القائمة الرئيسية

الصفحات

قلقيلية بين الإفتاء والغناء

المتوكل طه
بقلم المتوكل طه

مدخل لازم:


سيدتي، أمّ العبق وشذى الفصول، زارعة الصخور بالشهد الأخضر المتعالي، الصابرة، أم "أبو علي إياد" و"بلال الأوسط" و"أدهم الزعتر" و"أبو شرار"، قلقيلية البهيّة الندّاهة التي حملت عن يافا بياراتها وأمعنت في البقاء، بلدتي التـي أكرّس لها اجتراحات الصحو وقمر الماء الرجراج، المحاصرة بأسوار العزل الذابح كأنها

السجن الذي تقطّر من أساليب الموت المتطورة، وإعادة إنتاج آخر وأعتى اشكال القمع عبر التاريخ، تلك المدينة التي التهموا صدرها فأنبتت استطالات الذهب والزيت اللاذع، وأحالت الأجرد أندلساً طاعنة بالبذخ والزهو.. ستبقى "كاميلوت" فلسطين التي يتضرج أبناؤها كملوك الأساطير على تبرها الطاهر.. حتى تبرأ من أن تكون سويتو أو هندية حمراء أو برلين .. وما هي برلين، لكنها قلقيلية الشغف والعطر والدبكات الحاسمة في الليل البهيج.

بوضوح:

نبدأ بالقول الصريح الذي لا لبس فيه: إننا مع استقبال الفعاليات الفنية لمركز الفن الشعبي في مدينة قلقيلية، أقول ذلك ليس لأنني من تلك المدينة فقط، بل لأنني أؤمن أيضا بأن الفن هو أحد الينابيع الأصيلة في تكوين الوجدان وإثرائه، وفي رسم الصورة العليا عن الذات وعلاقتها بنفسها وبالآخرين وبالكون من حولها. الفن نزعة أصيلة، وتعبير عن ذلك الظمأ الأبدي للجمال المطلق ورغبة حقيقية في البحث عن المتعة، ما لم تؤد إلى حرام أو تأتِ من حرام ــ بالمعنى الاجتماعي والديني معاً ــ، مفهوم "الحرام" قد يبدو هنا لا علاقة له بالفن، وهو مصطلح يأتي من منطقة الدين ليخيّم ويظلّل المناطق الأخرى، وهذه هي قوة الحرام، الذي يخرج من الديني ليدخل الاجتماعي، ويخرج من الذاتي إلى العام. نحن ننتمي إلى دين قوي ومتين ومسيطر، وعليه فإن ديننا ــ في علاقته بالفنون كلها ــ لا يتدخل في الأشكال، وإنما يتدخل في المضامين، وللمفكر الإسلامي عماد الدين خليل آراء سديدة في هذا المجال، وما بين الحرام وبين الحرية الفنية هامش واسع للحركة والتحليق والإبداع في حالة أن يكون الحرام هو السقـف الأعلى الذي لا يجب تجاوزه، تبدو كلمة الحرام هنا كلمة خارجة عن قاموس الفن والفنانين، تبدو وكأنها كلمة نشاز ولا علاقة لها بالموضوع! فهل هذه هي النزعة المحافظة التي قد نتهم بها؟! ويبدو أن المسألة كلها تدور حول ذلك!!


فالبيان الذي أصدره عدد من الأدباء والمثقفين ضد قرار المجلس البلدي في قلقيلية وضد فتوى سماحة الشيخ عكرمة صبري، ويستنكرون فيه رفض المجلس البلدي إقامة ذلك الحفل إياه، إنما يركز الحوار حول فكرة الحرية وفكرة الحرام، أي الخلاف حول المرجعيات.


فالمجلس المنتخب بشكل ديمقراطي ــ أي أنه يمثل قرار الأغلبية في المدينة ــ يرى أن هذا الحفل سيؤدي إلى ما يخالف الشرع ــ بغض النظر عن التفاصيل الكثيرة ــ، وان المدينة المطحونة بالحصار والجوع والبطالة والاقتحامات المتكررة واقتلاع البيارات ومصادرة الأرض ورعب الجدار العنصري وانتشار بعض أشكال الجرائم لا تحتمل حفلا فنيا مختلطاً قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه، والمجلس أدرى بمدينته وظروفها ومشاكلها وتوازناتها وطبيعتها ومزاجها، وقد يكون المجلس الذي توقع دعما من أطراف متعددة أو إعانات أو إغاثات أو زيارات مهمة لسياسين فلسطينيين أو دوليين لم يكن يتوقع أن تكون الإعانة على شكل حفل فني ساهر. قد يكون قرار الرفض لإقامة الحفل نوعاً من الاحتجاج أو الغضب على انعدام الدعم المالي والسياسي والإعلامي لمدينة محاصرة بكل معنى الكلمة. مدينة قلقيلية ــ لمن لا يعرف ــ مطوقة بجدار مهول، وبوابة تغلق وتفتح بساعات محدودة يحكمها مزاج محتل لا يطرب ولا يأكل ولا يشرب، وعليه، هل يبدو الحفل الفني في مثل هذه المدينة نوعاً من الترف الزائد.
ربما؟
!
ما سبق من كلام لم يذكره أحد أمامي ولم أسمعه من أحد. فقد كان المجلس البلدي واضحا في رفضه معللاً ذلك بعدم شرعية الاختلاط، وجاءت فتوى سماحة الشيخ عكرمة صبري تعزز ذلك القرار. إذا كانت هناك مرجعية واضحة تمثلت في الدين! يجب هنا أن نلاحظ ازدياد قوة "رجل الدين" منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى هذه اللحظة، فقد صار رأيه مطلوباً ومسموعاً ومؤثراً، ترافق ذلك مع تصاعد شراسة الاحتلال وتغوّل قوى الاستعمار والظلم وانهيار الحكومات وبدء ما يسمى الحرب على "الإرهاب". بكلمة أخرى، في الوقت الذي يطارد فيه ما يسمى بقوى التطرف والتشدد، فإن رأي "رجل الدين" أخذ يكتسب أهمية تتصاعد شيئا فشيئاً. وإذا كانت الظاهرة الايرانية قد ثبّتت قوة الإمام، فإن الحروب والاحتلالات والاختلالات التي شهدتها منطقتنا العربية أخذت تدفع "العالم" إلى واجهة العمل الاجتماعي والحراك السياسي ــ في ملاحظة لافتة في بلادنا، فإن الانتخابات البلدية مثلاً شهدت كماً كبيراً من المرشحين الذين يعملون أئمة مساجد في مدنهم وقراهم ــ، إذن، يجب الاعتراف والإقرار بأن هناك ما يتآكل وهناك ما ينمو، وأن هناك دائما من يتقادم وان هناك من يتجدد، لم يكن التاريخ يوما ساكنا او جامداً او متوقفاً. التاريخ كما يقال نهر يتجدد في كل لحظة.

أما الإخوة الذين وقّعوا ذلك البيان الذي استنكروا فيه قرار المجلس وفتوى سماحة الشيخ فإنهم يعبّرون عن مرجعية أخرى تماما، فالليبرالية التي تفترض حرية المعتقد وحرية المسلك وحرية القول وحرية الامتلاك والتملك والعمل تفترض أيضا أن يتساوى الناس في ذلك. لا حرية بدون مساواة، ولا مساواة بدون عدل، إن ما يقبله الليبرالي لنفسه يجب أن يقبله لغيره، الليبرالية ليست رؤية متقدمة عن أية رؤية أخرى، فهي ليست نهاية التاريخ، وهي ليست ذروة الفكر والانسانية. الليبرالية موقف مثل مواقف أخرى، ورؤية تجاور رؤى أخرى. والليبرالية لا تقدم بديلاً عن ذلك النسق الحضاري والتراثي لأية جماعة. حتى الولايات المتحدة ــ الأكثر ليبرالية كما يقال ــ فصلت ما بين الدولة الخدماتية وبين المجتمع الذي تعيش إثنياته كما تريد وكيف تريد. الليبرالية منهج لرؤية الذات والمجتمع والكون ولكنها ليست سلوكا اجتماعيا جمْعياً، وليست ذات إرث يجتمع عليه الناس. إنها مجرد رؤية ليس إلاّ. والليبرالية ايضا لم تستطع أن تلغي غيرها من المواقف والرؤى حتى في أكثر الأنظمة السياسية ليبرالية، ولنأخذ اسرائيل مثلا: ان مدينة مثل "تل أبيب" هي مدينة علمانية بكل ما في الكلمة من معنى، ولكن بلدة "بني براك" الملتصقة بها هي بلدة متديّنة تمنع دخول لحم الخنزير إلى متاجرها وتمنع وجود قاعات الرقص واللهو وأشكال الدعارة التي تشاهد في شوارع "تل أبيب".. ليس في "بني براك" مثلا شارع "ديزنكوف" أو حي "تل باروخ". وحي "ميا شعاريم" في مدينة القدس المحتلة اصطدم بالدولة من اجل منع الحركة في شارع "بار ايلان" أيام السبت، وفي المستوطنات والموشافات التابعة للحركات والاحزاب الدينية، تختفي منها جميع الأشكال العلمانية في السلوك والتعامل وحتى في المؤسسات، ورغم ذلك فإن اسرائيل دولة ديمقراطية باعتراف العالم الليبرالي الديمقراطي، وهي أكثر ديمقراطية من جميع الدول العربية ــ كما يقول المتفكّهون ــ، ديمقراطيـة اسرائيل ديمقراطية "موقعية"، كل تجمّع سكاني يرى ديمقراطيته كما يريد، أما الدولة فهي تقدّم خدماتها بشكل متساوٍ وللجميع. 
وقد اكتشف المتديّنون والعلمانيون في اسرائيل أنهم لا يستطيعون إلغاء بعضهم البعض، تعوّد الطرفان أن يتعايشا مع هذا الاختلاف وهذا التنوع، والدولة من القوة بحيث تحوّل هذا التصدع في المجتمع إلى نقاط قوة وليس إلى نقاط ضعف، وربما بفعل التهديد الخارجي، وربما باعتبار الدولة هي من مصلحة الجميع.
لنتعلم من أعدائنا أن نتعايش مع الاختلاف والتنوع والتعدد!!
ولنتعلم من أعدائنا أن الليبرالية لا تعني تحقير او الغاء أو اقصاء الاخرين!!
ولنتعلم أن الاختلاف هو أساس الكون. الله خلقنا مختلفين لحكمة بالغة!!

لترفض قلقيلية إقامة الحفل، وليكن ذلك الموقف جزءاً من حراكنا الثقافي والسياسي والاجتماعي، الديمقراطية ــ يا إخوان ــ تعني ــ أمرين؛ أولهما أن صندوق الانتخابات هو الذي يقدّم الجواب، وثانيهما أن حل مشاكلنا ــ مهما بلغت ــ يجب أن يكون من خلال الحوار؛ لا التكفير ولا التهديد ولا الاهدار ولا الالغاء أو الاقصاء أو التغييب. وأُطمئن الجميع ان مجتمعنا من الاختلاف والتنوع والقوة بحيث لا يمكن لأحد ــ مهما كان ــ أن يخطف المشهد أو يرتهن الأوضاع.

تنويه إلى المجلس البلدي الموقر:


1ــ إن الفعّاليات التي يقدمها مركز الفن الشعبي ومهرجان فلسطين تتماهى مع الفضيلة وتكرّسها وتعمق مفهومها الوطني والحضاري، وهي صنو الفعّاليات التي تشهدها ساحات قلقيلية وبيادرها في ليل الأعراس وسامر الحناء وزفّات الظهيرة الناغرة بالطيب والعرق، غير أن ما تقدمه فرقة الفنون الشعبية ــ مثلاً ــ هو أكثر تطوراً وأناقة وعمقاً ووعياً من ذلك الفلكلور البريء الفطري الذي شربناه، وأصّل مداركنا، وحفظ أحلامنا وثوابتنا

2ــ إن ما تقدمه هذه الفعّاليات يعدّ الثقافة الأصيلة البديلة لثقافة العري والاستهلاك التي ترغي بها الفضائيات وتربّي وجدان أجيالنا الطالعة، وتعتبر تلك الفعاليات الحصانة التي تخلق المناعة أمام طوفان الاستلاب والتغريب والعولمة السوداء

3ــ كان بإمكانكم انتقاء ما يناسب المدينة، ولا يعتبر "جرعة" زائدة لا تحتملها المدينة، وكان بالإمكان تحديد يوم للرجال وآخر للنساء.. بمعنى لا بُدّ من كسر الانكفاء والعزلة والغربة التي تعيشها المدينة على غير صعيد

4ــ نطالب، وبأسرع ما يمكن، بإقامة مركز ثقافي يشتمل على مسرح وسينما وقاعات
 لعرض كل الفنون في قلقيلية، وفتح نوافذ البلد أمام كل أشكال المعرفة، لأن المنع لا يحلّ مشكلة ولا يفيد أحداً، بل يعود بالمدينة قروناً إلى الوراء

5ــ علينا جميعاً التنبّه إلى أن غير فئة تستهدف صورة الإسلام الحنيف، ما يستوجب اجتراح طرائق وآليات حداثية للتأكيد على أن الإسلام الأصيل دين الانفتاح والحياة والزينة والعلم مثلما هو دين الفرح والبشرى والوسطية.. 

6ــ لنتذكر قول سيدنا العظيم رسول الله (ص) حين رأى الأحباش يغنون في المسجد، ونساؤه ينظرن من خلف كتفه إليهم: دعوهم ليعلم يهود أن في ديننا فُسحة.

تعليقات

محتويات المقال