤلاء كثيراً في جنوب فلسطين، وما إن حل القرن الخامس عشر الميلادي حتى كان سكان مدينة بئر السبع قد هجروها فأصبحت خراباً ليس لها ذكر.

6) في العهد العثماني: أعاد العثمانيون في العهد الحديث بناء مدينة بئر السبع (1319هـ/ 1900م) على بعد ثلاثة أميال للغرب الجنوبي من موقعها القديم. وهدفوا من وراء ذلك أن يثبتوا وجودهم بالقرب من الحدود المصرية التي كانت المفاوضات دائرة بشأنها آنذاك، هذا إلى جانب رغبتهم في حفظ الأمن بين القبائل المتنازعة. كذلك أراد الأتراك أن تكون مدينة بئر السبع عاملاً هاماً في توطين البدو وجمع الضرائب التي كانت تذهب هدراً قبل ذلك، فأنشأوا المدينة وجعلوها مركز قضاء بئر السبع وأتبعوا قائمقامها لمتصرفية القدس (رَ: الإدارة).

وقد عمدت الحكومة في سبيل تحقيق سياستها إلى شراء ما يقرب من ألف دونم ووهبتها المجلس البلدي على أن يبيع منها من شاء التوطن من سكان المدن المجاورة، كما وهبت كل من أراد التوطن من بدو القضاء دونماً واحداً على أن يبني له سكناً يقيم فيه. ولاستكمال إدارة القضاء ألفت الحكومة مجلسين جعلت أحدهما للإدارة والآخر للبلدية، وأنشأت داراً للحكومة وثكنة للجنود، وكلفت مهندسين رسم خريطة للمدينة وفق الطراز الهندسي الحديث، فقسمت بموجب ذلك إلى بقع متساوية يفصل بين البقعة والأخرى شارع فسيح.

ساعدت إجراءات الحكومة في نمو المدينة، وازداد عدد سكانها من أفراد القبائل وعرب المدن الأخرى، فبلغ عدد سكانها عام 1902 نحو 300 نسمة، وأصبح في عام 1912 نحو 800 نسمة وفي عام 1915 نحو ألف نسمة. وقررت الحكومة إعلاء لدرجتها جعلها مركزاً لمعاون المتصرف، ثم لم تلبث أن أعادتها قائمقامية كما كانت إثر إعلان الدستور عام 1908.

ومن أبرز حكام قضاء بئر السبع العثمانيين القائمقام آصف بك الدمشقي الذي شهدت مدينة بئر السبع في عهده حركة عمرانية واسعة منها تشييد دار للبلدية اتخذت بعدئذ منزلاً للحكام، وسحب المياه من بئر النشل وتوزيعها على المدينة وأطرافها. وتم إنشاء جامع في غاية الاتقان الهندسي – حوله اليهود فيما بعد متحفاً – وجلبت حجارة مئذنته من خربة الخلصة. وأقيمت مدرسة ذات طبقتين لأبناء البدو، ومطحنة، وسلك للمخابرات البرقية، ودار للبريد، وغرست أعداد كبيرة من الأشجار.

وحينما اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م ) زاد اهتمام الأتراك بمدينة بئر السبع لأهمية موقعها في جنوب البلاد فاتخذت قاعدة للجيوش العثمانية المتجهة إلى قناة السويس.

وأضيف إلى المدينة كثير من الأبنية، وأنشئت مخازن محطة  سكة الحديد التي ربطت بئر السبع بمحطة وادي الصرار على خط حديد يافا – القدس، وامتدت السكة الحديدية من بئر السبع إلى قلب سيناء، وعبدت الطرق بينها وبين الخليل والعوجا، وأضيئت في تلك الفترة بالكهرباء.

7) في عهد الانتداب البريطاني: فشلت خطط الأتراك أمام هجوم الجيش البريطاني الذي احتل بئر السبع في 31/10/1917، وأقام الجيش البريطاني في هجومه على فلسطين خطاً حديدياً يربط بئر السبع برفح*، لكنه لم يلبث أن نزع سنة 1927. وكان الخط الحديدي بين بئر السبع ومحطة وادي الصرار قد نزع قبل ذلك.

وقد اتسعت المدينة في عهد الانتداب، وبلغ عدد سكانها وفقاً لتعداد عام 1922 نحو 2.356 نسمة، ووصل عددهم في تعداد 1931 إلى 2.959 نسمة. وقدر عدد سكان المدينة في عام 1945 بنحو 5.570 نسمة، ونقص عددهم في عام 1948 إلى 200 نسمة نتيجة لتهجير معظم سكان المدينة منها إثر الحرب العربية – الإسرائيلية.

بلغت مساحة المدينة في أواخر عهد الانتداب البريطاني نحو 3.890 دونماً، أي ما يقرب من 4كم2. وقد اشتملت معظم هذه المساحة على مبان سكنية، وعلى وسط المدينة التجاري (قلب المدينة) وما فيه من أسواق ومحاكم للعشائر ومحكمة للصلح ودار للبلدية وناد للموظفين ومستشفى ومستوصف ومدرستين ابتدائيتين للذكور والإناث، وضمت أيضاً مسجدين وكنيستين.

8) في ظل الاحتلال الإسرائيلي: كان يوم 21/10/1948 يوما أسود في تاريخ بئر السبع، إذ تمكن اليهود من احتلال المدينة وطرد سكانها العرب منها وإحلال مهاجرين يهود محلهم. وقد سكن المهاجرون الأوائل في البيوت العربية المهجورة. وبلغ عدد سكان المدينة في نهاية عام 1949 نحو 1.800 نسمة، وما لبث العدد أن ازداد بسرعة في نهاية عام 1950 إلى 8.300 نسمة. ووصل في عام 1956 إلى 25.500 نسمة، وإلى 43.516 نسمة عام 1961، وإلى 74.500 نسمة عام 1969 وإلى 90.400 نسمة عام 1973، فيما بلغ عام 2001، 176.000 ألف نسمة.

ومن الطبيعي أن تتوسع بئر السبع وتمتد في نموها العمراني أفقياً وعمودياً لنمو عدد سكانها السريع. فتضاعفت مساحة أراضي المدينة بعد أن أنشئت ضواح كبيرة تمتد من الشمال والشمال الغربي، وبلغت هذه المساحة 48.000 دونم في عام 1967. وأصبحت المدينة القديمة كجزيرة في وسط هذه المدينة الجديدة. وأنشئت منطقة صناعية امتدت نحو الشرق، وشيدت العمارات السكنية ذات الطبقات الكثيرة لمواجهة الطلب المتزايد للمساكن. ويمكن القول إن المخطط الهيكلي لمدينة بئر السبع يتخذ شكل المستطيل، وتتعامد معظم شوارع المدينة في خطوط مستقيمة تخف بها أشجار الزينة من الجانبين. وتوجد الأحياء الغنية ذات البيوت العصرية في الجهتين الشمالية والشمالية الغربية من المدينة، أي على طول محاور الطرق الرئيسة المؤدية إلى الفالوجة شمالاً، وإلى غزة شمالاً بغرب.

ج- التركيب الوظيفي لبئر السبع:

1) الوظيفة التجارية: كانت بئر السبع محطة للقوافل التجارية في العصور القديمة، وبخاصة في عهدي الأنباط والرومان. وازدهرت الحركة التجارية فيها خلال العصر الأموي. وفي مطلع القرن الحالي استقر فيها عدد من التجار العرب من المدن والقرى المجاورة في إقليمي السهول الساحلية والمرتفعات الجبلية، وبلغ عدد الحوانيت فيها آنذاك نحو 15 دكاناً. وفي فترة الانتداب اهتمت بلدية بئر السبع بإنشاء الوسط التجاري في قلب المدينة فشيدت المحلات التجارية على طول جانبي الشارع الرئيس فيها.

– وقد اعتاد أبناء العشائر المحيطة بالمدينة أن يؤموا أسواق بئر السبع يومياً ليبيعوا مواشيهم ومنتجاتها المختلفة من شعر وأصواف وجلود ولحوم وألبان، ويشتروا ما يلزمهم من حبوب وسكر وأرز وشاي وأقمشة وملبوسات وعباءات وأدوات زراعية

.

وبالإضافة إلى وسط المدينة التجاري كانت تقام كل اثنين سوق عظيمة في الطرف الشرقي من بئر السبع يقصدها البدو من جميع أنحاء القضاء. وقد أطلق على هذه السوق اسم سوق الحلال نسبة إلى المواشي المعروضة فيها. وتعد بئر السبع أهم مراكز تجميع الشعير في فلسطين وإعداده للتصدير إلى بريطانيا عن طريق ميناء غزة.

2) الوظيفة الزراعية والرعوية: كان البدو الذين استقروا في المدينة في مطلع هذا القرن يمارسون الزراعة إلى جانب تربية المواشي وتكاد الزراعة تنحصر في المحاصيل الحقلية كالشعير، وهو أهم المحاصيل، والقمح والذرة والعدس والفول والكرسنّة. وفي السنوات الأخيرة من فترة الانتداب البريطاني زرعت أشجار الفاكهة في مئات الدونمات حول بئر السبع كالعنب والتفاح والمشمش واالوز والتين والرمان والبرتقال والبطيخ، كذلك زرعت بعض أصناف الخضر كالبندورة والبامية والقثائيات.

واعتمد جزء من السكان في معيشتهم على الرعي وتربية المواشي. وأهم المواشي الإبل التي استخدمت في حراثة الأرض ونقل المحاصيل الزراعية والمتاع، وبلغ عددها في قضاء بئر السبع عام 1943 نحو 13.784 رأساً، وبلغ عدد المعز والغنم في السنة نفسها نحو 70 ألف رأس وعدد البقر نحو 10 آلاف رأس. هذا عدا الطيور الداجنة التي تربى في البيوت كالدجاج (51.200) والبط والأوز والديوك الرومية (550). وكانت المواشي تعتمد في غذائها على المراعي الطبيعية المتوافرة في الإقليم علاوة على المزروعات العلفية.

3) الوظيفة الصناعية: اقتصرت صناعات مدينة بئر السبع على الصناعات التقليدية الخفيفة كالصناعات الغذائية والنسيجية (رَ: النسيج، صناعة، والمواد الغذائية، صناعة) وأهم هذه الصناعات طحن الحبوب (الدقيق)، والخبز، والحلويات، والسمن، والجبن، والغزل، ونسج بيوت الشعر والعباءات من شعر الماعز، والأصواف، ودباغة الجلود، والمنتجات الجلدية، والحدادة، والنجارة، والأدوات الزراعية والمنزلية البسيطة.

وأهم صناعات بئر السبع بعد عام 1948 السيراميك، والأدوات الصحية، والطوب، والمبيدات الحشرية، والكيمائيات، والبروميد، والمنسوجات، وطحن الحبوب، ومواد البناء، والألماس، والصناعات المعدنية. ولا تزال بئر السبع مركزاً تسويقياً هاماً للبدو والمقيمين حولها وفي إقليمها، وكذلك لسكان بعض المستعمرات اليهودية في النقب الشمالي.

4) الوظيفة التعليمية والثقافية: كان في بئر السبع مدرستان للحكومة أثناء فترة الانتداب، الأولى للبنين والثانية للإناث. وهناك روضة أطفال تدير شؤونها لجنة خاصة من الأهالي وتستقبل هذه المدارس إلى جانب أبناء المدينة أبناء العشائر بعد أن ينهوا المرحلة الابتدائية في مدرسة عشيرتهم. وقد بلغ مجموع التلاميذ الملتحقين بمدرسة ذكور في بئر السبع الثانوية عام 1947/48 580 طالباً يعلمهم 17 معلماً وقد اشتملت المدرسة على حديقة مساحتها 7 دونمات لتدريب التلاميذ على الأعمال الزراعية، كذلك شيدت في المدرسة غرفة خاصة للأعمال اليدوية والنجارة، وكان يتبعها منزل خصص لإقامة التلاميذ البدو كان فيه 100 تلميذ في العام الدراسي 46/1947. وضمت المدرسة مكتبة بلغ عدد ما فيها من الكتب عام 1947 نحو 1.455 كتاباً في مختلف العلوم والفنون.

ومدرسة الإناث ابتدائية كاملة تأسست في بداية عهد الانمتداب وضمت 300 تلميذة في العام الدراسي 47/1948 تعلمهن 9 معلمات. وضمت مكتبة فيها 651 كتاباً. أما روضة الأطفال فإنها ضمت في العام الدراسي نفسه 90 طفلاً وطفلة تعلمهم معلمتان.

وتجدر الإشارة إلى أن رغبة قبائل بئر السبع في تعليم أبنائها كانت كبيرة جداً، وكانت المدارس تعجز عن استيعاب كثير من المتقدمين إليها، وبلغ ما أنفقته بلدية بئر السبع وسكانها على مدرستي مدينتهم في العام الدراسي 46/1947 نحو 4.306 جنيه فلسطيني، منها 3.669 جنيه فلسطيني تكاليف إقامة الأبنية الجديدة.

وتضم المدينة اليوم عدداً من المدارس والمعاهد العلمية كمعهد النقب للبحوث والدرسات المتعلقة بالمنطقة الجافة الذي يجري تجارب على طرق تحلية المياه المالحة. وعلى طرق الاستفادة من استغلال الطاقة الشمسية والمطر الاصطناعي وتكييف النباتات مع ظروف الجفاف. وهناك معهد بيولوجي لدراسة حياة النباتات في الصحراء علاوة على جامعة النقب التي افتتحت عام 1970. وفي بئر السبع متحف تابع للبلدية.

 مدينة عكا المحتلة

تاريخ مدينة عكا

أ- الإطار الطبيعي للمدينة:

1) الموقع الجغرافي: تقع عكا في الطرف الشمالي لخليج عكا* الذي يعد من أهم الخلجان البحرية في ساحل البحر المتوسط الشرقي. ويدل موقعها بين رأس الناقورة* شمالاً وجبل الكرمل* جنوباً على أهمية عامل الحماية في اختيار الموقع. ويدعم هذا العامل امتداد أقدام جبال الجليل* ومستنقعات نهر النعامين في الظهير الشرقي للمدينة. لذا ساعد موقع المدينة على سهولة الدفاع عنها في المراحل الأولى لنشأتها، إذ كانت محاطة بالحواجز الطبيعية التي عرقات تقدم الغزاة القدماء نحوها. ويتميز موقع عكا بأنه من نوع المواقع السهلة الممتنعة، فهو يطمع للوهلة الأولى، المعتدين، لسهولة الوصول إليه عن طريق البحر المتوسط أو عن طريق سهل فلسطين الساحل، لكن سرعان ما يتبين لهؤلاء أنه موقع منبع غير ميسور.

وتؤثر هذه الصفة في البعد الاستراتيجي لموقع عكا قديماً وحديثاً. فالأهمية الاستراتيجية لعكا تبدو جلية في انفتاح الموقع الجغرافي على الخارج، سواء من ناحية البحر أو من ناحية اليابسة. ومما يؤكد هذه الحقيقة تعاقب الأمم الطامعة في الاستفادة من هذه الصفة التي تضمن لها بقاء الاتصال بأوطانها.

وهكذا كان الموقع الجغرافي لعكا نعمة ونقمة على المدينة في آن واحد: نعمة الانفتاحه على المناطق الأخرى من العالم، وما يتبع ذلك من تبادل تجاري واحتكاك حضاري بين سكان عكا والعالم الخارجي، ونقمة لأنه عرض المدينة لأطماع الطامعين في السيطرة عليها.

يرتبط مياه عكا في ظهيره الخلفي بشبكة طرق* وسكك حديدية* هامة. فهناك طريق السهل الساحلي التي تربط عكا بحدود فلسطين الشمالية متجهة نحو لبنان عبر رأس الناقورة (17كم) وتربط عكا بالجنوب مارة بالموانىء الفلسطينية ومدن السهل الساحلي في طريقها إلى مصر. وترتبط عكا بالجليل وسهل مرج ابن عامر* ووادي الأردن بشبكة طرق هامة أيضاً. كما يربطها بحيفا* خط سكة حديد يتجه نحو الجنوب، ويتصل بخط سكة حديد القنطرة. وتتصل عكا أيضاً، عبر سهل مرج ابن عامر، بالمرتفعات الجبلية لنابلس والقدس والخليل بطرق معبدة. بالرغم من أهمية ميناء عكا فإن قربه من ميناء حيفا جعله يعيش في ظل ذلك الميناء.

2) أشكال سطح الأرض: تقوم عكا في الظرف الشمالي لخليج عكا، فوق رأس الخليج الذي يبدو على شكل شبه جزيرة صغيرة ملتصقة بالساحل. ويمتد رأس الكرمل بارزاً في البحر مكوناً الطرف الجنوبي لخليج عكا، ومتجهاً نحو الشمال الغربي. في حين يمتد رأس عكا نحو الجنوب متوغلاً في مياه الخليج. وبذلك تحيط مياه البحر عكا من الجهتين الغربية والجنوبية، وتتصل باليابسة من الجهتين الشرقية والشمالية. وقد شيدت عكا على مرتفع من الأرض يتفاوت في شكله بين الأرض السهلة والوعرة. ولم تشيد المدينة في الوادي المنخفض خشية غلبة ماء البحر عليها عندما ترتفع أمواجه أثناء العواصف. ويقع ميناء عكا في الجهة الجنوبية لشبه جزيرة عكا، لذا فإنه محمي من الرياح الشمالية، ويتعرض لهبوب الرياح الجنوبية الغربية، وبخاصة في فصل الشتاء. ولسور عكا المحيط بها أبواب تفتح على الواجهات البحرية والبرية.

تكثر المستنقعات* في أطراف عكا، ومنها مستنقع الشاحوطة الذي كان يمتد فوق رقعة مساحتها 3كم2 شرقي عكا. ويتكون هذا المستنقع من فيضان مياه نهر النعامين* أثناء فصل الشتاء. وهناك مستنقع عين البقر شرقي عكا الذي كان يتزود بالمياه من نبع عين البقر. وبالإضافة إلى ذلك توجد بركة الحمام إلى جانب مستنقع الحمام أيضاً. وتمتد كثبان الرمال البيضاء في جنوب عكا، حيث تزرع أشجار النخيل. وإلى جانب المستنقعات التي تغطي السهول الفسيحة الممتدة شرق عكا، تنتشر بعض التلال* في أماكن متباعدة فوق هذه السهول، كتل الفخار وتل كيسان وتل كردانة وتل العياضية. ويصب نهر النعامين في خليج عكا جنوب المدينة، حيث توجد عين البقر على الضفة الشمالية لمجراه الأدنى. وتتزود عكا بالمياه من قناة مائية تستمد مياهها من نبع الكابري* الواقع في الشمال الشرقي لعكا. وتعد السهول الممتدة خلف مياه عكا ظهراً زراعياً غنياً للميناء، إذ تزرع فيها مختلف المحاصيل الزراعية. وإذا قورن سهل عكا بسهل صور في لبنان فانه يبدو أكثر انخفاضاً وأقل اتساعاً من سهل صور، تحدق به تلال تتعاقب من رأس الناقورة شمالاً حتى الكرمل جنوباً. وقد استغلت بعض هذه التلال كمواقع عسكرية للجيوش التي حاصرت عكا في بعض الفترات التاريخية أو للجيوش التي دافعت عن المدينة ضد الهجمات عليها من الناحية الشمالية.

3) المناخ*: ينتمي مناخ عكا إلى مناخ البحر المتوسط الحار الجاف صيفاً، والدافىء الممطر شتاء. وهو على العموم مناخ معتدل، لوقوع عكا على البحر. يراوح متوسط درجات الحرارة العظمى والصغرى في شهري كانون الثاني وآب في عكا بين 9 درجة و15 درجة و22 درجة – 31 درجة على التوالي. ويبلغ المعدل السنوي للرطوبة النسبة نحو 67%، ويرتفع هذا المعدل شتاء وينخفض صيفاً. وتهطل على عكا كميات كافية من الأمطار الشتوية، يبلغ متوسطها السنوي نحو 600 مم، تهطل موزعة على نحو 50 يوماً في السنة. وهي تصيب أكثر ما تصيب أجزاء المدينة الجنوبية الغربية التي تواجه الرياح الجنوبية الغربية المطيرة.

ب- نشأة عكا وتطور نموها السكاني والعمراني:

1) تأسيسها: جرى تأسيس عكا في الألف الثالثة ق.م. على يد إحدى القبائل الكنعانية العربية المعروفة (بالجرجاشيين*) التي جعلت منها مركزاً تجارياً هاماً ودعتها “عكو” أي الرمل الحار. ويروي المؤرخ الروماني “بلني” المتوفى عام 113م أن هؤلاء القوم هم مستنبطو صناعة الزجاج، بعد أن نزل ملاحو سفينة لهم محملة بنترات البوتاسيوم (القلي) على شواطئها ذات الرمال الناعمة، وجعلوا من كتل البوتاسيوم هذه اثافي يضعون القدر عليها لطهو طعامهم، وأضرموا النار فاختلطت نترات البوتاسيوم هذه بالرمال، فكان الزجاج. كذلك التقطوا من على شواطئها أجود أنواع الموركس الذي استخرجوا منه صباغ الأرجوان.

سقطت المدينة عام 1479 ق.م. بأيدي الجيوش المصرية بقيادة تحتمس الثالث*عند اجتياحه البلاد السورية. ثم استولى عليها بعده الفرعون سيتي الأول عام 1324 ق.م. أما العبرانيون* فلم يستطيعوا السيطرة عليها، لا في خلال غزوات يشوع بن نون للمدن الكنعانية ولا خلال حكم ملكهم داود 1000 – 970 ق.م. الذي لم يستطع الوصول إلى أبعد من جبل الكرمل شمالاً. وبذلك استمرت كنعانية عربية إلى أن خضعت للملك الاشوري شلمناصر الخامس في القرن الثامن قبل الميلاد وأمدته بأسطول. ولما اجتاح الفرس جميع البلاد السورية في القرن السادس ق.م. أصبحت كغيرها جزءا من الإمبراطورية الفارسية الكبرى التي شملت جميع أقطار ما يعرف اليوم بالشرق الأوسط. وبقيت على هذه الحال حتى كانت حملات الاسكندر الكبير المقدوني واجتياحه البلاد السورية في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد فخضعت لسلطانه. شأن غيرها من بلدان الشرق الأوسط.

2) في عهد البطالمة* والسلوقيين*: لما خلف البطالمة الاسكندر في حكم فلسطين، أصبحت عكا من قواعدهم الرئيسة، فغيروا اسمها القديم بأن دعوها “بتولمايس” في عهد ملكهم بطلموس الثاني (فيلادلفوس ) 285 – 247 ق.م.

وقد خضعت مثل معظم فلسطين منذ أوائل القرن الثاني ق.م. للسلوقيين، خلفاء الاسكندر في الأقطار الاسيوية من مملكته. وفي عام 69 ق.م. احتلها جيوش الملك الأرمني تيغرانس (ديكران ) بعد اجتياحها سورية بأكملها.

وكانت أبرز مظاهر العصر السلوقي في المدن السورية الفلسطينية ومنها عكا، ازدياد سرعة انتشار الثقافة اليونانية (الهلينية ) وقوتها. وكانت نتيجة التداخل بين الثقافتين اليونانية والسامية حضارة مركبة عرفت بالهلنستية لتميزها من الحضارة اليونانية أو الهلينية الصرف وبذلك تحولت عكا “بتولمايس” مدينة هلنستية، وغلبت عليها الثقافة اليونانية والعناصر الفنية والمعمارية واليونانية، شأنها في ذلك شأن جميع المدن السورية الكبرى، واستمر هذا التيار الحضاري (الهلنستي) في العصر التالي – الروماني (رَ: العصر الهلنستي).

3) تحت حكم الرومان: خلال اجتياح الرومان لسورية فتح القائد (بومبي) عكا في عام 64 ق.م.، وزارها يوليوس قيصر عام 47 ق.م. وأصبحت جزءاً مما دعاه الرومان (الولاية السورية). واستمرت شهرتها في العهد الروماني هذا ينسج الحرير وصبغه بالارجوان، وزاد ازدهارها التجاري مما كان عليه قبلاً، وخاصة بعد انشاء الطريق الساحلي بين أنطاكية شمالاً ورفع جنوباً في عهد الامبراطور الروماني نيرون 54 – 68م وأصبحت أهم مراكز تجارة السمك، كما أصبحت مركزاً لأبوشية مسيحية في النصف الأول من القرن الأول الميلادي بعد زيارة الحواري بولس* إياها.

4) في العهد الإسلامي: بعد انقسام الامبراطورية الرومانية عام 395م إلى شرقية وغربية أصبحت عكا حكما من أجزاء الامبراطورية الشرقية (البيزنطية)، واستمرت كذلك إلى القرن السابع الميلادي، أي إلى زمن الفتوحات الإسلامية العربية، فاحتلها شرحبيل بن حسنة* 16هـ/636م ولما أصبح معاوية بن أبي سفيان* والياً على سورية عام 20هـ/640م وجد أن الجيوش البرية وحدها لا تفي بحماية المناطق الساحلية، فعزم على إنشاء أسطول بحري، وتم له ذلك عندما ظفر في عكا بأحواض لبناء السفن من العهد البيزنطي، حسنة التجهيز، فعمد إلى تشغيلها، وبذلك أصبحت عكا الأولى في صناعة السفن بعد دار الصناعة في الاسكندرية (رَ: معاوية، أسطول) وجرد من ميناء عكا الحملة البحرية الأولى على جزيرة قبرص عام 28هـ/649م، ثم على جزيرة رودس عام 34هـ/654م. وبذلك كانت عكا أول ميناء عربي قام منه المسلمون العرب بأولى غزواتهم في البحر المتوسط. كذلك ازدهرت تجارتها كثيراً في العصر الأموي*، فكان لها شهرة قافلة بالزيتون* واستخراج الزيت منه، وبزراعة قصب السكر واستخراج السكر منه. واستمر ازدهارها هذا طوال العهود العربية.

5) تحت حكم الطولونيين: استولى أحمد بن طولون* على سورية عام 264هـ/877م. ولتوطيد سلطانه عليها واتمام سيطرته على سواحلها حصن مدينة عكا وأنشأ فيها قاعدة بحرية، وأقام برجا على سورها المزدوج. وبغية بناء مرفأ لها في الماء، استدعى من القدس أبا بكر البناء* جد المقدسي، اشهر جغرافيي القرن العاشر الميلادي – فحقق له ذلك بضم جذوع من شجر الجميز بعضها إلى بعض، وتحميلها بالصخور الثقيلة، وجعل لها في الوسط بابا دلى منه سلاسل طويلة بحيث تستطيع السفن الداخلة ليلاً أن تجذبها فتشير بذلك إلى وصولها. وهكذا أصبحت عكا بهذه التحصينات وبهذا المرفأ أمنع موانىء السواحل السورية. وفي منتصف القرن العاشر الميلادي أضحت كباقي البلاد السورية تحت حكم الأخشيديين، إلى أن قضى الفاطميون* على الأخشيدين ودخلوا عاصمتهم الفسطاطا عام 969م فدخلت سورية في حوزتهم. ومنذ ذلك الوقت وقعت عكا تحت سيطرة الفاطميين حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، إلا في فترات كان للسلاجقة الفوز فيها على الفاطمين (رَ: السلجوقيون).

6) عكا في الحروب الصليبية: سعى الصليبيون، لحماية الدولة التي  أسسوها في فلسطين أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، للاستيلاء على معظم الموانىء الفلسطينية، وفيها عكا التي كانت تحت سيطرة الفاطميين. ففي عام 496هـ/1102م أسرت السفن الفاطمية في عكا سفنا تحمل حجاجاً مسيحين عائدين إلى بلادهم، وباعوهم في سوق الرقيق في القاهرة، فخشي ملك بيت المقدس بغدوين الأول سوء العاقبة، وحاصر عكا في العام التالي، فأنجدتها السفن الفاطمية من الموانىء المجاورة مما أعانها، بالإضافة إلى تحصيناتها المنيعة، على الصمود، وحمل بغدوين على رفع الحصار والعودة إلى القدس، مدركاً عجزه البحري، فراح يستنجد بأسطول جنوا وبيزا، فلبت المدينتان دعوته، وقامتا باحتلال جبيل أولاً، ثم حاصرتا عكا بحراً حصاراً محكماً، في حين حاصرها بغدوين في البر (رَ: الجنويون) و(رَ: البيازنة). وعلى الرغم من دفاع حاكمها الفاطمي زهر الدين الجيوشي وأهل المدينة دفاعاً مجيداً مدة عشرين يوماً عجزوا عن حفظ المدينة، فاضطروا إلى التسليم عام 497هـ/1104م ومنذ ذلك الوقت أصبحت الميناء الرئيس لمملكة القدس اللاتينية*، ولم تتوقف الحركة التجارية فيها، بل ظلت الثغر الذي تشحن منه سلع دمشق إلى الغرب (رَ: الفرنجة) و(رَ: عكا، المملكة الصليبية الساحلية). وبقيت في أيدي الصليبيين حتى استرجعها صلاح الدين الأيوبي* عام 583هـ/1187م. لكنهم وقد خبروا متعتها وموقعها الاستراتيجي وميناءها الحصين، عادوا إلى حصارها مدة عامين من 585هـ/1189م – 587هـ/1191م، واستعادوها ومكثوا فيها قرناً كاملاً، أي إلى عام 687هـ/1291م حين دمرهم سلطان المماليك الأشرف خليل بن قلاوون* وأجلاهم عنها، فكانت آخر معاقلهم في ديار الشرق.

شهد لعكا كل من زارها في هذا العهد بالعظمة والمتعة، فالشريف الادريسي يقول عنها: مدينة كبيرة واسعة الأرجاء، ولها مرسى حسن، وناسها أخلاط”. وابن جبير في رحلته إلى فلسطين سنة 578 – 581 هـ يذكرها بقوله: “قاعدة من الافرنج بالشام ومحط الجواري والمنشآت في البحر كالأعلام. مرفأ كل سفينة، والمشبهة في عظمتها بالقسطنطينية، مجمع السفن والرقاق وملتقى تجار المسلمين والنصارى من كل الآفاق”. ويقول ياقوت الحموي عام 612هـ/1215م: “عكا أحسن بلاد الساحل في أيامنا هذه وأعمرها”. ويذكرها القزويني المتوفى سنة 682هـ/1283م قائلاً: “عكا من أحسن بلاد الساحل في أيامنا هذه وأعمرها، وفي الحديث طوبى لمن رأى عكا”. ولا يختلف روادها من علماء الغرب ورحاليهم في نظرتهم إلى المدينة في ذلك العصر عن رأي نظرائهم من جغرافيي العرب وروادهم من أهل المشرق والمغرب، فهذا “فوكاس” يقول عنها: “تزيد عن غيرها” من المدن الساحلية في عدد السكان. تأوي إليها جميع السفن التجارية، ويجتمع فيها الحجاج الآتون في البحر والمسافرون براً”.  أما “تيودوريتش” الذي زار فلسطين سنة 567هـ/1172م فينوه بها قائلاً: “عكا مدينة كبيرة كثيرة السكان. حينما ينزل الحجاج فإنهم مضطرون بعد الانتهاء من الحج إلى الاجتماع في عكا ليحملوا منها إلى بلادهم. وقد عددنا في يوم الأربعاء من أسبوع الفصح ثمانين سفينة في الميناء”. ويقول “بركهارت” في رحلته سنة 1812م: “عكا مدينة حصينة بأسوارها وأبراجها وخنادقها وبقية أعمال التحصين ذات القوة الهائلة. وفي داخل المدينة أمكنة كثيرة محصنة وقلاع وحصون، ولها ميناء كبير جيد في جنوبها تستطيع السفن أن ترسو فيه”.

وبعد فتح الأشرف خليل لها عام 1291م شرع يدمرها خوفاً من أن تعود ثانية رأس حرية للافرنج، يغيرون منها على البلاد السورية. ولم يبق على شيء من حصونها وقلاعها، وأشعل الحريق في أسواقها، فضعفت مكانتها. ويشهد بذلك كل من زارها من العرب والافرنج في القرنين التاليين، أي الرابع عشر والخامس عشر، كابن بطوطة والقلقشندي وأبي الفداء ولودولف فون سنحم الذي ذكر أن حامية عكا في القرن الرابع عشر لم تكن لتتجاوز الستين جندياً يتولون حراسة المدينة والميناء، ويعيشون بالاتجار بالحرير والطيور بسبب كثرة الحجل فيها. ويقول بروكييه في القرن الخامس عشر: “ومع أن هذه المدينة كانت كبيرة وقوية فإنها الآن لا يوجد فيها أكثر من ثلاثمائة من البيوت”.

7) تحت الحكم العثماني: أخذت عكا تستعيد بعضاً من سابق أهميتها التجارية رويداً رويداً، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادين. فمنذ أن خضعت باقي البلاد السورية إلى الحكم العثماني سمح السلطان سليمان القانوني لفرانسوا الأول ملك فرنسا أن يؤسس فيها مركزاً تجارياً للفرنسيين. كذلك أخذت بالتقدم في عهد الأمير فخر الدين بن قرقماز* المعني الثاني، في النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي، الذي ابتنى فيها قصراً له وجامعاً ومخفراً للجمرك، وعمر برجها فازداد عمرانها ونمت تجارتها وأخذت تصدر القطن وتستقبل السفن، حتى كانت نهضتها الحقيقية في عهد الشيخ ظاهر العمر الزيداني* الذي اتخذها عاصمة له بعد الاستيلاء عليها عام 1163هـ/1750م، فقام بتجديد حصونها وأبراجها وعمارة سورها، وبنى فيها السوق الأبيض وخان الشونة، وشجع الزراعة والتجارة والصناعة في منطقتها كلها، فأصبح يصدر من مينائها القطن والحرير والقمح* وسائر منتوجات القسم الشمالي من فلسطين، إلى الأسواق الخارجية. وتلاه في حكم المدينة أحمد باشا الجزار* الذي تم في عهده أعظم  أحداث العصر، وهو دحر نابليون بونابرت وانسحابه من الأراضي السورية بعد أن عجز عن احتلال عكا. قام الجزار بتحصين المدينة مجدداً، فبنى لها سورين الواحد ضمن الآخر وشيد فيها سوقاً وحماماً رائعاً ومسجداً عظيماً على نمط مساجد استانبول الفخمة، وبنى فيها الخان المعروف بخان العمدان، وجر المياه إلى المدينة بقنوات من قرية الكابري. وفي عام 1195هـ/1780م منحه الباب العالي ولاية دمشق جاعلاً إياه بالفعل نائب السلطان في سورية وحاكم لبنان بالإضافة إلى أيالة عكا التي كانت تشمل جزءاً كبيراً من فلسطين. وبذا غدت عكا في عهده “أعظم مدن الساحل” على حد قول رحالة القرن الثامن عشر الشهير فولني الذي زار فلسطين بين 1783 و1785م.

8) حصار نابليون: بلغت عكا أوج مجدها عام 1214هـ/1799م عندما أوقفت زحف نابليون الذي وصل إليها، بعد أن تم له الاستيلاء على مصر وسواحل فلسطين، وقام بمحاصرتها براً وبحراً مواصلاً هجماته العنيفة على أسوارها من 21 آذار إلى 20 أيار، وجاعلاً قاعدته تل الفخار الواقع في ظاهرها، والذي أصبح بعد ذلك يعرف باسمه أيضاً. على انه اضطر إلى الانسحاب بعد ذلك بفضل صمود الجزار ومساعدة الأسطول الانكليزي بقيادة السير سدني سميث الذي استولى على الأسطول الفرنسي ونقل مدافعه الكبيرة إلى عكا معززاً بذلك أسوارها. وبهذا النصر المبين تلاشت أحلام نابليون بالاستيلاء على الشرق (رَ: الحملة الفرنسية). وقد خلف الجزار في الحكم سليمان باشا (العادل)، فرمم ما خلفته حملة نابليون من دمار في أسوار المدينة وحصونها ومختلف مرافقها وأصلحه وجدده، فأعاد بناء جامع المجادلة وجامع البحر، وجر المياه إلى عكا من نبع الكابري. وأمر بإقامة بستان دعاه باسم ابنته فاطمة عام 1816م وقد غرس في ذلك البستان الزهور والأشجار المثمرة، وتضمن أربعة قصور وبركة ماء جرت لها المياه من نبع الكابري. وأقيم لسان خشب على الميناء تسهيلاً لنزول المسافرين إلى القوارب وصعودهم منها إلى البر، وأعيد بناء السوق الأبيض.

وتولى بعده عبد الله باشا الخازندار، وفي عهده جردت الحملة المصرية على سورية بقيادة ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر الذي حاصر عكا حصاراً شديداً، واستمر القتال عنيفا بين المهاجمين والمدافعين مدة ستة أشهر، وأخيراً تمكن من فتحها عام 247هـ/ 1832م واستمرت سيطرته على المدينة إلى عام 1256هـ/1840م أي إلى أن تم جلاء القوات المصرية عن سورية (رَ: الحكم المصري). وقد ضرب المدينة في عهده زلزال هائل عام 1253هـ/1837م أعطب الكثير من أبنيتها وهدمه وقضى على 141 نفساً من سكانها (رَ: الزلازل).

عادت المدينة بعد انسحاب المصريين مركزاً لولاية صيدا كما كانت سابقاً، ثم أخذت أهميتها تتضاءل بعد الحاقها بولاية سورية عام 1281هـ/1864م، كأحد ألويتها (متصرفياتها) وقد أخذت تجارتها تتقهقر بعد احداث الدولة العثمانية ولاية بيروت عام 1305هـ/1888م التي الفت من خمس متصرفيات، كانت عكا إحداهما. وبعد مد الخط الحديدي بين بيروت ودمشق عام 1313هـ/1895م فقدت نصف تجارتها، وذهب النصف الآخر بعد مد الخط الحديدي بين درعا وحيفا كامتداد لسكة حديد الحجاز (دمشق – المدينة المنورة) عام 1904م، فأخذ الكثيرون من أهلها بعد ذلك ينزحون، وانحسرت حركة القوافل عن خاناتها الكبيرة. وقبيل الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) اتصلت بمدينة حيفا بخط حديدي.

تطورت عكا في مطلع القرن العشرين، فزاد عدد سكانها بين عامي 1904 و1908 من 8.146 نسمة إلى 9.279 نسمة. وزاد عدد بيوتها من 963 بيتاً إلى 1.000 بيت. وكان في عكا عام 1908 نحو 166 دونماً و 415 حانوتا و6 جوامع و 5 كنائس و5 خانات و22 سبيلاً، وحمامان ومستشفى وفندق و13 مقهى.

9) الانتداب البريطاني: كانت عكا في بداية هذا القرن ذات مخطط هندسي مستطيل الشكل، تتجمع معظم مبانيها داخل السور، وتكتظ الباحة الداخلية فيها. ونتج عن تجمع المباني في مساحة صغيرة داخل السور اتجاه السكان إلى إنشاء دورهم من عدة طبقات. وأضحت شوارع المدينة أزقة مرصوفة بحجارة مربعة الشكل. وكان سوقها ضيقاً، وحوانيتها صغيرة الحجم. وبعد إعلان الدستور العثماني عام 1908 سمح للأهلين بالبناء خارج السور، فأنشأوا مساكن أصبحت فيما بعد ضاحية جميلة، سميت عكا الجديدة.

كان عدد سكان عكا عام 1922 نحو 6.420 نسمة، ويعزى تناقص السكان إلى أحداث الحرب وويلاتها، بالإضافة إلى هجرة عدد منهم إلى المدن المجاورة الأخرى كحيفا، أو إلى الخارج. ثم أخذت أحوال عكا تتحسن، فارتفع عدد سكانها إلى 7.897 نسمة عام 1931، وزادت بيوتها إلى 1.653 بيتاً. وضمت ضواحي عكا (عين الست والبساتين والرمل والطواحين ومركز سفاد الحيوانات) 268 نسمة كانوا يقيمون في 77 بيتاً.

ارتفع عدد سكان عكا عام 1938 إلى 8.800 نسمة، وبلغ عدد سكان ضواحيها 307 نسمات. وشغلت رقعة المدينة آنذاك مساحة تبلغ 1.474 دونماً. وقد ارتفع عدد سكانها إلى 12.360 نسمة عام 1945، واتسعت رقعتها فبلغت 1.538 دونماً، منها 52 دونماً للطرق والأودية والسكك الحديدية، و6 دونمات من أملاك اليهود. وقد اهتمت بلدية عكا بتطوير المدينة وتنظيم شؤونها الداخلية، إذ فتحت الشوارع وأنشأت حديقة البلدية التي تعد الأولى من نوعها في فلسطين.

10) بعد 1948: تأثرت مدينة عكا بحرب 1948* التي نتج عنها احتلال اليهود للمدينة، فتناقص عدد سكانها إلى 4.000 نسمة في نهاية 1948، من بينهم 874 يهودياً. ويعود السبب في ذلك إلى إجبار عدد كبير من سكانها العرب على الهجرة، وإسكان مهاجرين يهود عليهم. وأخذت المدينة تنمو بعدئذ نتيجة تدفق الهجرة الصهيونية إليها، فارتفع عدد سكانها إلى 9.000 نسمة، منهم 5.200 يهودي. وفي عام 1965 ارتفع العدد إلى 31.700 نسمة، منهم 4.000 عربي. ووصل عددهم في عام 1973 إلى 35.500 نسمة منهم 4.500 عربي ووصل عددهم في عام 1982 إلى 36.400 نسمة، فيما بلغ في عام 2001 45.900 نسمة. وقد توسعت عكا في نموها العمراني نحو الشرق والشمال والجنوب، حتى وصلت حدود بلديتها إلى تل نابليون شرقاً، وحدود قرية السميرية* شمالاً، وحدود مدينة حيفا الكبرى جنوباً. وجميع الأودية الصهيونية الجديدة لها طابع موحد، فهي من أربعة طوابق متعددة الشقق.

ويلاحظ أن جميع المحلات التجارية القائمة خارج أسوار عكا يملكها الصهيونيون، في حين يشترك العرب في امتلاك المحلات داخل السور. ومنذ الاحتلال الصهيوني لعكا تجري سلطات الاحتلال تغييرات في معالم المدينة، لإلغاء طابعها العربي، وصبغها بطابع صهيوني. فقد هدمت الأبنية في عدة مناطق لعمل ساحات جديدة، إحداهما قرب قهوة الطحين، والأخرى جنوب حمام الباشا، والثالثة مكان “الكازينو” القديم. وأنشأت منطقة سياحية قرب الميناء، وأقامت رصيفاً بحرياً جديداً من قهوة البحر القديمة حتى المنارة.

ج- التركيب الوظيفي لمدينة عكا: تعددت الوظائف التي تمارسها مدينة عكا منذ القدم، على تفاوت أهمية كل وظيفة من وقت إلى آخر، حسب ظروف المرحلة التاريخية التي تمر فيها المدينة.

1) الوظيفة العسكرية: رأس الوظائف التي مارستها عكا عبر مراحل نموها التاريخية منذ نشأتها الأولى وحتى العصور الحديثة. وما الأسوار* المحيطة بعكا من جهتيها البرية والبحرية، والأبراج والحصون والقلاع إلا شواهد على أهمية هذه الوظيفة العسكرية (رَ: القلاع والأبراج). وقد عرضها موقعها الجغرافي الاستراتيجي لأطماع المعتدين، وتسابقت في احتلالها أمم شتى، وتعاقبت عليها عمليات التدمير والبناء والترميم، وتوالت عليها حالات الفوضى والهدوء، وظروف الكساد والازدهار.

وقد استبسل سكان عكا في الدفاع عن مدينتهم في كل مرة كانوا يتعرضون فيها للغزو والعدوان. وكانت نتيجة تضحياتهم سقوط آلاف الشهداء، وامتزاج الدماء بثرى عكا، وتحت أسوارها. وكانت أبرز العمليات العسكرية التي عاشتها عكا أيام الغزو الصليبي، وخلال حصار نابليون بونابرت لها. وفي عام 1948 استبسل أهالي عكا في الدفاع عن مدينتهم عندما تعرضت للعدوان الإسرائيلي، وقد تمكن الإسرائيليون من احتلال عكا والاستفادة من موقعها الاستراتيجي في حروبهم اللاحقة مع العرب (رَ: عكا، معركة -).

2) الوظيفة التجارية: أثرت أهمية موقع عكا في وظيفتها التجارية منذ القديم، إذ كان مرفأ عكا يستقبل البضائع المستوردة، كما كانت تشحن منه صادرات المنطقة الشمالية لفلسطين والأردن وصادرات منطقة حوران في سورية. وكانت عكا حلقة وصل بين أوروبا وفلسطين، ونقطة تجمع الحجاج المسيحيين إلى الأرض المقدسة. وبالإضافة إلى ذلك كانت عكا إحدى مدن سواحل الشام التي تمتع الأوربيون بالامتيازات التجارية فيها. وقد اتخذ التجار الأوروبيون خان الفرنج الواقع شمال شرق خان الجزار، وخان الشواردة الذي يقع على الطريق بين باب البر والميناء، مستودعين لبضائعهم أيام الحكم العثماني.

وأقيمت في عكا منذ أيام ظاهر العمر والجزار خانات متعددة، كان ينزلها المسافرين والتجار والقوافل المتعددة التي تحمل خيرات البلاد لتنقلها السفن إلى البقاع البعيدة. وبقيت هذه الخانات عامرة حتى أواخر القرن التاسع عشر، ومن أشهرها خان الجزار، وخان الشونة. وإلى الشرق من جامع الجزار توحد شوق شرقية تتألف من صفين من الحوانيت المعقودة، يفصلها ممر عريض مسقوف، يطلق عليها حالياً اسم السوق الشرقية. وتباع فيها الفاكهة والخضر، كذلك تباع فيها بعض المجوهرات والقطع التذكارية للسياح الوافدين لزيارة الأماكن الأثرية والتاريخية.

3) الوظيفة الزراعية: يمتد خلف عكا ظهير زراعي غني، يتمثل في سهل عكا* الذي لا يملك اليهود فيه أي شبر. والأراضي الزراعية التابعة لعكا صغيرة المساحة. وأهم المحاصيل الزراعية التي تنتجها عكا الحبوب بأنواعها المختلفة، وجميع أصناف الخضر وكثير من الأشجار المثمرة. وتأتي أشجار الزيتون والحمضيات في رأس قائمة الأشجار المثمرة التي تزرع حول عكا، إلى جانب العنب والتين واللوز والمشمش والبرقوق والخوخ والتفاح والكمثري والموز والنخيل. وإلى الشمال من عكا يوجد بستان البهجة. ولا يكفي الانتاج الزراعي حاجات السكان الاستهلاكية، لذا تعتمد المدينة اعتماداً كبيراً على ما ينتجه الريف العربي المجاور لها من منتجات زراعية وحيوانية لسد حاجاتها التموينية والغذائية.

وتعد عكا من أهم الموانىء الفلسطينية لصيد السمك. وقد تطور انتاج الأسماك* من 44 طناً عام 1925 إلى 18.000 طن عام 1945. وبعد احتلال الإسرائيليين عكا زادت الكميات المصيدة من الأسماك إلى حد وصل درجة الاستنزاف. وقد أنشئت على بعد كيلومترين شمال المدينة مزرعة تجريبية للماشية.

4) الوظيفة الصناعية: لم توجد في عكا صناعة تستحق الذكر في الماضي، واقتصرت صناعاتها على الصباغ الأرجواني المستخرج من الصدف، بالإضافة إلى العباءات والمنسوجات الحريرية والأبواب الحديدية والمراكب. وفي عهد الانتداب البريطاني تقدمت الصناعة* العربية في عكا. وكان من أهم المنتجات الصناعية الكبريت والفخار والطوب زيت الزيتون والحلويات والأقمشة والزجاج والخزف والمرايا والدهانات والمسائر الكهربائية والمياه الغازية والدقيق والثلج.

أنشأت سلطات الاحتلال في عكا منطقة صناعية شرق المدينة، ضمت مدينة الصلب ومصنعاً لإنتاج أنابيب الفولاذ، ومصنعاً للمعلبات (الفواكه والخضر)، ومصنعاً لتعليب السردين، ومصنعاً للبورسلين قرب مصب نهر النعامين، ومصنعاً للأدوات الكهربائية والمواد الكيميائية، بالإضافة إلى عشرات المحلات الصغيرة لانتاج النحاس*، والصناعات السياحية التي يشرف على إنتاجها الصناع العرب.

5) الوظيفة الإدارية: كانت عكا في عام 400م مركزاً لمقاطعة تمتد من جنوب الكرمل في الجنوب إلى وادي القرن والزيب في الشمال. وكانت أهم قاعدة من قواعد الافرنج في الشام أثناء الغزو الصليبي للمشرق العربي، إذ سميت مملكة عكا. واتخذها ظاهر العمر عاصمة لامارته، كما اتخذها أحمد الجزار مركزاً لولايته. وفي عام 1888 تقرر أن يكون قضاء عكا واحداً من الأقضية التابعة لولاية بيروت. وقد ضم قضاء عكا  آنذاك ثلاث نواح و58 قرية. وفي عام 1906 ألحقت عشر من قواته بقضاء الناصرة، فأصبح عدد قرى قضاء عكا 48 قرية. خلال الحرب العالمية الأولى كان قضاء عكا يضم 60 قرية.

تألف قضاء عكا في أواخر عهد الانتداب البريطاني عام 1945 من مدينة عكا و52 قرية و8 عشائر و9 مستعمرات صهيونية. وبلغت مساحة القضاء قرابة 800 كم2، وبلغ مجموع سكانه نحو 68.330 نسمة. وكانت القرى العشر الأولى بحسب كثرة سكانها: ترشيحا* والبصة* وسخنين والزيب وتمرة وعرابة* وشعب والرامة وبيت جن والبروة*.

وكانت عكا قاعدة القضاء ومقر الدوائر الحكومية المتعددة التي تشرف على شؤون عكا وسائر سكان القضاء التابع لها. وقد احتفظت عكا بمكانتها كمركز إداري لقضاء عكا أثناء الاحتلال الإسرائيلي.

6) الوظيفة التعليمية: ضمت عكا خلال الحرب العالمية الأولى خمس مدارس للحكومة، إحداها مدرسة اعدادية كان فيها 70 طالباً، ومدرستان ابتدائيتان للبنين ضمتا 252 تلميذاً، ومدرستان للبنات ضمتا 220 تلميذة. وفضلاً عن ذلك في عكا “مكتب” ذكور ابتدائي للروم الارثوذكس، وآخر للحضانة، وفي كل مكتب منها 70 تلميذاً.

كان في عكا أثناء الانتداب البريطاني ثلاث مدارس للحكومة، اثنتان للبنين وواحدة للبنات. وقد ضمت هذه المدارس خلال العام الدراسي 1942/1943 نحو 660 تلميذاً يعلمهم 19 معلماً. و531 تلميذة تعلمهن 15 معلمة. إلى جانب عشر مدارس خاصة، ومنها مدرسة الجزار التي ضمت 1.067 تلميذاً وتلميذة. وفي نهاية فترة الانتداب البريطاني كان في عكا مدرستان رسميتان للبنين، إحداهما ثانوية كاملة والثانية ابتدائية. بالإضافة إلى مدرستين للبنات، إحدهما ثانوية متوسطة والثانية ابتدائية. أما المدارس الخاصة فكانت متعددة. تشرف عليها جمعيات خيرية. وكانت جميع مدارس عكا تهتم بالحركات الكشفية والرياضية (رَ: التربية والتعليم).

أثرت النهضة التعليمية في ارتفاع المستويات الثقافية لدى سكان عكا العرب،وفي زيادة وعي المواطنين في المدينة وانفتاحهم على الثقافات الأجنبية الأخرى. ويعاني سكان عكا العرب من ظلم الاحتلال الإسرائيلي، ويواجهون كغيرهم من عرب الأرض المحتلة مشكلة المناهج التي تضعها سلطة الاحتلال لإكراههم على الانقطاع عن مواصلة التعلم.

 مدينة حيفا المحتلة

تاريخ مدينة حيفا


أ- الموقع الجغرافي: حيفا مدينة ساحلية في الطرف الشمالي للسهل الساحلي الفلسطيني* ومياه على البحر المتوسط. وهي ذات موقع جغرافي هام. فالمدينة نقطة التقاء البحر المتوسط بكل من السهل وجبل الكرمل. وقد جعلها البحر أكبر الموانىء في فلسطين، في حين جعلها السهل منطقة زراعية منتجة لجميع محاصيل البحر المتوسط. وأما جبل الكرمل* فاكتسبها منظراً بديعاً ومناخاً معتدلاً. وقد أعطت هذه المزايا الطبيعية الموقع بعداً اقتصادياً هاماً وبعداً عسكرياً أيضاً. وما الأطماع الاستعمارية التي تعرضت لها المدينة عبر العصور التاريخية، بدأ بالغزو الصليبي وانتهاء بالهجمة الصهيونية، إلا تأكيد خطورة هذا البعد العسكري.

ظل موقع حيفا هاماً في معظم الأوقات، فهي وجه فلسطين البحري ومنفذها الرئيس إلى العالم الخارجي. وتنعم بظهر غني في المناطق الشمالية لفلسطين، وفي الأردن والعراق، بالإضافة إلى المنطقة الجنوبية السورية. ولا شك في أن وقوعها على خليج بحري عميق جعل منها مرفأ محمياً طبيعياً يصلح لرسو السفن الكبيرة. ويعد سهل مرج ابن عامر*، وهو الظهر المباشر لميناء حيفا، حلقة وصل طبيعية بين الميناء وظهيره البعيد، لأنه يرتبط بالمياه بفتحة طبيعية يجري عبرها وادي نهر المقطع* في طريقه إلى مصبه في خليج حيفا البحري. ويمكن القول إن حيفا انتقلت من أوائل هذا القرن من قرية متواضعة لصيادي الأسماك إلى مرفأ بحري للسفن. وقد زادت أهميتها عندما وسعت حكومة الانتداب البريطاني عام 1929 الميناء وأقامت المنشآت الضخمة فيه وجهزته بكل الوسائل الحديثة. وبحلول عام 1933 الذي افتتح فيه ميناء حيفا الحديث أصبحت حيفا الشريان الحيوي لفلسطين والأردن وسورية والعراق وإيران وغيرها من الأقطار الآسيوية. وفي ذلك العام افتتح مدير شركة بترول العراق أنبوب الزيت الذي يصل آبار النفط في كركوك بمستودعاته في حيفا حيث يتم تكريره وتصديره إلى الخارج.

وقد ارتبطت حيفا بظهيرها القريب والبعيد بشبكة من الطرق المعبدة* والسكك الحديدية*. ففي عام 1905 افتتح الفرع الغربي للخط الحديدي الحجازي رسمياً في حيفا، وهي الفرع الذي يصل بين حيفا والعفولة* وبيسان* وسمخ* ودرعا. وهناك طريق معبدة تسير بمحاذاة الخط الحديدي متجهة شرقاً عبر سهل مرج ابن عامر وسهل بيسان إلى وادي الأردن، ومن ثم إلى الأردن وسورية والعراق. وتتفرع من هذه الطريق طرق أخرى تؤدي إلى كل من الناصرة* شمالاً، وجنين* ونابلس* ورام الله* والقدس* والخليل* جنوباً.

وفي عام 1919 وصل خط سكة حديد القنطرة – غزة – اللد إلى حيفا ومنها إلى بيروت. وهناك طريق معبدة تسير بمحاذاة هذا الخط. وبذلك أصبحت حيفا ترتبط بمصر عن طريق السهل الساحلي الفلسطيني وسيناء، وتتصل بلبنان عبر سهل عكا* بطريق معبدة وخط سكة حديد يمران من عكا وبيروت في طريقهما إلى طرابلس الشام. وفي حيفا مطار جوي يربط المدينة بالمطارات الداخلية الأخرى في فلسطين وبالعالم الخارجي.

ب- الوضع التضاريسي: يتفاوت منسوب الأرض داخل المدينة من جهة لأخرى. فهو يراوح بين 50 و546م فوق سطح البحر. وتتكون حيفا من أراض سهلية منبسطة إلى جانب الأراضي المرتفعة لجبل الكرمل. وهذا الجبل امتداد طبيعي لجبال نابلس* نحو الشمال الغربي يتوغل في البحر المتوسط على شكل بروز أراضي مرتفع. وقد نتج عن امتداد خط الصدع بمحاذاة أقدامه الشمالية والشرقية ارتفاع الجبل إلى أكثر من 500م فوق سطح البحر، وهبوط الأرض على طول خط الصدع مكونة ما يعرف بخليج عكا.

ويجري في منطقة حيفا الأدنى لنهر المقطع الذي يستمد بعض مياهه من السفوح الشرقية لجبل الكرمل ويصب في خليج عكا على مسافة 4 كم من المدينة. وتشتمل معظم الأراضي السهلية الساحلية على تكوينات رملية حديثة في الجهة الغربية، وعلى سهول فيضية من المارن (تراب تكثر فيه العناصر الكلسية والصلصالية) والحصى الرملي في الجهة الشرقية. ويتكون معظم جبل الكرمل من الحجر الكلسي إلى جانب بعض التكوينات الرملية. وتنتمي التكوينات السطحية لمدينة حيفا وما حولها إلى الحقبة الجيولوجية الرابعة.

ج- المناخ* والمياه: يسود مدينة حيفا مناخ البحر المتوسط الحار الجاف صيفاً والدافىء الماطر شتاء. ويبلغ متوسط درجة الحرارة السنوية 20 – 21 درجة مئوية، مراوحاً بين 12 درجة مئوية شتاء و28 درجة مئوية صيفاً. ويبلغ المعدل السنوي على شاطىء البحر – يزداد خلال فصل الشتاء ويتناقص خلال فصل الصيف. وأما متوسط كمية الأمطار السنوية خلال السنوات من 1901 إلى 1940 فقد بلغ 635.4 مم. وبلغ معدل عدد أيام هطول الأمطار 31 يوماً في السنة.

تتفاوت أحياء حيفا فيما بينها بالنسبة إلى المناخ، فالأحياء المرتفعة تتميز باعتدال درجات الحرارة فيها، وارتفاع كميات الأمطار السنوية التي تهطل عليها، ولا سيما تلك الأحياء الواقعة على سفوح ومنحدرات جبل الكرمل المواجهة للرياح المطيرة. وأما الأحياء السفلى فإنها أقل اعتدالاً وأقل أمطاراً، وبخاصة تلك الأحياء الواقعة في ظل الأمطار (أي السفح الجبلي الواقع في الطرف الثاني الذي لا تمطره الرياح الممطرة). وعلى الرغم من هذا التفاوت المناخي فالمدينة عامة ذات مناخ متوسطي معتدل ذي أمطار كافية. ويؤثر هذا الوضع المناخي في الموازنة المالية للمدينة، فهي إيجابية تحقق فائضاً في كثير من شهور السنة نتيجة تفوق كميات الأمطار السنوية على قيم التبخر والنتح. في حين أن هذه الموزانة سلبية على مدار السنة، لارتفاع أرقام التبخر ووقوعها بين 800 – 900 مم مقابل 600 – 630 مم أمطار سنوية.

وينتج من الوضع المناخي توافر المياه داخل مدينة حيفا وفي إقليمها المحيط بها، إذ تكثر الينابيع على طول أقدام جبل الكرمل، وتكثر الآبار* في الأراضي المنبسطة بالقرب من الجبل. ويتميز تصريف مياه كل الينابيع والآبار بغناه وتدفقه. وأما نوع هذه المياه فجيد صالح لجميع الاستعمالات. وأهم المياه السطحية في المنطقة مياه نهر المقطع التي يبلغ تصرفيها قرابة 10 ملايين م3 سنوياً، وهي على الرغم من وجود نسبة متوسطة من الأملاح فيها تصلح لاستعمالات متعددة أيضاً.

د- النشأة والنمو:

1) التسمية: لم يرد ذكر حيفا في التوراة*، ولكنها وردت في التلموذ* على صورة حيفه، ومعناه الفرضة والمرفأ. كذلك وردت في الكتابات التلمودية باسم “سكيمينوس”. وكان الصليبيون يطلقون على المدينة اسم كيفا Gayphas  أحياناً، واسم سيكامينون Sycaminon  أحياناً أخرى، ويعني باليونانية شجرة التوت، ولعل المدينة سميت بذلك لكثرة شجر التوت فيها. ويرجع أن آثار سيكيمينوس واقعة في موقع تل السمك الذي يعلو البحر عند حيفا القديمة، وقد سمي بذلك لوجود كميات كبيرة من الأصناف البحرية عند قاعدته، ومنها استخرج الفينيقيون* لون الأرجوان القرمزي.

ويشير اسم بوروفيريا أو بورفيريون Porphyrapolis إلى مكان شرقي موقع حيفا الحالية، ومعنى الاسم مدينة الأرجوان.

ولم يرد اسم حيفا في مصادر الفتح العربي. وأقدم ذكر حيفا أورده الرحالة ناصر خسرو 452هـ/ 1060 م، ثم أوردها بالاسم نفسه الشريف الإدريسي 560هـ/1160م، وياقوت الحموي 626هـ/ 1228م.

2) في التاريخ القديم: سكنت منطقة حيفا منذ عصورها قبل التاريخ. وقد اكتشفت بقايا هياكل بشرية في كهوفه جبل الكرمل وبجانب طريق الناصرة عند مستعمرة “نفه شعنان”، وفي مغارة قرب عتليت*. وتعود كلها إلى العصرين الحجرين القديم والوسيط (رَ: العصور القديمة). وقد عثر في الكهوف على جماجم حيوانات وعلى رسوم منحوتة في الحجارة.

وأول من سكن منطقة حيفا في عصور التاريخ هم العرب الكنعانيون الذين عمروا المنطقة وبنوا حيفا على بعد كيلومترين جنوبي حيفا الحالية. وقد بقي من هذه المدينة القديمة بعض آثار تدل على مكانها، منها مدافن بلحف جبل الكرمل على شكل ثلاث قناطر.

وعند شواطىء حيفا نشبت معركة بين الفلسطينيين والمصريين في عهد رمسيس 1191 ق.م. امتلك الفلسطينيون* بعدها الساحل من غزة إلى الجبل. ولما استولى الإسرائيليون في عهد يشوع بن نون على فلسطين جعلت حيفا من حصة “سبط منسى”. وقد تقلبت عليها الأحوال فزهت وخربت مرات كثيرة في عهود الأمم التي تغلبت على فلسطين، فالأشوريين والكلدانيين والفرس واليونان والسلوقيين*.

ارتبطت مدينة حيفا بعدة أحداث ومناسبات دينية جعلت لها مكانة خاصة، إذ يقال إن النبيين الياس واليشع علّما تلاميذهما الديانة في المكان الذي أصبح يطلق عليه اسم “الخضر” أو “مدرسة الأنبياء”، قرب الفنار بين تل السمك ورأس الكروم. والموقع بناء إسلامي قديم وسط حديقة كان يضم مسجداً فيه مغارة تضم كتابة يونانية. واشتهر جبل الكرمل أيام النبي الياس لانتصاره فوق قمته على أعدائه الوثنيين، حتى إن بعض الناس يدعونه أحياناً باسم جبل مار الياس. ومار الياس يقع قرب الخضر، وفيه قطع معمارية وبقايا كنيسة منقورة في الصخر.

ويذكر الإنجيل أن السيد المسيح وطىء أرض حيفا وباركها حتى مر بها مع مريم العذراء في طريقه من مصر إلى الناصرة. وقد اتبع الطريق الساحلية هرباً من خطر الحاكم الروماني. وكانت هذه الطريق الساحلية الرومانية تمر بحيفا العتيقة، وتقطع مقام الخضر وتمر بالزورة، وتسير مع شاطىء البحر أمام باب الكنيسة اللاتينية. ومر بحيفا بولس* الرسول في رحلته الثالثة (58م) قادماً من عكا. وقد حفل جبل الكرمل منذ ظهور المسيحية* بالنسّاك، ومنهم القديس يعقوب ناسك الكرمل.

وكانت حيفا تقوم أيام الحكم الروماني كما تقدم على موقع تل السمك غربي حيفا وجنوبي رأس الكرمل. وتضم البقعة أسس أبنية، وأرضيات مرصوفة بالفسيفساء وصخوراً منحوتة، وقبوراً منقورة في الصخر، ومرسى، وفيها إلى الشرق كنيسة رصفت أرضها بالفسيفساء.

وفي تل السمك موقع يسمى شيقومونا، وهو تحريف شيكما اليونانية ومعناها الجميز أو التوت. وفي هذا الموقع جدار حظيرة، ونحت في الصخور، ومدافن منقورة، وأحواض معصرة خمر أرضها مرصوفة بالفسيفساء. ولعل قلمون، البلدة التي تعود إلى أيام الرومان. كانت تقوم على البقعة التي تعرف اليوم باسم تل أبو حوام قرب مصب نهر المقطع، وكانت هذه المدينة ميناء بيسان ومجدو*. وقد عثر في حيفا القديمة على رصيف بحري وقبر وحمّام تعود إلى العصر الروماني.

3) بعد الفتح العربي: لم يكن لحيفا أهمية في الفتح العربي ولا ورد اسمها في مصادر الفتح. ومن القبائل التي استقرت في أطرافها بنو جذام* بن عامر بن لام وبنو مخروم. وقد ظلت حيفا خاملة الذكر، وكانت عكا تبزها. وجاء أقدم ذكر في المصادر الإسلامية في القرن الخامس الهجري (452هـ/ 1060م) حين وصفها ناصر خسرو في سفر نامة بقوله: “ثم غادرتها (أي عكة) إلى قرية تسمى حيفا في طريق به كثير من الرمل الذي يستخدمه صياغ العجم والمسمى بالرمل المكي. وحيفا مشيدة على البحر وبها نخل وأشجار كثيرة. وهناك عمال يصنعون السفن البحرية المسماة بالجودي”.

4) خلال الحروب الصليبية: مر الصليبيون أول الأمر قرب أسوار عكا وحيفا في طريقهم إلى بيت المقدس 1099 م ملتزمين الساحل من سطح جبل الكرمل حتى قيسارية*. وكانت حيفا تابعة للفاطميين* قبل أن يحتلها الصليبيون في تموز عام 1110م بعد حصار. وأصبحت حيفا مع طبرية وبلاد الجلل تحت إمرة تنكريد، وعرفت باسم كايفاس أو كيفا، وورد وصفها في روايات الحجاج  والرحالة المسيحيين، وذكروا أن جانباً من المدينة على الساحل، في حين يشرف جبل الكرمل على الجانب الآخر. وتبدو أهمية المدينة أيام حكم الفرنجة* من وصف الجغرافي الشريف الإدريسي 560 هـ/ 1160م لها بقوله: “وحيفا تحت طرف الكرمل، وهو طرف خارج في البحر، وبه مرسى حسن لإرساء الأساطيل وغيرها. ومدينة حيفا هي فرضة لطبرية، وبينهما ثلاث مراحل خفاف “. وإلى العهد الصليبي تعود بقايا القلعة التي بناها الفرنجة جنوبي المدينة عند خربة رشميا غربي ” نفه شعنان”، وتضم أنقاض بناء مستطيل فيه برج، ومدافن منقورة في الصخر، وصهاريج .

عادت حيفا إلى المسلمين عام 583 هـ/ 1188م (كما جاء في كتاب الفتح القدسي للعماد الأصفهاني، لا قبل ذلك بعشر سنوات كما ذكر ياقوت الحموي أو دائرة المعارف الإسلامية). ثم استعادها الصليبيون بعد أن أمر صلاح الدين بإخلائها وهدم أسوارها وخصوبتها 587هـ/ 1191 م، وأعادوا بناءها. وكانت حيفا بموجب صلح الرملة* ضمن المنطقة الساحلية (من صور حتى يافا) التي ظلت بيد الفرنجة.

تأسست في عام 609هـ/ 1212 م  رهبانية الكرمل (رَ: الرهبانيات)، ثم كثر أتباعها وانتشروا في أنحاء أوروبا. وقد اهتم لويس التاسع بتحصين حيفا، وظلت في حوزة الفرنجة  حتى عام 663 هـ/ 1265 م حيث فتحها الظاهر بيبرس*، ثم استولى الفرنجة عليها ثانية فعاد الملك الأشرف خليل بن قلاوون واسترجعها عام 1291 م، وانتهى بذلك الوجود الفرنجي  في فلسطين .

5) في عهد المماليك: أوقع المماليك* الخراب بحيفا، كما يغيرها من المدن الساحلية. حتى لا يستفيد منها الأعداء. وقد وصف القلقشندي ( ت 821هـ/ 1418م) المدينة في “صبح الأعشى” بقوله: “وهي خراب على الساحل”. وكانت حيفا خلال العهد المملوكي جزءاً من عمل اللجون* الذي كان تابعاً لصفد*، والقاعدة الخامسة من قواعد المملكة الشامية.

6) في العهد العثماني (وحتى منتصف القرن التاسع عشر): انتقلت حيفا إلى العثمانيين في عهد سليم الأول 922هـ/ 1516م. وقد أشير إليها في مطلع العهد بأنها قرية في ناحية ساحل عتليت الغربي التابع لسنجق (لواء) اللجون، أحد ألوية ولاية دمشق الشام (رَ: الإدارة).

بدأ العثمانيون منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر يعمرون الساحل الشامي، وفيه حيفا، وسارت عملية إعمارها ببطء. وذكرت دفاتر التمليك (الطابو) أن قرية حيفا كانت ضمن إقطاع آل طرباي* الذين أصبحوا يعرفون باسم الأسرة الحارثية في مرج ابن عامر 885هـ – 1088هـ/ 480 – 1677م. ولم تعمل هذه الأسرة على تشجيع التجارة* مع الأوروبيين على غرار ما فعل فخر الدين المعني في بيروت وصيدا وعكا، ولا عاد تجار الإفرنج يرتادون ميناء حيفا خوفاً من الأذى. وقد تضررت حيفا بسبب الصراع بين الأمير أحمد الحارثي والأمير فخر الدين المعني، وأخضعها فخر الدين لسيطرته عام 1033هـ/ 1624م، ثم تم الصلح بين المعنيين والحوارث في العام نفسه، وعادت حيفا إلى الأمير أحمد الحارثي الذي عمل بعد ذلك على الاهتمام بالميناء، وأعطى الرهبان الكرمليين إذنا ببناء مساكن في الميناء، وضمانات بالحماية.

ضم قسم كبير من الأراضي المحيطة بحيفا، وفيها الخليج الشمالي، إلى ولاية صيدا الجديدة في القرن السابع عشر. وقد جعلها بُعدها عن السلطة في دمشق مركزاً للتجارة المهربة، حتى أصبح يطلق عليها اسم مالطة الصغرى، فأصدرت الدولة العثمانية سنة 1026هـ/ 1616م فرماناً ببناء الأبراج حول ميناء حيفا لوضع حد للتهريب ولهجمات الفراعنة (شيد البرج الشرقي سنة 1136هـ/ 1723م، والبرج الغربي سنة 1128هـ/ 1715م) وضمت حيفا إلى ولاية صيدا، وعملت الدولة على تعميرها وتعمير الساحل كله، فقدمت الإعفاءات والإغراءات، ووفرت الأمن والحماية للسواحل. فأدى ذلك كله أن تحول العناصر السكانية نحو الساحل، وإلى ازدهار تجاري وعمراني، بعد أن كانت السواحل مهجورة منذ إخراج الصليبيين عام 691هـ/ 1291م.

وفي منتصف القرن الثامن عشر خرب الشيخ ظاهر العمر* حيفا القديمة، وبنى إلى الجنوب الشرقي منها، عند نهاية الخليج، بلدة سماها العمارة الجديدة، ثم غلب عليها اسم حيفا الجديدة، وأقام فيها برجاً، وبنى حولها سوراً له بوابتان، وقلعة على نشوء صخري يشرف على المدينة من الناحية الجنوبية. وشيد أبناء الشيخ ظاهر الجامع والسراي. وأقام الكرمليون ديرهم على قمة الجبل عام 1181هـ/ 1767م، على مسيرة 3 كم من حيفا.

صارت حيفا، بعد الشيخ ظاهر، إلى أحمد باشا الجزار*، واحتلها كليبر عام 1214هـ/ 1799م، وأقام نابليون قيادته على جبل الكرمل، واتخذ الدير مشفى لجرحاه ولمرضى الطاعون أثناء حصار عكا، ثم أحرقه لما انسحب إلى مصر (رَ: الحملة الفرنسية). وقد أعادت الدولة العثمانية حيفا إلى سلطتها وجدد عام 1243هـ/ 1827م بناء الدير الكرملي. ثم دخلت حيفا – كسائر سورية – تحت حكم إبراهيم باشا حتى عام 1256هـ/ 1840م. وقد زارها عام 1248هـ/ 1832م الشاعر الفرنسي لامرتين وتغنّى بروضة خليجها وسهلها وجبلها في كتابه “ذكريات وانطباعات وأفكار ورؤى خلال رحلة المشرق 1832 – 1833″، أو “مذكرات مسافر” المطبوع في باريس عام 1835.

7) أواخر العهد العثماني (حتى نهاية الحرب العالمية الأولى): ظلت حيفا حتى القرن التاسع عشر مدينة الشأن بلغ عدد سكانها 4.000 نسمة تقريباً في أوائل القرن المذكور. ولكنها أخذت بعد ذلك تنمو بسرعة، وبدأ كثير من الأجانب يقصدونها للاستيطان والعمل، أو للكشف العلمي، أو للنشاط التبشيري. وقد سمح لقرابة مائة عائلة ألمانية من فرسان الهيكل (الداويّة*) بالبنزول في أرض حيفا وأقاموا في حي خاص بهم شمالي غرب المدينة كما مر من قبل. وبلغ عددهم أواخرالقرن نحو 800 نسمة.

دشنت السلطات العثمانية عام 1304هـ/ 1886م أول طريق عربات من حيفا إلى طبرية. وأصبحت حيفا عام 1305 هـ/ 1887 م مركز قضاء يحمل اسمها (من أعمال لواء عكا التابع لولاية بيروت) وأقامت البنايات خارج السور، وامتدت إلى شواطىء البحر حيث البساتين والنخيل.

جرى في 19/12/1892 في الطرف الشرقي للمدينة قرب وادي رشميا الاحتفال بافتتاح العمل في سكة حديد حيفا – دمشق (فرع الخط الحجازي) وقدم المهندس جورج جفري، مهندس المشفى الإنكليزي في حيفا، تقريره عن مبنى الإرسالية الأنغليكانية الجديد في 29/6/1893.

بدأت السلطات العثمانية استعدادها لزيارة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني لمدينة حيفا في طريقه إلى القدس، فبنيت رصيفاً على الشاطىء لرسو يخت الامبراطور قرب الحي الألماني غربي المدينة، وتم إنشاء طريق عربات بين حيفا ويافا، وأعيد ترميم الجسور, وقد وصف حيفا في تلك الفترة إبراهيم الأسود صاحب مطبعة جريدة لبنان في كتابه “الرحالة الإمبراطورية في المماليك العثمانية” بقوله: “مدينة حيفا قائمة في سفح جبل الكرمل، موقعها يشبه بيروت، وفيها مباني طراز جديد، في مصاف مدن الدرجة الثانية في سورية، بعد أن كانت تعد منذ ثلاثين سنة من القرى، معظم تجارتها بالحبوب. وفيها قناصل لجميع الدول إلا اليونان … وفي حيفا كثير من الفنادق والمعابد لجميع الطوائف”.

ووصفها عام 1904 الأب ماري جوزيف الكرملي في مجلة “الشرق” بأنها “أصبحت مدينة عامرة يتوارد إليها الناس”.

كانت حيفا مطلع هذا القرن مركزاً ثقافياً مرموقاً في فلسطين، وكان في عام 1901 مدرسة رشدية (حكومية) (تأسست أول مدرسة في حيفا عام 1293هـ/ 1876م، وأخرى في مستواها للروم الأرثوذكس، وخمس مدارس أجنبية، ثلاث منها ألمانية ضمت 380 طالباً، واثنتان فرنسيتان. وأصبح عدد المدارس الأجنبية عام 1903 ثماني مدارس، أربع فرنسية (إحداها لليهود ضمت 150طالباً) واثنتان إنكليزيتان، وواحدة ألمانية، وأخرى روسية. وفي سنة 1942 ارتفع عدد المدارس الحكومية إلى 10 مدارس فيها 1.750 طالباً، وارتفع عدد المدارس الخاصة إلى 18 مدرسة فيها 4.448 طالباً، إلى جانب المدرسة الصناعية.

ومنذ أواخر العهد العثماني والطباعة* متقدمة في حيفا، إذ اشتملت المدينة على المطابع التي كانت تقوم بنشر صحف كثيرة كالصاعقة والنفير* والكرمل*. واشتملت المدينة أيضاً على المكتبات* العامة والمتاحف* والمسارح التي أوجدت جيلاً مثقفاً من السكان. وقد ساهمت الجمعيات التبشيرية في فتح المدارس والكنائس والمتشفيات والنوادي الثقافية.

تمّ في 1323هـ/ 1905م الافتتاح الرسمي لخط حديد دمشق – حيفا (طوله 289كم)، وأجريت تحسينات كبيرة في الميناء، فدخلت حيفا في عهد جديد، الميناء، فدخلت حيفا في عهد جديد، إذ اتصلت بدمشق وحوران وشرقي الأردن، وأصبحت ميناء تصدير إلى هذه الأقاليم، ومدخل كل ما يلزمها من أوروبا وأمريكا بدل بيروت. وقد أخذت المدينة تنمو وتتسع في عمرانها وتجارتها على حساب عكا، وزادت وارداتها الجمركية.

كان في المدينة عام 1908 5 مساج وتكايا، و6 كنائس، و13 مدرسة و9 خانات، و928 حانوتا، و423 مخزناً، و8 فنادق، و4 مستشفيات، وحمام واحد، ومصبنتان. وتزايدت أعداد المهاجرين إلى حيفا وجوارها من اليهود الأشكنازيين* (اليهود الغربيين)  بعد 1908. وفي عام 1912 بدأ بناء المعهد الفني اليهودي”التخنيون*” (فتح أبوابه سنة 1925). وكذلك بدأت شركة الاستكشاف السورية (برأسمال إنكليزي) أعمال التنقيب من النفط عام 1913، وتم في العام نفسه خط سكة حديد حيفا – عكا، وبدأ الإعداد لتمديد فرع آخر لسكة حديد الحجاز من حيفا إلى القدس عبر العفولة وجنين ونابلس.

بلغ عدد سكان حيفا حسب إحصاء 1916 نحو 10.447 نسمة. وكان معظم السكان المسلمين يتجمعون في المنطقة المنحفضة من المدينة (حيفا القديمة)، وتركز معظم المسيحيين في الجهة الغربية من حيفا، وبعضهم في الضاحية الألمانية. وتركز اليهود في شرق المدينة، ثم بدأوا منذ أوائل العشرينات يستوطنون حي “هادارهاكرمل” الذي يعد امتداداًَ لمنطقة هرتسليا*.

وضمت المدينة آنذاك ثلاث مدارس حكومية للذكور والإناث. وعدة مدارس أجنبية، وعشر مطاحن، و26 محركاً بخارياً لسحب المياه، ومعمل ثلج، وسبعة مصانع خشب، وأربع معاصر زيتون، ومعمل عصير عنب للألمان، ومصنع صابون للصهيونيين. وقد أقامت إدارة الخط الحديدي الحجازي مصنع آلات لخط الحجازي. وكان في حيفا مطابع الكرمل والوطنية والنفير، وصحيفة الكرمل (نصف الأسبوعية)، وصحيفة النفير (الأسبوعية).

8) خلال الحكم البريطاني (1918 – 1948): احتل البريطانيون حيفا في 23/9/1918 بعد معركة مع بقايا الجيش العثماني التي كانت تدعمها المدفعية الألمانية المتمركزة في غابات جبل الكرمل. وقد أوصل البريطانيون في العام نفسه خط السكة الحديدية من مصر إلى حيفا فعادت المدينة بذلك عقدة مواصلات هامة داخلية وخارجية، فيها ثلاث محطات للسكة الحديدية، شرقية، ورئيسة، ومحطة الكرمل. كذلك ربط البريطانيين حيفا بيروت وطرابلس بالسكة الحديدية. ورفع ذلك كله من شأن المدينة، ووسع نطاق تجارتها وصناعتها. فرحل إليها تجار الشام ومصر، وتدفق إليها آلاف العمال.

بدأت السلطات البريطانية في عام 1929 توسيع ميناء حيفا الصغير الذي أنشأه العثمانيون سنة 1908، وتحويله ميناء حديثاً، وأقامت فيه المنشآت الضخمة. وجهزته بالوسائل الحديثة. وقد أنشىء حاجزان لصد الأمواج، ويبلع طول الرصيف الأساسي 400م، وعمق غوره 9م، وشيد رصيف خاص ترسو بقربه ناقلات النفط. وافتتح الميناء رسمياً في 31/10/1933، وبلغت نفقة إنشائه 1.250.000 جنيه فلسطيني. وقد أصبح ميناء حيفا من أكبر موانىء البحر المتوسط (الثاني بعد مرسيليا)، وفاقت المدينة يافا في التجارة، وبلغ وزن البضائع التي شحنت من ميناء حيفا سنة 1937 ضعفي ما شحن من يافا، ووزن ما أفرغ في حيفا في العام نفسه خمسة أضعاف ما أفرغ من ميناء يافا.

نشط مطار حيفا خلال الحرب العالمية الثانية. وساعد على تقدم المدينة تأسيس عدد من الصناعات فيها أو بجوارها، كصناعة الاسمنت، وصناعة الغزل والنسيج (رَ: النسيج، صناعة)، والمطاحن، ومعاصر الزيتون والعنب، ومصانع الثلج والخشب. والصابون والآلات الصناعية للخط الحديد الحجازي، وتجميع قطع المركبات، وانتهاء خط أنابيب شركة النفط العراقية. وبناء مصفاة النفط الكبيرة التي زودت دول الحلفاء في الشرقين الأدنى والأوسط بما تحتاج إليه من النفط خلال الحرب. وقد أصبحت حيفا مركز العمل والعمال في فلسطين، وأنشأ هؤلاء جمعية منظمة وصناديق توفير وجمعيات تعاونية (رَ: العمال والحركة العمالية).

قفزت حيفا بين الحربين العالميتين إلى مرتبة كبرى بين مدن الشرق الأوسط، واشتملت على الشوارع المنظمة النظيفة التي تصل بين مركز المدينة وضواحيها، وعلى المحلات التجارية والمخازن الكبيرة والمصانع. والفنادق والمساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات. وكانت مباني المدينة ترتفع في أنحاء مختلفة من حيفا فتزيد في المرتبة العمرانية لهذه المدينة. وقد خططت المنطقة الممتدة من الركن الجنوبي الشرقي من الخليج البحري حتى مدينة عكا بحيث تشتمل على مناطق فرعية ذات وظائف متخصصة. ففي الجنوب أقيمت منطقة صناعية بالقرب من الميناء، وفي الوسط أنشئت منطقة سكنية ضمت بدءاً من عام 1930 مجموعة مستعمرات صهيونية. مثل “قريات حاييم وقريات موتسكين* وقريات يم*”، وفي الشمال خصصت الأراضي للزراعة. وأهم شوارع حيفا شارع الملوك (طوله 3 كم وعرضه 40م) ويضم معظم المؤسسات التجارية والحكومية. وفي الجبهة الغربية من المدينة شاطىء الخياط ووادي الجمال والكولونية الألمانية، وفي الجهة الشرقية شارع الناصرة، فمحطة توزيع الكهرباء. وبالانحراف إلى الشمال جسر وداي رشميا، ثم الكرمل حيث الأبنية الحديثة، وعند سفحه قبر البهاء عباس أفندي وهو من الأماكن السياحية الهامة. وفي نهاية الصعود دير مار الياس (الكرمليت) والفنار. وأما البلدة القديمة، وفيها المسجد الكبير والسوق والمحلات التجارية، فقد احتفلت بطابعها الشرقي.

تطور نمو سكان حيفا من 10.447 نسمة عام 1916 إلى 24.634 نسمة عام 1922، و50.483 نسمة عام 1931، و99.090 نسمة عام 1938، و138.300 نسمة عام 1945.

9) في ظل الاحتلال الإسرائيلي: هبط مجموع سكان حيفا في أواخر عام 1948 إلى 97.544 نسمة بسبب الاحتلال الإسرائيلي للمدينة وطرد السكان العرب منها، فأصبح اليهود يؤلفون بعد رحيل معظم العرب 96% من عدد سكان المدينة. وفي نهاية 1950 زاد عدد سكان حيفا بفعل تدفق المهاجرين اليهود للإقامة فيها فوصل إلى 140.000 نسمة. وأخذت المدينة تنمو باطراد بعدئذ. ففي عام 1952 كان عدد سكانها أكثر من 150.000 نسمة، وفي عام 1955 وصل إلى 158.700 نسمة، ثم زاد إلى 183.000 نسمة عام 1961، وإلى 209.900 نسمة عام 1967. ووصل إلى 225.800 نسمة عام 1973 وإلى 273.500 نسمة عام 2001.

واكب تطور النمو السكاني تطور النمو العمراني للمدينة، فهي تواصل امتدادها منذ الخمسينات حتى الوقت الحاضر على طول شاطىء البحر وفوق منحدرات جبل الكرمل وقمته. وقد زادت كثافة السكان والحركة التجارية في حي “هادار هاكرمل” فأصبح مركزاً لتجارة المفرق وللخدمات وللتسلية بعد أن التحم بقلب المدينة الذي يتحرك نحوه. وبقيت المدينة السفلى (حيفا القديمة) تمثل حي الأعمال المركزي بعد أن أجريت على مخططها الهندسي تعديلات كبيرة. وأخذت قمة الكرمل تستقبل جموع السكان الذين يتحركون للسكنى في الأعلى وأنشئت مشروعات إسكان ضخمة وظهر عدد من الضواحي الكبيرة مثل: “قريات اليعزر” على الساحل، و”روميما الجنوبية” على حافة الكرمل.

وتمتد المنطقة الصناعية فوق الأراضي الرملية المحاذية للخليج البحري حتى مدينة عكا، وتعد مدينة الصلب أهم مرافق المنطقة الصناعية. وتمتد الأحياء السكنية إلى الشرق من الخليج فوق قمم ومنحدرات الكرمل، ويتخلل هذه المباني السكنية متنزهات وأشجار ترصع الأودية والخوانق والجروف. وأما حيفا القديمة (السفلى) فتتوسع نحو الغرب والجنوب إلى منطقة ساحل الكرمل. فحيفا مدينة متطورة تمتد حالياً فوق الجانب الشمالي الغربي لجبل الكرمل، وفوق الحافة الشمالية لساحل الكرمل، وعلى الشريط الساحلي المحاذي للمنحدر الشمالي للكرمل. وعلى الشريط الساحلي المحاذي للمنحدر الشمالي للكرمل.ويتوسع العمران أيضاً نحو الطرف الجنوبي لخليج عكا. ونتج عن هذا التوسع زيادة مساحة المدينة من 54كم2 قبل عام 1948 إلى 181كم2 في عام 1980.

هـ- التركيب الوظيفي: تمارس حيفا وظائف كثيرة منذ مطلع القرن الحالي أهمها:

1) الوظيفة التجارية: ارتبطت الوظيفة التجارية بأهمية الموقع الجغرافي لحيفا بالنسبة إلى إقليمها الخاص، أو الأقاليم البعيدة. وتتصل المدينة بما حولها بأكثر من وسيلة للمواصلات، وترتبط شبكة شوارعها الداخلية المنظمة بشبكة الطرق والسكك الحديدية الخارجية. ويظهر أثر ذلك في زيادة حركة ميناء حيفا وازدهار الحركة التجارية للمدينة. وقد ساهم فرع خط سكة حديد الحجاز دمشق – حيفا في إجراء تحسينات كبيرة في الميناء فدخلت حيفا في عهد جديد وأصبح ميناؤها وسيلة لنقل البضائع المستوردة من الخارج إلى كثير من أجزاء فلسطين والأردن وسورية. وكذلك ساهم الميناء في تصدير كثير من منتجات فلسطين والأقطار العربية المجاورة، كالحمضيات، والقمح والنفط، إلى الخارج.

ويتصدر ميناء حيفا جميع الموانىء الفلسطينية لأهمية موقعه وموضعه من جهة، ولكثافة الحركة التجارية المرتفعة فيه. ففي عام 1936 مثلاً استورد عن طريق ميناء حيفا 756.722 طناً من البضائع مقابل 1.164.028 طناً من الصادرات. وتدر الواردات والصادرات على الميناء عائدات كبيرة وصلت قيمتها في عام 1939 إلى نحو 7.8 مليون جنيه فلسطيني من الواردات ونحو 2.9 مليون جنيه فلسطيني من الصادرات. ويعج الميناء بحركة دائبة للسفن التجارية. وقد وصل أعلى رقم لعدد السفن الداخلة إلى الميناء في عام 1942 نحو 8.000 سفينة ومثل هذا العدد للسفن الخارجة منه وبلغ مجموع حمولة كل من الداخلة والخارجة 1.4 مليون طن.

جذبت حيفا التجار من بعض المدن الفلسطينية والسورية والمصرية للعمل فيها. وشيدت المحلات التجارية التي تزين الشوارع الرئيسة والساحات الكبرى في المدينة، مثل شوارع اللنبي وستانتون واللورد بلرمر، وساحة الخمرة وساحة الجرينة. وأقيمت الأسواق التجارية التي تعرض فيها مختلف السلع كالسوق الأبيض وسوق الشوام وغيرهما. وكانت أسواق حيفا ملتقى كثير من سكان القرى العربية المحيطة بالمدينة يعرضون فيها منتجاتهم ويشترون ما يلزمهم منها. وتغير الوضع بعد عام 1947 فأصبحت حيفا مركزاً تسويقياً للمستعمرات الصهيونية المجاورة.

قامت (إسرائيل) بعد عام 1948 بتطوير ميناء حيفا، فتضاعف عدد الأرصفة والمنشآت فيه، وغدت المخازن تستوعب 75.000 طن. وفي عام 1954 أنشىء ميناء آخر متمم لميناء حيفا عند مصب نهر المقطع. وقد أجريت عليه تحسينات فأصبح يضم في عام 1964 حوضاً لبناء وإصلاح السفن، ورصيفاً عائماً، ومرسى لسفن الصيد. ومنذ أن منعت سلطات الاحتلال البواخر التجارية من الرسو في ميناء يافا عام 1965 أصبح ميناء حيفا أكبر موانىء الأرض المحتلة. وزادت حركة العمل فيه فأصبحت تعادل نحو 56% من مجموع حركة العمل في الموانىء.

بلغ مجموع السفن التي دخلت ميناء حيفا عام 1951 – عدا ناقلات النفط – 1.168 سفينة، في حين كان مجموع السفن التي دخلت موانىء فلسطين المحتلة تلك السنة 1.370 سفينة. وفي عام 1967 دخلت هذه الموانىء 2.372 سفينة منها 1.545 سفينة دخلت ميناء حيفا. وفي عام 1965 سجل ميناء حيفا رقماً قياسياً في عدد المسافرين عن طريقه إذ وصل إلى نحو ربع مليون مسافر.

2) الوظيفة الصناعية: بدأت حيفا تعيش نهضة صناعية منذ الثلاثينات حين أقامت إدارة المعارف في المدينة عام 1936 مدرسة صناعية تعلم عدداً من الحرف الفنية كالنجارة والبرادة والحدادة وإصلاح السيارات وغيرها. وقد تخرجت من هذه المدرسة مجموعات صناعية خبيرة، وبلغ عدد طلبتها عام 45/1946 نحو 69 طالباً.

وأنشئت في حيفا النقابات والجمعيات التعاونية التي ضمت أصحاب المهن. وقد استوعبت مصفاة شركة التكرير المتحدة كثيراً من العمال. وعمل آلاف العمال في قطاع النقل والمواصلات، ولا سيما في أعمال الميناء والسكك الحديدية والشاحنات.

تطورت الصناعة في حيفا بعد عام 1948 واستمرت في توسعها، ولا سيما داخل المنطقة الصناعية قرب الخليج البحري. وفي حيفا حالياً مصنعان لانتاج وتجميع السيارات، ومصانع لإنتاج المواد الكيمائية والبتروكيمائية والأسمدة العضوية المستخلصة من النفايات ومياه المجاري المنقاة (رَ: الصناعة). وفيها مركز صناعي لصناعة الطائرات، ومعهد التخنيون الذي يشرف على تخريج الخبرات الفنية عامة والصناعية خاصة. وتشتمل حيفا على مكاتب شركة السكك الحديدية التابعة للصهيونيين. وفيها شركة كهرباء وشركة سولل بونيه للمقاولات، وشركة زيم للملاحة، وشركات أخرى. وتساهم منطقة الميناء بتوفير عمل لنحو عشر سكان المدينة، وتساهم الصناعات في إيجاد فرص عمل للكثير من العمال.

3) الوظيفة الإدارية: أصبحت حيفا مركزاً لقضاء حيفا منذ أواخر القرن التاسع عشر عندما تم تعيين “قائمقام” للقضاء. وتألف قضاء حيفا عام 1899م عن مدينة حيفا وناحية وقيسارية و62 قرية. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى كان قضاء حيفا يتألف من 3 نواح و84 قرية. وفي عام 1945 ضم القضاء 52 قرية و14 عشيرة. بلغت مساحة القضاء آنذاك 1.031 كم2 امتلك الصهيونيين منها 364كم2، أي 35.3% من مجموع مساحة القضاء. وبلغ مجموع سكان القضاء 224.630 نسمة، منهم 104.510 صهيونيين، أي أن نسبة الصهيونيين في أواخر عهد الانتداب كانت 46.5% من مجموع سكان القضاء. وقد احتفظت حيفا بعد الاحتلال الصهيوني بمكانتها كمركز إداري لمقاطعة حيفا التي أصبح معظم سكانها صهيونيين بعد طرد العرب سكانها الأصليين منها.

4) الوظيفة الزراعية: تعد هذه الوظيفة ثانوية بالنسبة إلى وظائف حيفا الأخرى، فالمدينة تجارية وصناعية أساساً بالرغم من أنها تمتد في وسط زراعي يتفاوت في خصائصه بين الزراعة الجبلية والسهلية. وتشغل الغابات الطبيعية مساحة واسعة من الأرض الزراعية حول حيفا، وبخاصة فوق جبل الكرمل. ولا شك في أن وجود الغابات الجبلية المطلة على شاطىء البحر المتوسط يجعل من منطقة حيفا بيئة سياحية جاذبة.

وفي عام 1943 بلغ مجموع إنتاج قرى قضاء حيفا العربية من القمح* 4.392 طناً، في حين أنتجت المستعمرات الصهيونية في القضاء 1.863 طناً. وقد أنتجت هذه القرى العربية في ذلك العام من الزيتون* 3.900 طن، ومن الخضر 13.310 أطنان، ومن الفواكه، عدا الحمضيات، 436 طناً.

وتسود حالياً في حيفا زراعة الاشجار بالإضافة إلى الخضر* التي تجد سوقاً رائجة لها في مدينة حيفا.

مدينة بيسان المحتلة

تاريخ مدينة بيسان

مدينة عربية من أقدم مدن فلسطين وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي في 12/5/1948 (رَ: بيسان، معركة – 1948).

أ- الموقع: ساهم الموقع الجغرافي لبيسان مساهمة كبيرة في نشأتها الأولى لأنها نشأت فوق قواعد الحافة الغربية للغور*، وفي سهل بيسان الذي يعد حلقة وصل بين وادي الأردن شرقاً وسهل مرج ابن عامر* غرباً. وتشرف المدينة على ممر ووادي جالود* إحدى البوابات الطبيعية الشرقية لسهل مرج ابن عامر. وتشرف أيضاً على الأجزاء الشمالية من وادي الأردن. ولا غرابة إذا ارتبطت بيسان بشبكة هامة من طرق المواصلات. وقد جذب موقعها الأنظار فكانت محطة تتجمع فيها القوافل التي تسير بين الشام ومصر. وكانت معبراً للغزوات الحربية بينهما أيضاً. وكثيراً ما تعرضت لهجمات البدو المستمرة من الشرق. وكانت تتصدى لهذه الهجمات من خلال موقعها كحارس على خط الدفاع الأول عن المناطق الزراعية الخصيبة في سهل ابن عامر والسهل الساحلي لفلسطين. واستطاعت بيسان بمرور الزمن أن تغري كثيراً من التجار والغزاة بالاستقرار فيها.

وإذا كانت الطرق* قد ساهمت في نشأة بيسان الأولى فإن المدينة أصبحت فيما بعد عاملاً رئيساً في جذب الطريق إليها. وغدت متصلة بالأقاليم المجاورة بشبكة حيوية من الطرق الهامة. فالطريق المعبدة التي تسير بمحاذاة الغور الغربية تربط بيسان بطبرية* على بعد 38 كم في الشمال. وتصلها بالقدس* في الجنوب طريق أخرى تمر بأريحا* طولها 127. وتخرج من بيسان طريق معبدة ثالثة تسير في سهل مرج ابن عامر إلى العفولة* على بعد 27 كم وتمتد حتى حيفا* على بعد 71كم. وتتفرع منها طريقان إحداهما تسير نحو الشمال إلى الناصرة* (41كم)، والثانية تتجه نحو الجنوب إلى جنين* (23كم)، وإلى نابلس* (76كم). وتتصل بيسان بالأردن وسورية بطرق معبدة تتجه شرقاً لتقطع نهر الأردن* عند جسر الشيخ حسين (7.5كم) وجسر دامية في الجنوب (51كم ) وجسر المجامع شمالاً (17كم). وتقع بيسان عند الكيلومتر 59 من خط سكة حديد حيفا – درعا، وبهذا الخط الحديدي تتصل بيسان بسمخ* على الشاطىء الجنوبي الشرقي لبحيرة طبرية* (27كم) ومن ثم تتصل بدرعا ودمشق.

طرأ تحول على التوجه الجغرافي لحركة المواصلات بين بيسان والمناطق المجاورة إثر حرب 1948*، إذ لم يعد موقع بيسان الجغرافي موقعاً مركزياً متوسطاً كما كان في السابق، بل أصبح موقعاً هامشياً تقريباً بعد استيلاء اليهود عليها وتعيين خطوط الهدنة عام 1949(رَ: الهدنة الدائمة بين الأردن وإسرائيل، اتفاقية).

ب – الموضع: يجمع الموضع الحالي لبيسان بين مواضع قديمة وأخرى حديثة. أما المواضع القديمة فتتثمل في الخرائب القديمة التي تشتمل عليها بعض التلال المحيطة ببيسان. ففي الجهة الشمالية من بيسان يوجد تل الحصن (-175م)، وتل المصطبة (-150م). وفي الجهة الشمالية الغربية يحيط بالمدينة تل الجسر (-120م)، وتل بصول (-110م). وتل الزهرة (-95م). وتشتمل هذه الخرائب على بقايا الأبنية السكنية والمقابر وأماكن العامة والمسارح والميادين والأسوار.

أما الموضع الحديث للمدينة فإنه يقوم أيضاً على هضبة صغيرة (-150م) تمتد في الغور جنوبي نهر جالود .وتجدر الإشارة إلى أن الموضعين القديم والحديث لبيسان يقومان على تلال من الأرض ترتفع عما حولها من الأراضي المنبسطة داخل غور بيسان. ويعود السبب في ذلك إلى الرغبة في تحاشي أخطار فيضان نهر جالود والابتعاد عن المستنقعات* من جهة، وإلى استغلال الأراضي المنبسطة في الزراعة من جهة أخرى. ولعل انتقال الموضع من الشمال إلى الجنوب استهدف في الأصل درء أخطار الفيضانات والأوبئة عن المدينة، والاستفادة من الأراضي الغورية المجاورة لنهر جالود وقنواته في الزراعة.

نشأت بيسان فوق موضعها الحديث نسبياً في أوائل القرن التاسع عشر. واقتصرت أماكن مبانيها في بداية الأمر على سطح هضبة بيسان التي تمثل أحد المدرجات البحرية الأردنية القديمة. ثم امتد موضع بيسان نتيجة تطور نموها العمراني بعدئذ فضم أجزاء من أقدام الحافة الغربية للغور وأجزاء من أراضي الغور المنبسطة. وتنحدر أرض بيسان بصفة عامة من الغرب إلى الشرق، ويجري نهر جالود أحد روافد نهر الأردن شمالي بيسان، ويمر بين تلي الحصن والمصطبة، كما أنه يغذي بعض برك الأسماك* بالمياه يفرغ له يمر من جنوب بيسان. وتكثر العيون المائية (رَ: عيون الماء) حول المدينة، وهي تساهم مع مياه نهر جالود وفروعه في ري الأراضي الزراعية المجاورة.

ج- المناخ*: يتأثر مناخ بيسان بموقع المدينة في الغور حيث تنخفض أكثر من 150م عن سطح البحر. ويتأثر أيضاً بمواجهة بيسان لفتحة سهل مرج ابن عامر الطبيعية فتصلها مؤثرات البحر المتوسط. يبلغ المتوسط السنوي لدرجة الحرارة في بيسان نحو 21، ويبلغ معدل الرطوبة نحو 58%. وتخفف نسبة الرطوبة القليلة من حدة ارتفاع درجة الحرارة. ولا سيما في فصل الصيف عندما يرتفع متوسط درجة الحرارة  العظمى إلى 29 درجة مئوية، ويتدنى معدل الرطوبة النسبية إلى ما يقرب 50%. أما في الشتاء فإن متوسط درجة الحرارة الصغرى يبلغ نحو 14 ْ، وقد تهبط أدنى درجة حرارة في شهر كانون الثاني إلى الصفر، مما يضر بالمحاصيل الزراعية.

بلغ متوسط كمية الأمطار السنوية الهاطلة على بيسان بين عامي 1901 و1940 نحو 305مم. وتكفي هذه الكمية من الأمطار لقيام الزراعة* في إقليم بيسان لولا أنها غير منتظمة. ففي موسم 1927/ 1928 كانت كمية الأمطار 149.5مم، وارتفعت إلى 514.4 مم في موسم 1942/ 1943. وبسبب هذا التغير قلقاً مستمراً عند مزراعي المنطقة. لكن اعتماد مساحات واسعة من الأراضي الزراعية على الري يخفف من وطأة المشكلة.

وتتأثر مدينة بيسان باندفاع الرياح القادمة من الغرب نحوها، ويسبب هذا الاندفاع من المرتفعات نحو المدينة انضغاط الهواء، وارتفاع درجة حرارة الجو، وإثارة الزوابع والأتربة، خاصة بعد الظهر حين تكون الأنسام القادمة من البحر المتوسط قد وصلت إلى منطقة غور بيسان. وتتأثر المدينة أيضاً ببعض الموجات الحارة في فصل الربيع عندما تهب عليها رياح جنوبية شرقية محملة بالأتربة. أما الموجات الباردة فإنها تحدث أحياناً نتيجة هبوب رياح شمالية باردة.

د- النشأة والنمو: يرجع شأن بيسان إلى عصور ما قبل التاريخ، أي إلى أكثر من ستة آلاف سنة قبل الميلاد (رَ: العصور القديمة). حملت في العهود الكنعانية اسم بيت شان، وقد يعني هذا الاسم بيت الآله شان أو بيت السكون، وقد أخذ اليهود من الكنعانيين التسمية. وبيسان ذات أهمية تجارية وعسكرية وزراعية لوقوعها على الطريق الذي يصلها بشرق الأردن وحوران ودمشق، ولوجودها في غور خصيب تتوفر فيه المياه، ويزرع فيه النخيل والقطن والحبوب وغيرها.

استولى المصريون على بيت شان حوالي عام 1479 ق.م. بقيادة تحتمس الثالث*، وبقيت في قبضتهم ردحاً طويلاً من الزمن حتى أيام رعمسيس الثالث عام 1198 ق.م. ولم يستطيع اليهود ضمها رغم محاولاتهم المتكررة. وعلى أسوارها صلب الفلسطينيون* جسد شاول وأولاده بعد قتلهم عام 1004 ق.م. في معركة جلبوع التي حدثت بين الفلسطينيين واليهود. أطلق اليونانيون على بيسان اسم مدينة السكيتيين  SCHYTHOPOLIS لأن (السكيت) احتلوها حوالي عام 600 ق.م. واستوطنوها، وهم قبائل من الفرسان المحاربين الذين قدموا من الشمال واستعملهم الفرس الأخمينيون (سكيتوبولس) من أهم المدن الفلسطينية التي انتشرت فيها المدينة اليونانية. وفي العهد الروماني استمرت أهمية بيسان فكانت زعيمة للمدن العشر* (ديكابولس)، وأصبحت مركزاً تجارياً هاماً تمر القوافل التجارية منها في طريقها إلى الأردن. ولا تزال شواهد هذا الازدهار مائلة في بيسان حيث توجد بقايا مدرج روماني قائمة في تل الحصن. ولا تزال قناطر الجسر الروماني فوق سيل الجالود (نهر جالود*). وأصبحت بيسان في العهد البيزنطي عام 325م، مركزاً لأبرشية كان لممثلها في مجمع نيقية الديني دور بارز. ومن آثار هذا العهد التي لا تزال قائمة دير يتألف من ثلاث غرف.

وبيسان من أوائل المدن الهامة التي فتحها العرب.

ففي أواخر عام 13هـ/634م حاصر المدينة عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة* وفتحاها صلحاً. وفي رواية أن شرحبيل هو الذي فتحها وحده بعد أن حاصرها أياماً، ولما خرج بعض من فيها لقتال المسلمين قاتلهم وهزمهم ففتحت أبوابها لفرسان المسلمين. وكان لصلح بيسان طابع خاص، فبالإضافة إلى فرض الجزية على رؤوس أهلها والعين (المحصول) على الأرض كان المسلمون يشاطرون أهلها المنازل فيجتمع أهلها في نصف المدينة ويترك النصف الأخر للمسلمين، كذلك حدد موضع المسجد للمسلمين. ومثل ذلك كان من شروط صلح المسلمين في دمشق. وقد بقيت لبيسان شهرة خاصة في تاريخ المسلمين بسبب وجود قبر الصحابي الكبير أبي عبيدة بن الجراح قائد فتوح الشام فيها، وربما يكون فيها أيضاً قبر شرحبيل بن حسنة. وكلاهما توفي في طاعون عمواس المشهور في 18هـ/639م. تردد ذكر بيسان على لسان كثير من الجغرافيين العرب نظراً لأهميتها فذكرها ابن خرداذبة في كتابه “المسالك والممالك” بقوله: “كورة من كور الأردن، وهي على الطريق المؤدية من دمشق إلى الرملة، تقع بين طبرية واللجون”. وذكرها المقدسي في كتابه “أحسن التقاسيم” فقال: ” بيسان على النهر كثيرة النخل، وأرزاز فلسطين والأردن منها، غزيرة المياه رحبة، إلا أن ماءها ثقيل”. ووصفها الوزير الفقيه أبو عبيد بن عبد العزيز البكري الأندلسي (المتوفي سنة 487هـ/1094م) بقوله “بيسان موضعان أحدهما بالشام تنسب إليها الخمر الطيبة، والثانية بالحجاز”. ويذكرها ياقوت في معجمه “بيسان مدينة بالأردن بالغور الشامي، ويقال هي لسان الأرض، وهي بين حوران وفلسطين، وبها عين الفلوس يقال إنها من الجنة، وهي عين فيها ملوحة يسيرة”.

وتحدث عنها الإدريسي (المتوفي عام 560هـ/1165م) بقوله: “أما بيسان فمدينة صغيرة جداً بها نخل كثير، وبنيت فيها السافان التي تعمل منه الحصر السافانية، ولا يوجد نباته إلا بها وليس في سائر الشام شي منه”.

أما الهروي (المتوفي سنة 616هـ/1220م ) فيقول: “مدينة بيسان قيل بها جامع ينسب إلى عمر بن الخطاب*، وبها عين الفلوس قيل هي من جملة العيون الأربع”.

عندما تعرضت بلاد المشرق العربي إلى الهجمة الصليبية خضعت بيسان للإفرنج (رَ: الفرنجة) بعد احتلالهم مدينة القدس. ولكن استطاع العرب استردادها بعد معركة حطين* عام 583هـ/1187م. وفي عام 612هـ/1217م . أعاد الإفرنج احتلال بيسان مرة ثانية (رَ:الفرنجة).

ومن الحوادث الهامة التي ارتبطت بيسان بها في العهد المملوكي أنه بعد موقعة عين جالوت* تتبع الجنود المنتصرة أثر التتار* حتى تلاقوا بهم مرة أخرى في بيسان فكانت موقعة دموية قتل فيها الكثير من التتار وغنم المنتصرون غنائم وافرة. ومنها أن معركة كبيرة حدثت بين المماليك* بقيادة جان بردي الغزالي والجيش العثماني بقيادة سنان باشا انتهت بانكسار المماليك وسقوط بيسان ومنطقتها بأيدي العثمانيين. وفي عام 1812م مر الرحالة بيركهارت بمدينة بيسان ووصفها بما يلي: “إن بيسان تقع على أرض مرتفعة من الجانب الغربي من الغور حيث تنحدر سلسلة الجبال المتاخمة للوادي إلى حد كبير وتكون أرضاً مرتفعة مكشوفة تماماً. كانت المدينة القديمة تروى من نهر يدعى الآن ماء بيسان، وهو يجري في فروع مختلفة باتجاه السهل. تمتد خرائب بيسان إلى مدى واسع والبلدة على طول ضفاف الجدول وفي الأودية التي تشكلها فروعه المتعددة. تضم قرية بيسان الحالية سبعين بيتاً أو ثمانين وسكانها في حالة بؤس شديد وذلك بسبب تعرضهم لأعمال السلب التي يقوم بها عرب الغور رغم أن السكان يدفعون لهم إتاوة فاحشة”.

يبدو أن بيسان عادت إلى الانتعاش والاتساع مرة أخرى في الربع الأول من القرن العشرين، ويقول صاحب كتاب “ولاية بيروت” عن بيسان في الفترة ما بين 1914 و1918: “يقدر عدد بيوت بيسان بحوالي 600 بيت منها عشرون أو خمسة وعشرون للمسيحيين، و15 لليهود فقط، والباقي للمسلمين”.

هـ- التنقيبات الأثرية: هناك بعض المواقع الأثرية بالقرب من بيسان منها تل الجسر، وخان الأحمر، وتل المصطبة، وتل الحصن وهو موقع بيسان القديمة (رَ: الخرب والأماكن الأثرية). وقد كانت التنقيبات الأثرية في تل الحصن من أوائل التنقيبات الأثرية بفلسطين. تولت هذه التنقيبات جامعة بنسلفانيا. وقد بدأت في عام 1922 واستمرت حتى عام 1933، وكانت على فترتين، الفترة الأولى من 1922 – 1926 بإشراف فيشر ومشاركة ألن رو والفترة الثانية من 1927 – 1933 وكانت بإشراف فيتزجيرالد، وقد تركز جزء كبير من التنقيبات الأثرية في البداية على قمة التل، إذ تبين أنها تضم معابد منذ العصر البرونزي الوسيط (رَ: العصور القديمة) حتى العصر البيزنطي. وعثر في السويات السبع الأولى التي تم الكشف عنها في الفترة الأولى من التنقيبات على أربعة معابد كنعانية معاصرة لحكم أمينوفيس الثالث وسيتي الأول ورعمسيس الثاني والثالث، وعلى كنيسة بيزنطية. أمكن من خلال مجمل التنقيبات الأثرية تمييز ثماني عشرة سوية عثر فيها على الكثير من اللقى الأثرية إلى جانب المنشآت المعمارية.

من هذه اللقى ختم بابلي أسطواني عليه كتابة مسمارية، ونصب من الحجر الأبيض يمثل الرب رشف. ونصب بازلتي يمثل صراعاً بين الأسد واللبوة، ونموذج لبيت طيني وتوابيت فخارية ومدافن من كل العصور، وعثر بين أنقاض الكنيسة على حلي ذهبية مختلفة منها سلسلة وصفائح وأساور، ومنها مبخرة من البرونز و10 قطع نقود. وعليه يمكن القول إنه من خلال التنقيبات الأثرية أمكن التعرف على أن بيسان سكنت منذ الألف الرابعة قبل الميلاد حتى العهد العربي (رَ: الخرب والأماكن الأثرية).

و- بيسان الحديثة: تطورت بيسان بعد أن مد عام 1905 خط سكة حديد -حيفا – درعا الذي يمر من شمال المدينة (رَ: السكك الحديدية) وسار نمو السكان جنبا إلى جنب مع نمو العمران. فقد زاد عدد السكان نتيجة لاستقرار بعض البدو والتجار في المدينة. إلى جانب الزيادة الطبيعية للسكان الأصليين،  وواصل في عام 1914 إلى أكثر من 1.000 نسمة. أما العمران فنما بسبب اهتمام المسؤولين الأتراك قبيل الحرب العالمية الأولى بتنظيم سوق المدينة ومبانيها، وقدر مجموع بيوت بيسان خلال الحرب المذكورة بنحو 600 بيت. وجنح امتداد المباني للابتعاد قليلاً عن نهر جالود وفروعه والاقتراب من أراضي الغور.

بدأت المدينة تزدهر في عهد الانتداب البريطاني لأهمية موقعها وموضعها ولاختيارها مركزاً إداريا لقضاء بيسان. وتجلى ذلك في ازدياد سكان المدينة من 1.914 نسمة ( منهم 41 يهوديا فقط) عام 1922 وإلى 3.101 نسمة (منهم 88 يهودياً) عام 1931، وإلى 5.180 نسمة (منهم 20 يهودياً فقط) عام 1945. وتطورت المدينة عمرانياً نتيجة إنشاء بلدية فيها، وقام المجلس البلدي بتعبيد شوارع بيسان، وغرس فيها أشجار الكينا، وجفف الكثير من مستنقعاتها ليدرأ أخطار مرض الملاريا. ومما يؤكد اهتمام المجلس البلدي بتطوير بيسان زيادة نفقات البلدية من 1.653 جنيها فلسطينياً عام 1927 إلى 8.076 جنيه فلسطيني عام 1944، وزيادة عدد رخص البناء الممنوحة للسكان من 43 رخصة بناء عام 1932 إلى 62 رخصة عام 1940.

وأقيم في بيسان مستوصف بلغ عدد الذين ترددوا عليه للعلاج عام 1944 نحو 6.771 شخصاً منهم 1.218 مصاباً بالملاريا، و1.873 مصاباً بأمراض العيون. وتجدر الإشارة إلى أن المستنقعات الواسعة والمناخ الحار السائد في بيسان، وهبوب العواصف الترابية على المدينة بعد الظهر في كثير من أيام السنة. كانت الأسباب الرئيسة لانتشار مرض الملاريا وأمراض العيون.

تطور التعليم في بيسان فبلغ عدد طلاب مدارس الحكومة في العام الدراسي 1942/ 1943 نحو 366 طالباً، وعدد الطالبات 243 طالبة.

كان يوم 12/5/1948 يوماً أسود في حياة بيسان عندما استولى اليهود على المدينة وطردوا سكانها العرب الآمنين من ديارهم. وظلت بيسان مدينة مهجورة طول عام كامل قامت سلطات الاحتلال خلاله بتدميرها وهدم بيوتها، ثم أعادت بناء المدينة بعد أن غيرت معالمها الأثرية والتاريخية، ووطنت مئات العائلات اليهودية فيها. وقد زاد عدد السكان اليهود فيها من 1.200 عام 1950 يهودي إلى 10.050 عام 1961، وإلى 12.800 في عام 1966، وإلى 13.500 عام 1968، فيما بلغ 16.100 نسمة عام 2001. أخذ كثير من السكان منذ بداية السبعينات يهاجرون من المدينة لسوء الأحوال الاقتصادية فيها. ونصف سكان بيسان حالياً هم يهود مهاجرون من شمال إفريقيا معظمهم من مصر والمغرب ونحو 30% من السكان يهود قدموا من أقطار عربية وإسلامية كإيران والعراق وتركيا. أما باقي اليهود فقد قدموا من أوروبا أو ولدوا في فلسطين.

أنشئت في مدينة بيسان عام 1963 مشاريع لجذب السائحين إليها، فأقيم متحف للآثار، وعيدأعيد بناء المدرج الروماني القديم، وأنشئت برك لتربية الأسماك في الجهتين الغربية والشرقية من المدينة تستمد مياهها من أحد فروع نهر جالود المارة بجنوب المدينة. وفي بيسان مولد كهربائي، ومضخة مياه رئيسة، ومصانع للنسيج والمعادن واللدائن (البلاستيك) وصقل الألماس والآلات الكهربائية. بالإضافة إلى مطار صغير على بعد 3كم شمالي بيسان.

ز- وظائف بيسان: كانت الوظيفة الحربية سبب وجود بيسان القديمة التي قامت في موضع تل الحصن، ثم أضيفت إليها الوظيفتان التجارية والزراعية في العهدين الروماني والإسلامي. وفي عهد الانتداب البريطاني كانت بيسان تجمع بين الوظائف الإدارية والتعليمية والزراعية والتجارية والصناعية، وبقيت على هذه الحال في عهد الاحتلال الإسرائيلي للمدينة.

1) الوظيفة الإدارية: كانت بيسان مركزاً لناحية من نواحي قضاء جنين في زمن الأتراك. ثم جعلت مركزاً لقضاء من أقضية لواء نابلس في أوائل العهد البريطاني، وبعد قليل ألحقت بلواء الجليل (رَ: الإدارة). وقد ضم قضاء بيسان في أواخر الانتداب البريطاني مدينة بيسان وثلاثين قرية، وفيها مضارب القبائل. وكان سكان القضاء الذين قدر عددهم بنحو 23.590 نسمة في عام 1945 يعتمدون على مدينة بيسان كمركز إداري يشتمل على مختلف الدوائر الحكومية المختصة.

2) الوظيفة التعليمية: ضمت بيسان مدرستين للبنين والبنات، وفي عام 1945/ 1946 أخذت في مدرسة البنين صف ثانوي زراعي أول. وكان الطلبة يفدون على هاتين المدرستين من القرى المجاورة.

3) الوظيفة الزراعية: كانت بيسان مدينة زراعية في الدرجة الأولى لوقوعها في قلب سهل بيسان حيث تتوافر المياه وتنبسط الأرض وتخصب التربة. وكانت أهم المحاصيل الزراعية في قضاء بيسان عام 1944 الحنطة (2.214 طناً)، والشعير (2.394 طناً)، والعدس (185 طناً)، والفول (65 طناً)، والحمص (68 طناً)، والذرة (314 طناً)، والسمسم (278 طناً)، والزيتون (120 طناً)، والبطيخ (223 طناً)، والعنب (928 طناً)، والخضر (7.532 طناً). وفي عام 1945 كانت مساحة الأراضي الزراعية المغروسة حمضيات حول بيسان 1.617 دونماً، وأراضي الموز 48 دونماً.

4) الوظيفة التجارية: شجع الموقع الجغرافي لبيسان عند نقطة انقطاع بيئة غورية في الشرق وجبلية في الغرب على ممارسة التجارة. وزاد في أهمية الوظيفة التجارية إنشاء محطة السكة الحديدية في الطرف الشمالي من بيسان، ومرور الطرق المعبدة الرئيسة من قلب المدينة وتجدر الإشارة إلى أن الطريق الطولية لوادي الأردن تتقاطع مع الطريق العرضية التي تربط وادي الأردن بالسهل الساحلي بشكل متعامد في قلب بيسان حيث تمتد السوق الرئيسة للمدينة.

وكانت سوق بيسان تعج بالحركة التجارية، ويجد فيها سكان القرى المجاورة جميع ما يطلبون، ويبيعون فيها ما يجلبونه معهم من منتجات زراعية وحيوانية. إن سهولة المواصلات، وارتباط بيسان بهذه القرى من جهة، وبالمناطق المجاورة في الجليل وسهل مرج ابن عامر وجنين من جهة ثانية، جعلا التجارة مزدهرة، وأعطيا بعداً اقتصادياً هاماً لبيسان.

5) الوظيفة الصناعية: اقتصرت الصناعة* في بيسان على الصناعات التقليدية الخفيفة كمنتجات الألبان، وطحن الحبوب، وعصر الزيتون، والتمر، والحصير، والشعير، والوبر، والصوف، وتجفيف الفواكه. ثم تطورت الصناعة حالياً إلى صناعات النسيج والمدائن (البلاستيك) والمعادن والآلات الكهربائية.

مدينة المجدل المحتلة

تاريخ مدينة المجدل

 

مدينة عربية من مدن قضاء غزة تقع على بعد 25 كم إلى الشمال الشرقي لغزة*. وقد سببت مجدل عسقلان نسبة إلى آثار مدينة عسقلان الملاصقة لها وتمييزاً لها من أسماء بعض القرى العربية الأخرى التي تحمل الاسم نفسه.

للمجدل موقع جغرافي هام. فقد نشأت في رقعة منبسطة من السهل الساحلي الفلسطيني حيث تلتقي الكثبان الرملية الشاطئية للبحر المتوسط والأراضي الزراعية للسهل. ومن الطبيعي أن يجذب هذا الموقع السهلي إليه طرق المواصلات والقوافل التجارية والغزاة. فقد كانت المجدل في القديم محطة هامة من سلسلة المحطات الممتدة على طول السهل الساحلي الفلسطيني واعتادت القوافل التجارية والغزوات العسكرية المرور بها طلباً للراحة والتزود بالمؤن. وأصبحت في العصر الحديث محطة هامة من محطات خط سكة حديد القنطرة –حيفا (يقع الخط على بعد 6.5 كم شرقيها). والمجدل عقدة مواصلات تلتقي عندها طرق متعددة. فهي تقع على طريق السهل الساحلي الفلسطيني الرئيسة الممتدة من رفح جنوباً إلى رأس الناقورة* شمالاً. وتتفرع من هذه الطريق الطولية طريقان رئيستان عريضتان تتجهان نحو شرق فلسطين إحداهما من المجدل مباشرة وتمر بدوار كوكبا* والفالوجة* وبيت جبرين* إلى الخليل*، والثانية تتجه شمالاً بشرق إلى جولس* والسوافير* ثم تنحرف نحو الشرق في سيرها إلى القدس*. وتتفرع كذلك من الطريق الساحلية عند منتصف المسافة بين المجدل وغزة طرق رئيسة تتجه نحو الجنوب الشرقي إلى بئر السبع* ومنها إلى إيلات* على خليج العقبة*. وعلى هذا فالمجدل على صلة قوية بالأجزاء الشمالية والشرقية والجنوبية من فلسطين (رَ: الطرق).

وعلاوة على مرور خط سكة حديد القنطرة – حيفا بالمجدل يمر خط سكة حديد بئر السبع – قريات غات – أسدود بالقرب منها قبل وصوله إلى أسدود (رَ: السكك الحديدة). كما أن ميناء عسقلان يعد أهم مياه في الساحل الجنوبي لفلسطين ويقدم خدماته لمناطقها الجنوبية. ويرتبط هذا الميناء بخط أنابيب النفط القادم من إيلات وبئر السبع ويشحن منه النفط* الخام والمكرر إلى الخارج.

أ- الإطار الطبيعي: تقوم المجدل على رقعة منبسطة من أرض السهل الساحلي لا يتجاوز ارتفاعها 50 م عن سطح البحر. وتنحدر الأرض تدريجياً نحو الغرب باستثناء بعض الكثبان الرملية المنتشرة بمحاذاة الشاطىء بارزة أحياناً فوق المستوى العام للأرض. وقد أوقف زحف الرمال إلى المجدل بزراعة الأشجار المثمرة. ويندر وجود الأودية حول المجدل فلا تتعرض لأخطار الفيضانات أثناء الشتاء.

ومدينة المجدل هي الحد الفاصل بين نطاق الكثبان الرملية في الغرب وشريط السهل الساحلي في الشرق. والتربة في الأراضي التابعة لها متنوعة. فالرملية منها تسود غرباً وتربة البحر المتوسط الحمراء تسود شرقاً. وتفتقر التربة الرملية إلى المواد العضوية رغم أنها غنية بالمواد المعدنية. وأما تربة البحر المتوسط فغنية بالمواد العضوية والمعدنية مع لأنها تتكون من خليط طفلي يجمع الطين والرمل والحصباء وغيرها ويجعلها أخصب وأصلح لزراعة الحمضيات والحبوب.

مناخ المدينة معتدل لطيف. فهي ليست على شاطىء البحر المتوسط بل قريبة منه بنيت عليها نسيم البحر صيفاً فللطف درجة حرارتها التي يقع متوسطها السنوي 19 درجة مئوية. ويخفف بعد المدينة عن الشاطىء من رطوبة الجو أثناء فصل الشتاء. ويعد شهر كانون الثاني أبرد شهور السنة آب أحرها.

تهطل على المجدل أمطار شتوية ويقع متوسطها السنوي أكثر من 420 مم. ويتركز نصف هذه الكمية في شهري كانون الأول وكانون الثاني. وتساعد هذه الكمية على نجاح الزراعة البعلية حول المدينة.

تتوافر المياه الجوفية في منطقة المجدل. وقد حذر السكان خلال فترة الانتداب مئات الآبار* واستغلوا مياهها العذبة لأغراض الشرب وري بساتين الخضر والفواكه وبيارات الحمضيات. وفي المنطقة الشاطئية المحاذية للبحر استفاد المزارعون من مياه المواصي في ري أحواض الخضر (والمواصي حفر في الرمال استخرج منها المياه الجوفية من أعماق قليلة).

ب- النشأة والتطور: المجدل بلدة كنعانية كانت تعرف باسم “مجدلجاد” نسبة إلى “جاد” أو “جد” أنه الحظ والنصيب عند الكنعانيين (جد بالعربية: الحظ). وقد تغير اسم مجدل جاد إلى المجدل قبل القرن الرابع الميلادي، فالمؤرخ المسيحي يوسبيوس* Eusebius أسقفت قيسارية (260-340م) والقديس جيروم*Jerome  الذي نزل بيت لحم* سنة 386م ذكرا أن البلدة كانت تدعى في زمانهما باسم مجدل.

لم تكن المجدل في أي وقت من تاريخها مدينة كبيرة بل ظلت طوال القرون قرية صغيرة تجتمع بيوتها حول بئر تدعى “بئر رومية” وتقع وسط البلدة. وكانت المنازل الأولى التي بنيت حول البئر هي نواة البلدة التي تمت ببطء ولم يتجاوز عدد سكانها في أواخر العصر العثماني بضعة آلاف نسمة. وقد دارت حروب كثيرة حول المجدل بين المسلمين والصليبيين واحتلت ودمرت أكثر من مرة، ولكنها في النهاية كانت تبعث من جديد لتواصل حياتها.

وفي عصر المماليك* كان للمجدل نصيب من نشاطهم العمراني الواسع فبني فيها آخر القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) مسجد يعد أهم مشاهدها التاريخية. وقد قام على أعمدة رخامية على غرار مسجد غزة الكبير، وكان له مئذنة جميلة عالية مثمنة الأضلاع. وأما بانيه (سنة 700هـ/1300م) فالأمير المملوكي سيف الدين سلار الذي كان من مماليك السلطان قلاوون وتوفى في عهد ابنه الناصر محمد فأصبح نائباً للسلطنة. وعلى باب المسجد النقش التالي: “بسم الله الرحمن الرحيم. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله وباليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله. فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. أمر بإنشاء هذا الجامع المبارك ابتغاء لوجه الله ورضوانه وطلب الآجر والثواب المقسر العالي المولوي الأميري الكبيري السيفي سيف الدين سلار كافل المماليك الشريفة آجره الله وأرضاه وذلك في تاريخ شهر المحرم سنة سبعماية. فرحمه الله ورحم من ترحم عليه ورحم جميع المسلمين”.

ويبدو أن المسجد كان مركزاً لحركة علمية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) وما تلاه من القرون. فقد ذكر السخاوي في “الضوء اللامع” أسماء عدد من العلماء المجدلين في القرن التاسع منهم ابراهيم بن رمضان البرهان المجدلي البصير، وأحمد بن عامر الشهاب المجدلي الشافعي ويعرف بكنانة، والمقرىء عبد الله بن خلد، وشمس الدين محمد بن موسى المعروف بابن أبي بيض، وجمال الدين بن حنون القاضي (رَ: الجوامع والمساجد).

درس على هؤلاء العلماء المجدلين أخوان عالمان شهيران مجدليا الأصل أحدهما أحمد بن عبد الله بن محمد بن داود بن عمرو بن علي ابن عبد الدائم الشهاب أبو العباس الكناني الأصل المجدلي المقدسي الشافعي الواعظ، ويعرف بأبي العباس المقدسي. وقد ولد سنة 809هـ/1406م  بالمجدل ونشأ بها وقرأ القرآن وتلاه تجويداً وحفظ المنهاج وألفية ابن مالك والمنطق والياسمينة في الجبر والضيافة. ثم انتقل من بلده إلى غزة فالرملة فالقدس فالشام فالقاهرة فمكة فحاور وتفقه وقرأ العربية والحديث. وقدم القدس فولي الإعادة بالصلاحية بالقدس والتصدير بالمسجد الأقصى* وتوفي في سنة 870هـ/1465م.

والأخ الثاني هو خليل بن عبد الله بن محمد الكناني العسقلاني الأصل المجدلي المقدسي الشافعي. وقد تفقه وسمع الدروس في المجدل فدمشق وطرابلس والقاهرة التي ناب فيها بالقضاء ليستقل فيما بعد قضاء نابلس. ثم استقر في قضاء القدس ومشيخة المدرسة الصلاحية فيها وجاور بمكة سنة 898هـ/1492م وتوفي فيها في السنة نفسها.

وهناك في المجدل عدد من المزارات الإسلامية منها ضريح الشيخ نور الظلام في وسط البلدة قرب الجامع الكبير، وضريح الشيخ عوض. وهو مسجد مقام على شاطىء البحر. وضريح الشيخ سعيد. وضريح الشيخ محمد الأنصاري، وضريح الشيخ محمد العجمي.

وقد نشأت في المجدل منذ عدة قرون عادة الاحتفال بموسم وادي النمل. ويشبه هذا الموسم المواسم الأخرى التي نشأت في فلسطين في عهد المماليك كموسم النبي موسى في القدس وموس النبي صالح في الرملة. ويتفق هذا الموسم في تاريخه مع هذه المواسم التي تقام في لبنان من كل سنة. وفي هذا الاحتفال يخرج الناس يوم الثلاثاء إلى البحر للنزهة، ويذهبون في اليوم الثاني في موكب حافل إلى وادي النمل تحت سور عسقلان الشرقي، ثم يزورون ظهراً مقام الحسين ويعودون عند الغروب إلى المجدل، وينتهي الاحتفال يوم الحسين. ويعتقد بعض المؤرخين أن الاحتفال بموسم وادي النمل يعود تاريخه إلى موسم “خميس العهد” الذي كان يحتفل به الفاطميون* قبل عيد المسيح بثلاثة أيام.

كانت المجدل بلدة متواضعة في العهد العثماني وأصبحت في نهاية ناحية تشرف على مجموعة القرى المجاورة لها. وقد شهدت نهضة صناعية منذ أوائل القرن الحالي وتجلى تقدمها الزراعي والصناعي في رواج الحركة التجارية فيها. ومن الطبيعي أن يزيد عدد سكانها زيادات كبيرة نتيجة بالزيادة الطبيعية من جهة، ولاستقرار بعض السكان من القرى المجاورة فيها من جهة ثانية. وتشير الأرقام إلى أن عدد سكان المجدل تضاعف بين عامي 1930 و1945. وقدر عدد سكانها في عام 1948 بنحو 13.000 نسمة. وقد قررت سلطة الانتداب في أواخر عهده جعل المجدل مركزاً لقضاء جديد تم اقتطاعه من قضاء غزة. ولكن أحداث عام 1948 حالت دون تنفيذ القرار.

ظهر أثر نشاط سكان المجدل في زيادة انتاجهم الاقتصادي وارتفاع دخلهم السنوي وتحسن مستويات معيشتهم. ومن الطبيعي أن يواكب نمو السكان وتحسن أوضاعهم الاجتماعة والاقتصادية نمو عمراني كانت البلدية تشرف على تنظيمه. ويشير المخطط الهندسي للمجدل إلى أن المستطيل هو الذي اعتمد لتصميم المدينة. فوسطها الذي يضم سوقها الرئيسة يتكون من شارعين رئيسين متعامدين توازيهما الشوارع الأخرى المتعامدة بشكل شطرنجي. ويصبح من الامتداد العمراني للمدينة له يتخذ شكل المحاور على طول الطرق المؤدية إليها. ولا سيما في الجهة الجنوبية على الطريق إلى قرية بربرة*. وقد اتسعت المدينة في أواخر فترة الانتداب فبلغت مساحتها 1.346 دونماً منها 200 دونم للطرق والأودية. وشيدت مبانيها من الطوب واللبن والاسمنت والحجر. وكان اقبال الأهالي على البيوت الاسمنتية وتركهم بيوت اللبن  دليلاً على تحسن مستويات معيشتهم.

وفي أواخر عام 1948 احتل اليهود المجدل وطردوا سكانها العرب من بيوتهم وأحلوا محلهم عائلات يهودية مهاجرة. ولم يكتف اليهود بذلك فغيروا معالم مدينة عسقلان التاريخية في الجزء الغربي من المجدل بإقامتهم المباني الحديثة على أراضي المجدل وأراضس قرى نعليا* والجوزة والخصاص*، ووسعوا مياه عسقلان على البحر المتوسط فأصبحت رقعة مدينتي المجدل وعسقلان العمرانية واسعة. واتصلتا فأصبحتا مدينة واحدة أطلقت عليها (إسرائيل) اسم عسقلان ومحت اسم المجدل من الوجود. وفي عام 1973 قدر عدد سكان مدينة عسقلان بنحو46.200 نسمة ووصل عام 1983 إلى 52.900 نسمة وارتفع في عام 2001 فبلغ 100.700 نسمة.

ج- التركيب الوظيفي: المجدل مدينة زراعية لوقوعها وسط محيط زراعي كثيف. وتبلغ الأراضي التابعة للمجدل 42.334 دونماً لا يملك اليهود منها شيئاً. وتزرع الحبوب والخضر والأشجار المثمرة في جزء كبير من هذه الأراضي. وتشغل بيارات الحمضيات مساحة واسعة من الأراضي المزروعة تتلوها كرم العنب وأصناف الفواكه الأخرى كالتين والخوخ والبرقوق والتوت والميز وغيرها.

والمجدل أيضاً مدينة صناعية فهي من أشهر مدن فلسطين في صناعة الغزل والنسيج. وقد اكتسبت شهرتها في الصباغة والنسيج منذ أيام الصليبيين. وتعتمد صناعة النسيج فيها على الأنوال اليدوية التي بلغ مجموع العاملة منها في المدينة عام 1945 نحو 800 نول. وفي أواخر الانتداب أدخلت بعض الأنوال الآلية. ويعود الفضل في إدخال صناعة النسيج إلى مدينة غزة إلى سكان المجدل الذين هاجروا إلى غزة عام 1948.

وكان قسم من سكان المجدل يعتمدون في معيشتهم على التجارة*، ولا سيما تجارة الأقمشة المصنوعة محلياً وتجارة المنتجات الزراعية. هناك بعض كبار التجار الذين كانوا يستوردون البضائع من خارج فلسطين ويبيعونها في أسواق المدينة والقرى المجاورة. ويميل كثير من تجار المجدل إلى التنقل ببضائعهم خارج أسواق المدينة لعرضها في أسواق المدن والقرى العربية المجاورة.

وبالإضافة إلى الوظائف السابقة كانت المجدل تؤدي وظائف أخرى كالوظيفة السياحية (رَ: السياحة) والوظيفة التعليمية والوظيفة الإدارية. فقد اعتاد السياح منذ القديم زيارة الأماكن الأثرية والتاريخية والأضرحة والقبور في المدينة وحولها. وحظيت في أواخر فترة الانتداب نهضة تعليمية بدت في ارتفاع المستويات الثقافية لسكان المدينة. إلى جانب المدارس الابتدائية والمتوسطة للذكور والإناث كان في المجدل مدرسة ثانوية للبنين ضمت مئات التلاميذ من أبنائها وأبناء القرى المجاورة. وتمثلت الوظيفة الادارية في بعض الدوائر الحكومية التي كانت تقدم خدماتها لسكان المجدل والقرى التابعة لها. وقد اشتملت المجدل على مستشفى وبعض العيادات الصحية التي ساهمت وتحسين أوضاعها الصحية.

وظائف عسقلان الحالية متعددة تأتي على رأسها الوظيفة الصناعية والوظيفة البحرية. وقد قامت صناعات كثيرة في عسقلان إلى جانب صناعة السياحة والصيد (رَ: الصناعة). كما أن حركة ميناء عسقلان لا تنقطع، فهو 
بمستقبل عشرات البواخر وناقلات النفط التي تشحن النفظ المكرر من الميناء إلى أوروبا.


اقرا ايضا

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. المدن الفلسطينية ذات تاريخ عريق، ضارب الجذور في أعماق الحضارات الإنسانية. وقد تصدت هذه المدن التي يحتلها الصهاينة منذ سنة 1948 عبر مسيرتها التاريخية لكل الغزاة الذين حاولوا إخضاعها لسيطرتهم، ومنهم الفرس واليونان والبيزنطيون والصليبيون وغيرهم، وانتصرت عليهم في نهاية المطاف، وهي بمشيئة الله ستنتصر على الاحتلال الراهن الذي ابتليت به منذ النكبة التي حلت بها، وستعود لها ابتسامتها المشرقة من جديد، ويتحقق لأهلها الذين هُجِّروا منها قسرا حلمهم بالعودة إلى أحضانها الدافئة، بعد عقود عجاف من صقيع المنافي.

    ردحذف

إرسال تعليق

محتويات المقال