الجزء الأول:
كنت أمل الوالدين
[ إذا لَم تَستَطِع شَيئاً فَذَرهُ ... وجَاوِزهُ إلى ما تَستطيعُ ]( )عندما نالت الكويت استقلالها من بريطانيا في الخامس والعشرين من شهر فبراير عام 1961م في عهد الشيخ عبدالله السالم الصباح – أمير دولة الكويت سمحت الحكومة الكويتية بدخول العرب بقرار وطني إلى أراضيها للعمل بلا قيود الأمر الذي أيقظ طموحات بعض شباب قلقيلية للاتجاه نحو الكويت والعمل هناك، فقام والدي باستخراج جواز السفر الأردني لي من مدينة القدس بموجب وحدة الضفتين عام 1950م لتجهيزي للسفر إلى الكويت.
وفي أحدِ أيامي الحزينة يوم السبت الموافق 10/5/1961م جاء والدي إلى الملعب البلدي الواقع شمال قلقيلية يبحث عني قبيل الغروب وكنت مع فريقي داخل الملعب، فدعاني إليه وخرجت لمقابلته.
وقال: يا بني إن الأقارب والأصدقاء وممثلين عن العائلات سوف يحضرون بعد صلاة المغرب لوداعك جريا على عادة أهالي قلقيلية الكرام بوداع واستقبال المغترب في ذلك الزمن، فقلت لوالدي: ولماذا هذا الوداع يا أبي؟ قال: هل نسيت؟ فغداً سوف تشد الرحال إلى الكويت للعمل هناك ولمدة عامين. ثم تعود لنا سالماً بإذن الله. نزل هذا الأمر المطاع علي كالصاعقة، نظر والدي إلى وجهي المهزوم وقال: يا بني لولا ظروفنا القاسية والصعبة التي ألمت بأهالي قلقيلية والقرى الحدودية بعد ضياع فلسطين لَما وافقتُ على سفرك إلى الكويت، اترك الملعب وودع أصدقاء الصِّـبا وتعال معي إلـى الديوان فامتثلت لأمر والدي – العين الساهرة على طفولتي– فودعت فريقي وغادرت الملعب إلى الأبد. وفي طريقي من الملعب إلى ديوان عائلتي تساقطت دموعي حزنا على فراق موطني الأصلي وذكريات طفولتي وانتابني شعور بأنني سوف أدفع ثمن غربتي، ولن أعود إلى قلقيلية مرة أُخرى، فكدتُ أقول لوالدي كما قال الشاعر أبو العتاهية:
[ رُبَّ يَــــومٍ بَـكـَيـــــتُ مِـنــهُ، فَـلَـمَّـــا
صـــِرتُ فـــي غَــيـــرهِ بَـكَــيـــتُ عَـلَـيــهِ]
ولكن احترام الوالد عندي عبادة لقول الإمام علي بن أبي طالب:
[وَأَطِـــع أَبـــاكَ بِـكُـــلِّ مــا أَوصـــى بِــــهِ
إنَّ الـمُـطيــعَ أبَـــاهُ لا يَـتَـضَعـضَــــعُ]
وفي ليلة الوداع لاحظت والدتي الحزن بادياً على وجهي. فقالت: يا بنيّ إذا كنت متردداً في السـفر إلى الكويت فابق معنا، ولكن عَزمَ الشـباب قد طغى على عاطفة الأم، فاتخذت قراراً بالسفر إلى الكويت دون تردد، من أجل تحسين ظروف عائلتي المادية، فقد عانيت مرارة السنين العجاف التي عصفت بالشعب الفلسطيني في الخمسينات من القرن الماضي.
وكان لهذا الأمر أثر واضح في دفاعي عن البؤساء في غربتي لقول: فيلسوف العرب أبي العلاء أحمد المعرّي:- [ إذا صَــادَقــتَ فــي أَيَّــامِ بُـــؤسٍ
فَــلا تَـنــسَ الـمَـــوَدَّةَ فـــي الـرَّخَـــاءِ]( )
وبعد ليلة الوداع غادرت قلقيلية يوم الأحد الموافق 11/5/1961م تاركاً خلفي أسرتي المكونة من عشرة أفراد في صدمة لخروجي من الدار وأنا في سن الثامنة عشرة من عمري، لم يكتمل عقلي ولم يشتدُ عودي وليس عندي خبرة في التعامل مع ذئاب البشر في غربتي ومجرّداً حتى من سلاح العلم !!!! ونظرت إلى والدي ووالدتي وإخوتي وهم: زكي وفيصل ونصر وأخواتي: عزية وآمنة ورحمة ورابعة ولُطفِيَة النظرة الأخيرة وسألت نفسي هل نلتقي مرة أخرى يا ترى؟ أم أنّ الغربة سوف تفرقنا عن بعضنا البعض إلى الأبد؟ وتمثلت قول الشاعر الإرجائي:
[ كُـنّــا جَـمِـيـعــاً والــدَّارُ تَـجـمَـعُـنــا
مِثلَ حُروفِ الجَميعِ مُلتَصِقَة]( )
[واليـــومَ جــاءَ الـــوِداعُ يَـجـعَـلُـنَــا
مَـثــلَ حُـــروفِ الـــوِداعِ مُـفـتَـرِقَــة]( )
وأمام بيتي في قلقيلية تجمع أبناء الحي من الأصدقاء والأقرباء والمعارف لوداعي الأخير، ثم صرخ أحد المرافقين وقال: توكلوا على الله، لقد تأخرنا على موعد الطائرة، وركبنا السيارة، وسمعت صرخات العويل والبكاء على فراقي من أفراد عائلتي وما زالت تهز مشاعري في غربتي كلما تذكرت هذا المشهد، الذي لن يتكرر مع أبنائي في المستقبل.
ورددت في نفسي قول الشاعر القروي:
[ وَلَــو خــيِّــرتُ لَــم أَهـجُــر بِـــلادي
وَلَـكِــن، لَـيـسَ فــي العَـيــشِ اخـتِـيــارُ]
وكنت بصحبة والدي إلى المطار وبجانبي أخي الصغير نصر، و كان عمره آنذاك أحد عشر عاماً، وبعض الأقرباء من آل زهران. اخترقت بنا السيارة شوارع قلقيلية الضيقة متجهة إلى مطار القدس مروراً بتلة صوفين – العين الساهرة على قلقيلية من العدو الإسرائيلي وعند وصولنا قمة التلة التي ترتفع عن سطح البحر الأبيض المتوسط 120 متراً.
نظرت عبر الزجاج الخلفي لألقي نظرة الوداع الأخير على أجمل لوحة طبيعية أبدعها الخالق على سهول المثلث الذهبي في فلسطين ويشدك إليها زرقة السماء وحمرة التربة وخضرة أشجار الحمضيات وما عليها من ثمار قبيل موسم القطاف في فصل الشتاء، وكذلك مرور القطار الذي كان يخترق سهول المثلث الذهبي متجهاً إلى مدينة القدس قادماً من بلاد الشام، وانعكاس أشعة الشمس عند الغروب على شاطئ مدينة يافا التي تبعد عن قلقيلية 13كم هوائي تقريباً. فقد قال المعرّي:
[ لَـــولا بَـدائِــعُ دَلَّــت أَنَّ خـالِـقَـنــا
أَدرى وَأَحـكَــمُ، قُـلـنــا خَـلـقُـنَــا لَـمَـــمُ] ( )
فَلَمَم قادة الجيوش العربية في ذلك الزمن هم الذين شردوا أمثالي من أرض فلسطين قبيل وبعد اتفاقية (رودس عام 1949م)،هذا وقد خسرت قلقيلية كل أراضيها الزراعية جرَّاء هذه الاتفاقية ومنها أرض والدي التي ورثها عن جدي المرحوم محمد بن القاسم بن زهران، من قسيمة رقم: 7547 المشتركة مع أخيه المرحوم الشيخ قاسم في أرض الجزيرة بالمثلث الذهبي الذي تراه بالعين المجردة من خط الهدنة والمعروف عن الجيش الإسرائيلي بأنه قد قام بتثبيت حدوده بالأعمدة الإسمنتية كالأعلام البارزة للعيان والمطلية باللون الأبيض على طول امتداد الخط الأخضر – خط الهدنة – بعد اتفاقية رودس والتي تسمى عند أهالي القرى الحدودية بخوازيق الهزيمة العربية في فلسطين عام 1948م، كحد فاصل بين إسرائيل والضفة الغربية، والحقيقة أنها خوازيق بريطانية زرعتها في أرض العرب، للتخلص من فتن اليهود في أوروبا. ويقول الكاتب البريطاني، جون مارلو في مقدمة كتابه: The Seat of Pilate]إنَّ تاريخ الانتداب على فلسطين24 ] تموز 1922م[ هو تاريخ انتصار اليهود، وتاريخ مأساة العرب[( ) فمنذ ذلك التاريخ الأسود وأنا أردد مع النادبين قول: الشاعر العربي رفعت الصليبي وهو من مواليد السلط والذي زار القرى الحدودية قبيل رحيله عن الدنيا عام 1952م:
[ هُـنـــاكَ بـِذَلـــِكَ الـعَــلَـــمِ
مَـنـازِلُـنــا مِــنَ الـقِـــدَم ]
[تَــــرَى عَـيـنـــــِي مَـرَابِـعَـهــــا
وَلا تَـسـعَــى لَـهَــا قَــدَمِـــي]
وصلت بنا السيارة إلى مطار القدس – قلنديا- الساعة التاسعة والنصف صباحاً، وبعد توديع الوالد والأقرباء قبلت أخي نصر ودخلت صالة المطار فوجدت أكثر المسافرين إلى الكويت من جيلي وكان أستاذي جواد السعيد نزال أحد قادة الفكر في قلقيلية من ضمن الركاب وكان يخفي وجهه بجريدة كأنّه مطلوبٌ، فاستدركتُ الأمر ولم أقترب منه حتى إقلاع
الطائرة. صعدنا إلى الطائرة التي أقلعت بنا الساعة الواحدة بعد الظهر بتوقيت القدس متجهة إلى مطار النزهة في الكويت.
وخلال الرحلة الجوية التي دامت أربع ساعات على متن الطائرة ذات المراوح الهوائية من نوع الكرافيل جلستُ بجانبه ودار الحديث بيني وبينه حول أسباب هجرة الشباب إلى الكويت( ). ومنذ ذلك التاريخ بدأت رحلتي مع ذئاب البشر!
مطار القدس
11/5/1961
صدمة الوصول إلى الكويت !
الجزء الثاني:
وقبيل الوصول قالت المضيفة عبر المذياع: بعد قليل سنصل إلى مطار النزهة
في الكويت وأن درجة الحرارة في المطار 42ͦ فوق الصفر أرجو ربط الأحزمة، لم يستوعب عقلي مقياس الحرارة إلا بعد وصولي!
يقول الشاعر الفلسطيني حسن البحيري في الغربة:
] أَحـيــا جــريــحَ الأمــانـــي مــفـــرداً وَحَـــداً
بـغـــربـــةِ الـــروحِ فـــي أهـلــي وأوطـانــي ..![
وبعد دقائق معدودة، هبطت بنا الطائرة على مدرج مطار النزهة بسلام.
فتحت المضيفة باب الطائرة لنزول الركاب وعندما أطل رأسي من باب الطائرة متجهاً إلى السلم لفح وجهي تيار من الهواء الساخن لم أشعر بمثله من قبل: تراجعت قليلاً إلى داخل الطائرة معتقداً بأن خارج الطائرة حريق!
فقالت المضيفة هون عليك يا فتى هذه هي الكويت وبعد ذلك نزلت، وقد لفت نظري وأنا في طريقي إلى مكاتب الجوازات لافتة كتب عليها:
[ الـكــويــت بـــلاد الـعــــرب، تــرحــــب بـكــــم].
فشعرت بانتمائي العربي إلى هذا البلد على الرغم من شدة الحرارة والرطوبة في مبنى المطار المتواضع وعدم خبرتي بالمجتمع الكويتي في ذلك الوقت. وصلت إلى مكتب موظف الأمن الذي كان يرتدي البزة العسكرية وعلى رأسه الكوفية "الغترة" والعقال العربي بعد أن تشبع جسدي عرقاً من شدة الحرارة، وَخُتِمَ على جواز سفري إقامة لمدة ثلاثة أشهر ثم تساءلت في نفسي لم هذه الإقامة وأنا في بلد عربي؟!
خرجت من المطار بصحبة أستاذي جواد السعيد مردداً في نفسي قول الشاعر أبو العتاهية:
]كُــلٌّ لَــهُ سَــعــيـُهُ وَالسَــعــيُ مُــخــتَــلِــفٌ
وَكُـــلُّ نَــفـــسٍ لَهــا فــي سَــعـيِـهــا شــاءُ [( )
ثمَّ افترقنا. وكان في انتظاري بعض الأقارب اصطحبوني إلى مسكنهم في مزرعة الأشغال العامة التي تقع قرب قرية الدوغة – الفروانية حالياً- حيث يعملون، نزلت ضيفاً عندهم وكان أكثرهم يعمل في الزراعة برئاسة السيد/ يحيى غنام وهو من الضفة الغربية والمعروف لدى الجالية الأردنية الفلسطينية في الكويت، تعرفت على الرعيل الأول من أهالي قلقيلية الذين سبقوني إلى الكويت في الخمسينات والذين جاؤوا للتهنئة بسلامتي.
وبعد أيام بدأت أبحث عن عمل تحت أشعة الشمس الحارقة لدى الدوائر الحكومية بلا جدوى فرددت قول: المعرِّي في نفسي:
[ تَــوَهّــمـــتُ خَـيــراً فـــي الــزَّمـــانِ وَأَهــلِـــهِ
وَكَـــانَ خَــيـــالاً لا يَـصِـــحُّ التَّــوَهُّــــمُ( )
فَــمَــا النَّـجـــمُ نَــــوَّارٌ ولا الـفَــجـــرُ جَــــدوَلٌ
وَلا الـشَّــمـــسُ دِيـنــارٌ ولا البَــــدرُ دِرهَــــمُ]( )
فعدت بعد جولتي الأولى إلى مزرعة الأشغال مصاباً بالتسميط ( ) ! دخلت غرفة الضيافة والعرق يتصبب من جسدي لشدة الحرارة والرطوبة والمروحة الهوائية تحرك الهواء الساخن فوق رأسي، تناولت من الحِبِّ " وهو إناء فخاري لحفظ الماء" كوباً من الماء ثم كوباً آخر ولم أرتو، وتناولت الكوب الثالث وصببته على صدري حتى يبرد جسدي ولكن هيهات فجسمي لم يستجب لارتفاع درجة الحرارة الخارجية، وبعد دقائق جفت ملابسي على جسدي بفعل دورة المروحة الهوائية. وظهرت آثار الملوحة على ثيابي الناتجة عن إفرازات العرق من جسدي التي سببت لي (التسميط) وعلاجها كان بالبودرة الصينية كما علمت من الذين سبقوني إلى الكويت.
دخلت الحمام المشترك، وغسلت رأسي وأنا أرتدي ثيابي تحت الماء الساخن من درجة الحرارة الخارجية، زالت رائحة العرق والملوحة عن جسدي وثيابي وخفت الأوجاع النفسية والجسدية بعض الشيء عني، وبعد ذلك برد جسدي مؤقتاً وبقيت هذه طريقتي في غسل ملابسي طوال الصيف وفي فصل الشتاء كنت أغسل ملابسي بيدي لعدم وجود غسالات في ذلك الوقت.
وفي لحظة التأمل بغربتي تذكرت قول الشاعر جورج صيدح أحد شعراء المهجر في أمريكا الجنوبية والذي قال:
[ لا تَــغــتَـــرِب عَـــن وَطَــــنٍ
واذكُـــر تَـصـــاريـــفَ الـجَــــوى( )
أمـــا تَـــرَى الغُــصـــنَ إِذا
مــا فـــارَقَ الأَصـــــل ذَوَى ]( )
وكم فكرت بالعودة إلى قلقيلية قبل انتهاء مدة إقامتي. وكان من أسباب الهجرة المتهورة لأبناء قلقيلية إلى الكويت كانت الكذبةُ الكبرى التي أطلقها أحد المغتربين بعد عودته إلى قلقيلية وهو يقود سيارته الخاصة من نوع فولكس فاجن جديدة في شوارع قلقيلية بصحبة أحد ضيوفه من المواطنين العرب للزيارة عام 1958م وخلال الزيارة قام المغترب بإنشاء بيت حديث في قلقيلية وكان يردّد أمام الشباب من أبناء جيله أن الفلوس في الكويت على قارعة الطريق وقد ساعدت هذه الكذبة الشبّان على ترك موطنهم والذهاب إلى الكويت مشياً على الأقدام عن طريق البِصرَة وبعد وصولهم اكتشفوا الحقيقة المرّة! فقد تبين فيما بعد أن هذا المغترب كان يتاجر بالعملة المزورة من نوع الرُّبِيَات الهندية التي كانت عملة التداول الرسمي في الخليج العربي في ذلك الزمان لحساب إحدى العصابات في بيروت التي كانت تروج العملة المزورة في الكويت وبعد اكتشاف العصابة في الكويت غادر المضيف إلى بلده وبقي المغترب في قلقيلية خوفاً من المساءلة القانونية.
وينطبق عليه المثل الشعبي:
]ما أكذب من الشاب اللّي تغرب إلاّ شايب ماتت أجياله[
ولكني تساءلت: كيف أواجه والدي بفشلي؟! وكان الفشل يحسب عاراً على المغترب في ذلك الزمن، فصبرت على همومي ويا ليتني ما صبرت، وعدت إلى موطني، أفضل من بقائي في الكويت.
حتى أعلنت وزارة الأشغال العامة في الكويت عن وظائف شاغرة في قسم الزراعة فتقدمت لها وحصلت على وظيفة براتب يومي مقداره دينار وستمائة وخمسون فلساً كويتياً ما يعادل 5 دولار أمريكي! بدون احتساب العطل الرسمية.
وقد كنت أنفق القليل منه والباقي أرسله لوالدي في تلك الفترة. سكنت رسمياً في المزرعة لمدة خمسة أعوام قانعاً براتبي اليومي، وقلت للطامحين من أبناء جيلي في الكويت:
[إنَّ الـقــنَــاعَـــةَ عِـنــــدِي ثَـــــرَاءُ
وإنَّ الثَّـــــرَاءَ لِـغَــيــــرِي شَــقَــــاءُ]
ومن أخطائي أنني اقتنعت براتبي مدة من الزمن! وكان سكن العزاب عبارة عن شبرات حديدية، كانت تستخدم مخازن للجيش البريطاني أيام الوصاية على إمارة الكويت، قُسِمت لعدد من الغرف كل غرفة فيها أربعة أسرة شبه عسكرية ومروحة هوائية معلقة بالسقف وإناء فخاري لحفظ الماء يسمى في الكويت – الحِبُّ – ويوضع تحت المروحة من أجل تبريد الماء في داخله، والحِبُ مصنوع من الفخار بالإضافة إلى فلتر ماء لتنقية الماء من الرواسب، أما المكيفات والثلاجات فكانت شبه معدومة في ذلك الوقت، وتقتصر على الأغنياء وأصحاب القصور والدوائر الحكومية فقط. ومن يدري لعلنا كنا نشرب من الحِبِّ المصنوع من أجساد الذين سبقونا إلى الكويت مشياً على الأقدام، عن طريق البصرة وقضى بعضهم فوق رمال الصحراء الكويتية عطشاً وتحللت أجسَامُهم بالتراب، لقول المعرّي:
[ فَـــلا يُــمــــسِ فَــخَّــــاراً مــــِنَ الـفَــخــــرِ، عَــائِـــــدٌ
إلى عُــنـصِــرِ الـفَـخَّـــارِ لـلنـَّــفــعِ يُــضـــرَبُ( )
لَـــعَــــلَّ إنَـــــاءً مــِنـــــهُ يُــصــنَــــعُ مَــــرَّةً
فَــيَـــأكُــــلُ فــيـــهِ مَــــن أَرَادَ وَيَــشـــــرَبُ]( )
وبعد ذلك تأقلمت مع درجة الحرارة صيفاً التي تصل الى53ͦ درجة في الظل! ودرجة الرطوبة التي تصل إلى97% أحياناً وكذلك الغبار الأحمر الخانق وعواصف الرمال المتحركة التي تسمى في الكويت (الطوز) وفي الشتاء تصل درجة الحرارة إلى الصفر مع هبوب رياح صحراوية باردة كانت تلسعنا، نقضيها بلا تدفئة وكنا نتابع الأخبار من إذاعة صوت العرب عن طريق الراديو، يُوهِمُنا بأمل العودة لتحرير فلسطين. ويقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
[ إذا الـمَـــرءُ ضَــاقَ بـالعَـيـــشِ ذَرعَاً
رَكِـــبَ الـمَــــوتَ فـــي سَـبـيـــلِ الـبَــــقاءِ]
حقاً، لقد كانت حياتي في الكويت في ذلك الزمن أشبهَ بالموت السريري في فصل الصيف!
وقبل وصولي إلى الكويت وصف الأديب الفلسطيني غسان كنفاني في روايته المشهورة: (رجال في الشمس) حالة البؤس للعمال العرب في ظل نفط العرب للعرب!.
وهي من روائع الأدب الإنساني، تُرجِمت لعدة لغات عالمية وتحولت إلى فلم سينمائي باسم – المخدوعون.
وأجمل ما في الكويت عدالة الشيخ عبد الله السالم الصباح في الحكم الذي لقبته الصحافة العربية في ذلك الوقت بأبي الديمقراطية العربية ومن مآثره انتشار التعليم في الكويت وزهده في الحياة.
وفي عام 1963م هاجمت أسراب من الجراد الصحراوي المنطقة الشرقية من بلاد الحجاز والقريبة من الحدود الكويتية، فأرسلت وزارة الأشغال العامة من قسم الزراعة بعثة لمكافحة الجراد كنت أنا من ضمنها، وعسكرنا في تلك الصحراء لمدة ثلاثة أشهر لمكافحة الجراد هناك. وبعد عودة البعثة إلى الكويت، صرفت وزارة الأشغال العامة للبعثة ثلاثة أضعاف الراتب لكل من شارك في هذه الحملة والتي تقدر بحوالي أربعمائة دينار كويتي تقريباً.
وذات يوم زارني أحد الأقرباء في مسكني في مزرعة الأشغال وبدأ يتودد ويتوسل مستغلاً بذلك تعاطفي مع المحتاجين والبؤساء، فطلب مني المبلغ كاملاً ولمدة محدودة من أجل تكملة بناء بيته في قلقيلية فلم أخيب رجاءه، لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم-:
[مَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا فَرَّجّ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِن كُرَبِ يَوم القِيامةِ]
وبعد مرور عام على تسليف المبلغ طالبت القريب الذي لا داعي لذكر اسمه بتسديد المبلغ حسب الاتفاق من أجل شراء قطعة أرض في قلقيلية بناءً على طلب والدي. فكان جوابه لا أملك فلساً في الوقت الحاضر، فصبرت عليه عاماً آخر وعندما طالبته عام 1965م قال: اشتكِ عليّ أمام المحاكم الكويتية! فقلت في نفسي كيف أشتكي عليه وأنا لا أملك دليلاً ولا شهوداً على ذلك فابتلعت غبائي! وكانت هذه أول صدمة أتلقاها من هذا الذئب البشري المحسوب من بني قومي في غربتي، وبعد تدخل الآخرين تم الاتفاق على تقسيط المبلغ على دفعات مريحة ومات المدين ولم يسدد آخر قسط عليه، سامحه الله.
ومن أخطائي القاتلة أنني لم أستشر والدي صاحب الخبرة في هذا الموضوع في ذلك الوقت.
لقد خسرت خسارتين، استثمار أموالي وكذلك قريبي الذي كنت أكن له كل المحبة والاحترام لصغر سني. فقد صدق المعرّي بقوله:
[ أتَــــرُومُ مِــن زَمَــنٍ وَفــاءً مُــرضـِـيــاً
إنَّ الــزَّمــانَ كَـأهـلِــهِ غَــدَّارُ!]( )
وفي عام 1965م التحقت مع مجموعة من الشباب الفلسطيني الذين كانوا يعملون في الكويت في عهد الشيخ/عبد الله السالم بأحد معسكرات الجيش الكويتي للتدريب على حمل السلاح لمدة ثلاثة أشهر تحت إشراف مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت وقد حضر المناضل/ أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية لتسليم شهادات التخرج للدفعة الثانية من الشباب ليكونوا نواة لجيش التحرير الفلسطيني، هذا وقد ألقى الشقيري كلمة تاريخية عن القضية الفلسطينية قبل تسليم شهادات التخرج قال فيها: إن حدود فلسطين تبدأ من نهر الأردن شرقاً إلى البحر
الأبيض المتوسط غرباً ومن رأس الناقورة شمالاً إلى أقصى رفح جنوباً فحافظوا على أرض
الإسراء والمعراج بدمائكم يا شباب جيش التحرير الفلسطيني. هذا وقد حالت حرب عام
1967م دون تحقيق الهدف الذي سعى إليه الشقيري، عليه الرحمة( ).
وبعد أن اتسع أفقي واكتملت مداركي أجلت وصية والدي بالعودة إلى قلقيلية. وبعد التأجيل ازدادت هموم الدنيا على رأسي فرددت قول المتنبي في نفسي:
[ أَظـمَـتـنِــيَ الـدُنـيـــا فَـلَـمَّـــا جِـئـتُــهـــا
مُـسـتَـسـقِـيـاً، مَـطَــرَت عـلـيَّ مَـصَـائِـبَــا ]( )
وفي مساء يوم الاثنين 13/9/1965م رحلَ عن قلقيلية الشهيد البطل/ محمود زهران الملقب بالأشوح.
وفي نوفمبر من عام 1965م رحل أمير العرب الشيخ عبدالله السالم الصباح عن الدنيا فردّدت أمام بعض المشيعين العرب في مقبرة الصلبيخات قول السيد أحمد الهاشمي:
[ يـَبــقَــى الـثَـنَــاءُ وَتـنـفَــدُ الأَمـــوالُ
ولـِكُــلِّ دَهـــــرٍ دَولَـــةٌ وَرِجـــــالُ]( )
منذ ذلك التاريخ شعر المقيمون العرب بالإحباط النفسي والخوف على مستقبلهم في الكويت!
وفي عام 1967م احتلت إسرائيل الجزء الباقي من أرض فلسطين [الضفة الغربية] التابعة سياسياً وإدارياً للمملكة الأردنية الهاشمية بعد قيام الوحدة بين الضفتين في مؤتمر أريحا عام 1950م وقطاع غزة التابع إدارياً لمصر وجنوب بحيرة طبريا التابع لسوريا. وبعد ذلك انقطع الأمل بالعودة إلى قلقيلية، وقد خسرت جذوري إلى الأبد، وقبيل الحرب كنت أردد أمام من كان يستمع إلى أكاذيب الإعلام العربي قول الشاعر إبراهيم طوقان من قصيدته المشهورة:
]أَيُهَا المُخلصُونَ لِلوَطَنِية
أَيُهَا الحَامِلُونَ عبء َالقَضِية
فِي يَدينَا بَقِيَةٌ من بلادٍ
فاستَرِيحُوا كَي لا تَطيرَ البَقِية[
في اليوم الأول من الحرب، طارت البقية واستراح العرب من عبء القضية وخرجت عائلتي مع عشرات الألوف من الضفة الغربية إلى الأردن ..! بقوة الإرهاب الإسرائيلي.
وبعد ذلك ازدهرت تجارة الإقامات في دول الخليج العربي .. على ظهر القضية!
وبدأت الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات المُكنى بأبي عمار بالمقاومة ضد الاحتلال من الأردن. فالتحق أخي نصر بحركة فتح باسم "ناصر الفداء" برقمه الفدائي "14227" بعد أن كان شبلا في حركة فتح في قلقيلية عام 1965م، وانتقل من الأردن إلى معسكر الهامة في سوريا للتدريب على حمل السلاح لمقاومة المحتل الإسرائيلي وعادت عائلتي إلى قلقيلية بقانون جمع الشمل عام 1968م.
وفي عام 1969م التحق ناصر الفداء بقطاع البحرية الفلسطينية بقاعدة رقم 11 التابعة لحركة فتح في قرية برج إسلام باللاذقية في شمال سوريا، كقائد موقع في البحرية برتبة فدائي هدفه تحرير القدس من الاحتلال بعد ما رفض مع الآخرين الرتب العسكرية للثورة الفلسطينية التي أساءت للعمل الفدائي المقاوم فيما بعد! وفي شهر آب من عام 1972 بعثت لأخي نصر، دعوة لزيارتي في الكويت فأجل الزيارة لأسباب لم أعلمها إلا لاحقاً، فقد اختير مع الفدائيين الأربعة وهم:
1) محمد ربيع دبو 2) خالد توفيق رحال 3) محمد عبداللطيف العبوشي 4) محمد على كلاي، من النخبة البحرية الفلسطينية للقيام بعملية فدائية ضد الزوارق البحرية الإسرائيلية، والتي حصلت عليها إسرائيل من فرنسا والمتواجدة على سواحل مدينة نهاريا في شمال فلسطين وكما علمت من أحد رفاقهم في القاعدة البحرية كان الفدائيون الخمسة قبيل عملية نهاريا يرددون قول شاعر العودة:
] ثَــلاثَـــتُـــنـــا حَــــــرامٌ أَن نَــكـــونَ ثَـــلاثَـــــةً، إِنّــــا
إذا دَوَّى الـمُـــنـــادي واحـــــداً كُـــنّــــا [( )
وبعد إتمام التدريبات على تنفيذ هذه العملية تحركت الزوارق الفلسطينية وكان عددها اثنين من القاعدة البحرية في اللاذقية ليلة 6/9/1972م إلى قاعدة الصرفند في جنوب لبنان، في نفس الوقت الذي سيطر فيه الفدائيون على مدينة الألعاب الرياضية في ميونخ بألمانيا الغربية.
وفي فجر يوم الخميس 7/9/1972م قام الفدائيون بالهجوم على الزوارق البحرية الإسرائيلية الراسية على شواطئ مدينة نهاريا في فلسطين المحتلة، فأغرقوا زورقاً وأعطبوا آخر وانسحبوا من أرض المعركة بعد تنفيذ العملية متجهين إلى قاعدة الصرفند(حسب الخطة المرسومة لهم) قبل بزوغ الشمس، فطاردتهم الطائرات الحربية الإسرائيلية وقصفت قواربهم عند نقطة رأس النافورة الواقعة على الحدود اللبنانية الفلسطينية فاستشهد الفدائيون الأربعة ونجا الفدائي الخامس الملقب بكلاي سوري الجنسية وهو الراوي لأحداث عملية نهاريا لقيادة العاصفة الجناح العسكري لحركة فتح، وقد أعلنت قوات العاصفة في بيانها عن استشهاد الفدائيين الأربعة، وعند سماعي نشرة الأخبار من إذاعة الكويت عن هذه العملية البحرية شعرت بأن أخي نصر بن توفيق بن محمد القاسم بن زهران، قد استشهد.
هذا وقد انتشلت القوات البحرية الإسرائيلية الشهداء الأربعة من البحر ودفنتهم في المقابر المرقمة في شمال فلسطين المحتلة كما علمت من القيادة الفلسطينية لاحقاً، لهم الرحمة بإذن الله.
وبعد زيارتي للقاعدة البحرية في اللاذقية وجدت بين أوراقه بيتاً من الشعر للقائد العربي أبي فراس الحمداني:
] إِنِــي أَغَــارُ عَـلَــى مَـكــانِـــي أن أَرَى
فِـيــهِ رجـــالاً لا تـسُــدُ مَـكــانِـــي[
وفي 9/12/1392 هجرية الموافق يوم الأحد 14/1/1973م رحل عن الدّنيا والدي الحاج توفيق بن محمد القاسم بن زهران المولود في قلقيلية عام 1902م أثناء وجوده على جبل عرفات في موسم الحج، ويشير التقرير الطبي الصادر عن بعثة الحج في ذلك العام بأنّ سبب الوفاة التهاب رئوي، وقد تم دفن والدي في مكة المكرمة هذا وقد توفى أيضاً في بلاد الحجاز جدّي محمد الأول المُكنّى بأبي القاسم في الدّيار المقدسة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر – عليهما الرحمة -.
مردّداً في نفسي رثاء المعرّي لوالده عندما قال:
[ أَبِـــي حَـكَــمَـــت فـيـــهِ اللَّـيــالــــي، وَلَـــم تَـــــزَل
رِمـــاحُ المَــنــايـــا قـــادِراتٍ عَـلَـــى الـطّــعــــنِ( )
مــضَـــى طــاهِـــــرَ الـجُـثــمـــانِ والنَّــفـــسِ والـكَــــرَى
وَسُـهــــدِ الـمُــنــى والـجَـيــــبِ والـذَيــــلِ والــــرُّدنِ]( )
وفي شهر أكتوبر من عام 1973م اندلعت الحرب بين العرب وإسرائيل، وارتفعت أسعار النفط عالمياً، فانعكس هذا الوضع الجديد على معيشة المقيمين العرب في الكويت، وبعد ذلك:
[تَــغَــيَّـــرت الـبِـــلادُ وَمَـــن عَـلَـيــها
فَـوَجـــهُ الأَرضِ مُــغـبَــــرٌّ قَــبـِيــحُ]( )
كما يقول المعرّي في رسالة الغفران! وقد تغيرت القوانين الكويتية تدريجياً ضد المقيمين العرب إلى الأسوأ، وأصبح شعار [ الكويت بلاد العرب] من الماضي، وتحول البعض من المجتمع الكويتي المكون من العرب، والأعراب والعجم إلى ذئاب بشرية ينظرون إلى المقيمين العرب نظرة ازدراء تدعمهم للأسف قوانين جائرة من الحكومة وقد أصبح المقيم كأنه عبد عند الكفيل الكويتي بقوة القانون، فتذكرتُ قول الشاعر ابن الأحنف:
[ عَــجِـبــــتُ لـمَــن جَــــرَى فـــي مَـجـــرَى
الـبَــولِ مَـرَّتَـيــنِ، كَـيــفَ يَـتَـكَـبَّـــرُ]( )
عندها ترحمت على عدالة أمير العرب الشيخ عبدالله السالم رحمه الله فالتزمت بأدب المغترب لقول الحريري البصري:
[ إِذا مَـــا كُـنــــتَ فـــي قَـــــومٍ غَـريـبـــاً
فَـعَـامِـلـهُـــم بِـفِـعــــلِ يُـسـتَـطَــــابُ( )
ولا تَــحــــزَن إذَا فَـاهُــــوا بـِفُـحــــشٍ
غَــريـــبُ الــــدَّارِ، تَـنـبَــحُـــهُ الـكِـــــلَابُ]( )
ففي ظل هذه القوانين وارتفاع الأسعار محلياً فرض أيضاً على المقيمين العرب في الكويت قانون جديد ينظم العلاقة بين مالك العقار والمستأجر عام 1975م، وجاءَ القرار لصالح تلك الذئاب البشرية من أصحاب العقارات وقد علق أمامي أحد مدرسي اللغة العربية على هذا القانون الجائر بقول الشاعر أبي إسماعيل الطُغُرائي:
[ مــا كُـنــتُ أُوثِـــرُ أَن يَـمتَـــدَّ بـــِي زَمَـنـــي
حَـتــى أَرَى دَولَــةَ الأَوغَـــادِ والسِّـفَــلِ]( )
فقد ارتفعت أجرة الشقة بنسبة 100% لكل خمسة أعوام من تاريخ صدور القرار، دون تعديل رواتب الموظفين "الأجانب" فالكويتي يملك بيتا من الحكومة ولم يتأثر بهذا القانون، وكانت الشياطين كامنة فيه، فقلت لضحاياه من البؤساء الذين يكدحون صباحاً ومساءً من أجل تسديد التزاماتهم الشهرية كما قال الهاشمي:
[ قَــضَــيـــتُ شـبـِيـبَـتــي وَبـَذَلـــتُ جُـهـــدي
فَـلَــم تَـكُــن الـحَـيَـــاةُ كَـمـــا أُريــــدُ
إلــى كَـــم اسـتَـحِـــثُّ النَّــفـسَ عَــــزمَاً
وَكَـــم أَسـعـَــــى وَغَـيـــري يَـسـتَـفـيــدُ
وقــالـــوا دَولَـــةٌ نَـشَـــأَت حَـديـثَـــاً
تُـؤَيــِدُهــــا الـسِـيَـاسَـــةُ والـعُـهُــــودُ
كَــذَبــتُـــم مــا لَـنـــا فــــي الأَمــــرِ شَــــيءٌ
فَــقُـــولــــوا، إنَّــنَـــا شَــعــــبٌ عَـبَـيـــــدُ]
فالدولة المتخلفة مثل المرأة تحب الرجل حتى سن الأربعين ثم تبدأ بخلق المشاكل له للتخلص منه! هكذا فعلت الحكومة الكويتية بالمقيم العربي الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة دولة الكويت، والتي حرمته من أبسط حقوقه الإنسانية وهو الضمان الاجتماعي واكتفت بصرف نهاية الخدمة له نقداً، والتي لا تساوي ثمن علاج الشيخوخة عند الكبر وقد تناسى القائمون على صياغة هذه القوانين قول رجل الدولة الإسلامية عمر بن الخطاب الذي أمر بكفالة شيخوخة الذمّي عندما قال عنه: ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم.( ) وكذلك قول المعرّي:
[ إذا مـــا أَسَــنَّ الشَـيـــخُ، أقـصـــاهُ أَهـلُــــهُ
وَجَـــارَ عَــلَـيـــهِ النَّــجــــلُ والـعَـبـــدُ والـعِـــــرسُ]( )
وكانت الحكومة الكويتية تعلم أن المقيم العربي ليس له خيار إلا قبول الأمر الواقع أو الرحيل، فالغالبية قبلت بهذا القانون الجائر الذي سطا على مدخرات الشيخوخة لهذا المقيم أو ذاك ولكن، على مضض لقول طرفة بن العبد – الشاعر الجاهلي:-
[ وظُــلـــمُ ذَوِي القُـربَـــى أَشَـــدُّ مَـضَـاضَــــةً
عــلـــى الـمَـــرءِ مَـــن وَقــــعِ الـحُـســامِ الـمُـهَـنَّــــدِ]
وبعد تطبيق هذا القانون في منتصف السبعينات من القرن الماضي أصبح دخل الموظف المقيم في دولة الكويت لا يغطي المصاريف الشهرية فتقدمت باستقالتي من الدوائر الحكومية بعد خدمة دامت خمسة عشر عاماً دون فائدة مادية تذكر، وحصلت على مكافأة نهاية الخدمة مبلغ 285 ديناراً كويتياً مرة واحدة نظير أتعابي عن المدة المذكورة وأُعطيت مهلة أسبوع لمغادرة الكويت ، فرددت في نفسي قول المعرّي:
[ فـــلا هَـطَـلَــــت عـلـــيَّ، وَلا بِـأَرضِـــي
سَـحَــائــِـبُ، لَـيـــسَ تَـنـتَـظِــــمُ الـبِـــــلادا] ( )
وقبل نهاية الأسبوع حصلت على عدم الممانعة – الإقامة لمدة عام- من صحيفة الوطن الكويتية.
وفي عام 1976م تأهلت من الآنسة سلوى شحادة ثم رزقت منها المولود الأول الذي حمل اسم والدي توفيق في 1/9/1977م وفي نفس العام توظفت في شركة الخرافي بوظيفة مساعد مخلص جمارك، وعندما أتقنت المهنة تقدمت باستقالتي من الشركة.
وفي عام 1978م بدأت أبحث عن الإقامة الحرة مقابل المال من إحدى الشركات الوهمية في الكويت للعمل في القطاع الخاص ولم أفلح بذلك بسبب ارتفاع التكلفة من تجار الإقامات. حتى فرجت من شركة الرابية للإنشاءات بتبادل المصالح بيننا. ويقول الشاعر إبراهيم الصُّولي:
[ وَلَـــرُبَ نَـــازِلـــةٍ يَـضِـيـــقُ بـِهـــا الـفَـتَـــى
ذَرعـــــاَ، وعـِنـــدَ الله مـِنـــهَا الـمَــخــــرَجُ( )
ضَــاقَــــت، فَـلَـمَّـــا اسـتَـحـكَـمَـــت حَـلَـقــاتُـهـــا
فُـرِجَــت، وَكُـنــتُ أَظُـنُّـهَـــا لا تُـفـــرَجُ]
وبعد ذلك عملت في مجال تخليص البضائع من ميناء الشويخ لحساب الشركات والأفراد، وقد تحسنت ظروفي المادية لأول مرة منذ عام1961م، وبدأت بمساعدة البؤساء – مادياً حسب مقدرتي- لقول الرسول: (ارحَمُوا مَا فِي الأَرضِ يَرحَمكُم مَن فِي السَّماءِ)
وفي عام 1986م توفيت والدتي الحاجة ظريفة بنت أحمد عبدالقادر زهران في قلقيلية عن عمر يناهز الثمانين عاماً لها الرحمة بإذن الله. ولم أتمكن من حضور جنازتها هناك بسبب سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية وقد رثيتها بقول المعرّي:
[ سَــمِـعــتُ نَـعـيَــهَـــا، صَـمّــاً صَـمـــامِ
وإن قــالَ العَــــواذِلُ: لا هَـمَـــــامِ( )
وَأَمّـتـنـــي إلـــى الأَجــــــداثِ أُمٌّ
يــعِــــزُّ عَــلَـــيَّ أَن ســارَت أَمـــامـــي]( )
وبعد رحيل والدتي بأسبوع جاءني تصريح صادر من سلطة الاحتلال للدخول إلى الضفة الغربية وزيارة بلدي قلقيلية، وفي طريقي من الأردن إلى جسر العودة "اللنبي"، تساءلت كيف أعود إلى موطني بتصريح من المحتل؟ وهل ما قاله المعرّي صحيح: والدنيا لمن غلبا؟
كانت هذه الأسئلة تدور في رأسي حتى وصلت إلى جسر العودة "اللنبي" المقام على نهر الأردن والذي ينخفض عن سطح البحر بأكثر من 350م مهزوماً كهزيمة الأنظمة العربية عام1948م وكانت درجة الحرارة هناك لا مثيل لها حتى في الكويت! نزلت من الحافلة مختنقاً وفقد جسمي السوائل بعد انتظار طويل في الحافلة. ثم أدخلوني إلى غرفة التفتيش كعبد ذليل وتم تفتيشي جسدياً بواسطة جهاز الكتروني، وأمرني الجندي الهجين وأصبعه على الزناد بخلع ثيابي للتفتيش! وفعلت رغماً عني وبدأ بتفتيش ملابسي قطعة قطعة، وهو يرتجف خوفاً من ثيابي، وبعد هذا الإجراء المقصود والمهين للإنسان العربي الفلسطيني، استوطن الغضب في قلبي ليس على المحتل الإسرائيلي فحسب بل وعلى قادة التنظيمات الفلسطينية القابعين خلف مكاتبهم في المنفى والذين يبحثون عن فرصة للسلام مع أخبث قوم في التاريخ البشري، كما أراهم أمامي! وبعد انتهاء تفتيش ملابسي ذهبت إلى غرفة التصاريح بلا حذاء فحذائي خاضع للتفتيش مع العقال العربي أيضاً! وهناك وجدت المئات من أبناء شعبي في صالة الانتظار أذلاء ينتظرون الفرج بالخروج من جهنم بني إسرائيل وأمام هذا المنظر تذكرتُ صرخة الممثل الكبير توفيق الدقن وهو يعلق على قرارات هيئة الأمم عام 1967م من باب السخرية قائلاً: ألو.. يا أمم !.( ) وفي صمت المكان سألت نفسي: لماذا سادت إسرائيل على العرب؟ وجاء الجواب من القائد/ أحمد الشقيري: لقد انتصرت اسرائيل لأنها دولة واحدة تحكم سبعين جنساً من الأمم... ولقد انكسرنا لأننا ثلاثة عشر دولة تحكم أمة واحدة... وهكذا انتصر الواحد، لأنه واحد احد.. وهكذا انهزم الثلاثة عشر... لقد أعجبتنا هذه ] الفكرة[ فلما جاء يوم المعركة لم تنصرنا الكثرة تماماً كما جرى في غزوة حُنين في أيام الرسول الكريم( )!. وأخيراً، خرجت من جسر الجنرال اللنبي( ) بعد ما مرغوا كرامتي في الرغام مقتنعاً بما قالته الشاعرة فدوى طوقان:
وَقـفَـتِـــي بِـالـجِـســــرِ أَسـتَـجـــدِي العُـــبُـــور
آهٍ، أسـتَــجـــدِي الـعُــبُــــور
اخــتِنَــاقِــي، نَــفَــسِــي المَـقــطُـــوعُ
مَــحــمُـــولٌ عَـلَــى وَهَــجِ الظَــهِيـــرَة
سَــبــعُ سَــاعَـــاتٍ انـتِــظــــار..!
....
أَلـــفُ "هِـنــــدٍ" تَــحـــتَ جِـلــــدِي( )
جُـــوعُ غَـضَـبِـــي فَـاغِـــرٌ فَـــاهُ
آهٍ يَــا غَــضَـبِـــي الـرَهِـيـــبَ الـمُـسـتَـثَــــار
قَـتَـلُــوا الـحُــــبَ بـِأَعـمَـاقِـــــــي.
وفي عام 1990م وقع الخلاف الحدودي بين العراق والكويت في الخفاء، وكذلك حول تجنيس العرب حسب القانون الذي وضعه أمير العرب بعد الاستقلال وذلك لحماية عروبة الكويت من أطماع العجم في الداخل والخارج، وعندما ظهرت هذه الخلافات إلى حيز الوجود عبر وسائل الإعلام تحولت بينهما إلى حرب كلامية، وعندها تذكرت قول الشاعر نصر بن سيار:
[ أَرَى تَــحــتَ الــرَّمَــادِ وَمـيــضَ نـــارٍ
وَتُـوشِــكُ أَن يَــكــونَ لَـهَـــا ضِـــــرامُ( )
فَـــإِنَّ الـنَّـــارَ بالــعُـــوَدَيـــنِ تُــذكــــى
وَإِنَّ الحَـــرَبَ أَوَّلُـــها الكَــــلامُ]( )
وتوقعت كغيري باجتياح للحدود الكويتية من قبل الجيش العراقي بعد فشل اجتماع الطائف في حل المشكلة بين البلدين وعودة رئيس الوزراء الكويتي غاضباً من الاجتماع فرددت قول: المتنبئ.
[ بِــذَا قَــضَــتِ الأَيَّــامُ مــا بَـيــنَ أَهــلِـــهَا
مَـصــائــِبُ قَـــومٍ عِــنـــدَ قَـــومٍ فَـــوائــــِدُ]( )
حتى جاء اجتياح الجيش العراقي للكويت يوم 2/8/1990م وبدأت الفوضى تعم البلاد بعد سماع الأخبار من الإذاعات العربية والأجنبية عن خروج أمير الكويت والحكومة وأرباب العمل من الكويت، طلباً للنجاة! وقد تساءل المعرّي يوماً عن أفعال الأنام بقوله:
[ أَنَـســـلُ إبـلـيــسَ أَم حَــــواءَ – وَيـــحَــكُــــم
هَـــذا الأَنــامُ؟ فَــفِـــي أَفـعَــالِــهِــــم دَلَــسُ( )
إِن يُـــؤمَـنُــوا لا يُــــؤَدُّوا، أو يَـــكُــــن لَـهُـــــمُ
عِــــزٌّ، يَـضـيُمـــوا، وَإِن أَعــيـــاهُـــمُ اخـتَـلَـسُـــوا]( )
فاختلاس نفط العراق بالإضافة إلى ظلم العاملين في الكويت أدى إلى احتلال هذا البلد الذي كان آمنا في عهد أمير العرب الشيخ عبدالله السالم الصباح – رحمه الله.
وهكذا تحول عمال الخدمات في الكويت وهم بعشرات الألوف إلى ذئاب بشرية في أسواق الكويت عن طريق السطو المسلح على المحلات التجارية للحصول على ثمن تذكرة العودة إلى أوطانهم بعد غياب الأمن في الكويت. كأنّها في المضمون ثورة الزنج التي وقعت بالبصرة عام 270هجري بقيادة علي بن محمد وثورة القرامطة في الإحساء عام 317 هجري بقيادة حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط، (وقد قامت هاتان الثورتان ضد المفسدين في الأرض من أصحاب الأراضي الزراعية في البصرة والإحساء في ذلك الزمن) وتحولت أهدافهما بعد ذلك إلى مصالح شخصية كما قال المعرّي:
[ إنَّـمـــا هَـــذِهِ المَــذاهِــــبُ أســبَـــابٌ
لِــجَـــذبِ الــدُّنــيـــا إلـــى الرُؤَســـاءِ( )
كـــالّــذي قَـــامَ يَـجـمَـــعُ الــزَّنـــجَ بـِالبَـصـــرَةِ
والـقَّــرمَـطِـــيِّ فـــي الأَحــسَـــاءِ ]( )
ولكن ثورة البؤساء في الكويت كانت عفوية وبلا قيادة ومحدودة الهدف، وعلى الرغم من ذلك قمعت من قبل الجيش العراقي في ساحة الصَّفاة( )، من أجل استقرار الوضع السياسي أمام العالم. وكأن لسان حال البؤساء يردد قول شاعرهم فهد العسكر:
[ رَبَّـــاهُ جَـــارَ الأقــويـــا فـانـظُـــر إلـــى
مـــا يَــفــعَـــلُ الإنــســانُ بالإنــســـانِ]( )
وما كان هؤلاء البؤساء من الغادرين بل كانوا من المغدور بهم من قبل أرباب العمل، الذين لم يصرفوا لهم رواتبهم الشهرية منذ أشهر خلت! ومع بداية هروب الأغنياء من الكويت وعودة العائلات العربية والأجنبية إلى بلادها الأصلية تحت دقات طبول الحرب ردد كلٌ في نفسه قول المعرّي:
[ تَوَارَ بِجُنحِ الظَلامِ
قَد ظَلَمَ العَالَمُ( )
هَـــلاكٌ إِذا حَارَبُـــوا
وَثِقلٌ إِذا سَالَمُوا]( )
ثم سألت نفسي: على مَن تُنادي؟! أَيُّهذا المُكابِدُ ولم يَبقَ في الصَحراءِ غَيرُكَ .. شاهِدُ ..( )
كما قال الشاعر حيدر محمود في ديوانه "الشاهد الأخير" ففي ظل هذا المشهد تذكرت قولاً لأحد شعراء الصعاليك:
[ عَـــوى الذِئــبُ فاسـتَـأنَـسـتُ بالذِئـــبِ
إذ عَـــوى، وَصَــوَّتَ إِنسَــانٌ فَكــِدتُ أَطيـــرُ]( )
دبّ الرعب في قلبي أمام هذه المشاهد التي لا تنسى، وخفت على مستقبل أطفالي وليس على مستقبلي الذي ضاع مني بعد هجرتي الأولى من قلقيلية عام 1961، واعتكفت في بيتي أفكر بأطفالي ومستقبلهم العلمي وعادت بي الذاكرة الى طفولتي المهزومة فقلت في نفسي:
[ أنـا الـذي وُلِــدَ مَـعَ الهزيمـةِ، فالهَزيمـةُ لــن تولــدَ مـع أطفـالــي ]
واتخذت قراراً بالهجرة من الكويت إلى كندا، بعد أن استوفيت كافة شروط الهجرة من السفارة الكندية بالكويت يوم 1990/08/08م. وبتاريخ 1990/09/18م غادرت الكويت إلى الأردن براً بصحبة زوجتي وأطفالي الستة الذين ولدوا في مدينة الكويت وهم:
أم توفيق
قاسم خلدون وديع توفيق غسان بيسان
وكان عمر أصغرهم عاماً واحداً وأكبرهم ثلاثة عشر عاماً، ورددت مع أطفالي في سيارتي قول مظفر النواب الشاعر المتمرد على الأنظمة العربية في ذلك الوقت قوله المشهور من قصيدة القدس عروس عروبتكم: [ يا أُمراءَ الغَزوِ فَموتُوا، سَيَكُونُ خَراباً، هذي الأُمَّةُ لا بُدّ لها أن تَأخُذَ دَرسَاً في التَخريبِ!] تاركاً خلفي دول الحلفاء تستعد للسيطرة على منابع النفط العربي بالسطو المسلح بقيادة جورج بوش المسلح بثقافة التَأَلُّهِ، كما فعل البصري أحد قادة الخوارج عندما قال:
[ قَـتَـلــتُ النّـــاسَ إشـفـاقــــاً
عَــلَــى نَـفـســي كَــي تَـبـقـــى
وَحُـــزتُ المــالَ بـالسَّـيـــفِ
لِـكَــي أَنـعَـــمَ لا أَشـقَـــى
فَـمَـــن أَبـصَـــــرَ مَـثـــــوايَ
فَــلا يَـظـلِـــم، إِذَا خَـلـقــا]( )
انطلاقاً من الجزيرة العربية، وفتحت دول الخليج مطاراتها وأراضيها لجيوش الحلفاء مقابل شهوة المال والسلطة للعائلات الحاكمة في منطقة الخليج للقضاء على روح القومية العربية بقيادة صدام حسين، وقد وصف المعرّي هؤلاء الأعراب بقوله:
[ فَـفِـــي بَـطـحَـــاءِ مَـكَّــةَ شَـــرُّ قَـــومٍ
وَلَـيـســـوا بـالحُـمَـــاةِ وَلا الـغَيـــارى
إِذَا أَخَــذُوا الـزَّوائـــِفَ أَو لَجُوهُـــــم
وَإِن كَـانُـــوا الـيَهـُــــودَ أَو الَّنـصـــارى ( )
وَظَنُّـــوا الطُّـهـــــرَ مُـتّصِـــلاً بـِقَـــــومٍ
وَأَحــلِــفُ أَنّهُــم غَــيــرُ الطّـهــارَى]
وفي المقابل: القائد العربي صدام حسين الذي نادى بتوزيع العائدات النفطية على فقراء الدول العربية والإسلامية بالتساوي لم يسمع قوله أحد فتذكرت قول المعرّي:
[ لَقَــد أَسـمَـعــتَ لَــو نـادَيـــتَ حَـيـــاً
وَلَـكِـــن، لا حَـيَــاةَ لـِمَــن تُـنـــادي!]( )
وعندما وصلت إلى تلة المطلاع المشرفة على منطقة الجهراء توقفت قليلاً، وترجلت من سيارتي ونظرت نظرة الوداع الأخيرة على سنوات العبودية في الكويت بعد رحيل أمير العرب.
ولفت نظري في المكان يافطة كبيرة كتب عليها بالخط الكوفي [مطلاعية صدام] وبعد ذلك عادت بي الذاكرة إلى الماضي وبدأت أقارن بين الوقفة الايجابية التي وقفتها جموع المقيمين العرب بجانب أميرهم الشيخ عبدالله السالم رحمه الله ضد مطالب الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم في الكويت عام 1961مع الوقفة السلبية من أبناء المقيمين العرب الذين بدأوا بالخروج من الكويت إلى أوطانهم الأصلية عن طريق حاجز التفتيش للجيش العراقي في المطلاع.
وتساءلت: أبناء جيلي لم يولدوا في الكويت ووقفوا وقفة عِزٍّ بجانب الكويت ضد مطالب العراق في ذلك الوقت، بلا مقابل، فلماذا هؤلاء الشباب الذين ولدوا في الكويت، أخذوا هذا الموقف السلبي من الكويت بعد الاجتياح العراقي لها؟! هل هي رغبة في الانتقام لما قامت به الحكومة الكويتية من قرارات وقوانين جائرة ضدهم وحولتهم إلى عبيد عند الكفلاء الكويتيين، الذين كانوا يثمنون سعر الإقامة حسب الجنسية والدين والمذهب أحياناً وهذه التجارة في عقيدتي أسوأ من تجارة الرقيق. (فكاد الكويتي في ساحة الصَّفاةِ ينادي، إقامة الأجنبيّ بألفِ دينارِ)( ).
أم أن الإنسان العربي عندما يشعر بالذل في وطنه العربي يصبح بلا انتماء؟! كما قال الشاعر دِعبل بن علي الخُزاعي:
] وَلَــســـتُ بِــسَـــائِـــلٍ مــا عِـــشــتُ يَـــومــاً
أَسَــــارَ الـجُنـــدُ أم رَكِـــبَ الأَمـــيـــرُ [
وقد استوعب أمير العرب الشيخ عبدالله السالم بحكمته في الماضي النفسيةَ العربيةَ ورفع شعار: [الكويت بلاد العرب] وقدم التسهيلات لدخول العرب إلى الكويت لكسب ود حكوماتهم وشعوبهم لجانبه ضد مطامع جيرانه في المستقبل، ولكن مع الأسف من جاء بعده من حكام الكويت، أخذتهم العزة بالإثم فالغوا كل شيء من تراث أمير العرب! وبعد ذلك أصبح أول هَم للمقيم العربي هو البحث عن الإقامة لأبنائه من الكفيل الكويتي! وهذا هو السر في الموقف السلبي لأبناء المقيمين العرب من الكويت عند الاجتياح العراقي لها. وتذكرت قول المعرّي:
[ أَعـــدَى عَـــدُوٍّ لإِبــنِ آَدَمَ نـَفـسُـــهُ
ثُـــمَّ ابنُــهُ وَافَـــاهُ يَهــدِمُ مـا بَنــى] ( )
وفي لحظة الصمت في المكان كأني سمعت صوت الفاروق عمر بن الخطاب يخاطب الظّلَمَةَ في الوطن العربي بقوله المشهور بين الأمم: [ مَتَى استَعبَدتُمُ النَّاسَ، وَقَد وَلَدَتهُمُ أُمَّهاتُهُم أَحرَارَا؟ [
وانتبهت لصوت أحد أبنائي يقول: هيا بنا يا أبي إلى المهجر الكندي(كما توقع ناجي العلي للشعوب العربية قبيل اغتياله في لندن عام 1987م!) وانس ذكريات الماضي.
فردَّدت له قول الشاعر فهد العسكر:
]قُــم معــي نَبــكِ مَـجـــدَنا ونـَسِـــحُّ
الدَّمــعَ حُـزنـــاً ونَـنـــدِبُ القَوميّــه
قُـــم مَـعـــي نَـســألُ الطُّلـــولَ عَسَــــاها
تَـشـــفِ بالـــرَّدِّ غِـلَّــةً روحيّـــه
عَـــن بَـنــي العُـــربِ يــومَ سَـــادوا وشَـــادوا
مَجدَهُـــم بالسّيـــوفِ والسَّمهريـه
وَعَـــن ابـــنِ الخَطّـــابِ مِـــن حُكمِـــهِ
العَــــدلُ وَسَعــــدٌ بوَقعَــةِ القَادسيَّــه[( )
وقبيل مغادرتي تلة المطلاع قلت: لأبناء الكآبة من الجاليات العربية تعالوا نردد معاً قول الشاعر / أحمد مطر الذي أُبعد مع ناجي العلي، وماجد الشيخ عن الكويت إلى لندن عام 1987م قوله المشهور هناك:
]رُبـــمـــا الـمــاءُ يَـــروب
رُبـــمـــا الـزيـــتُ يَــذوب
رُبـــمـــا يـحـمـــل مــــاء فـــي ثُـقـــوب
رُبَــمــا الــزانــي يَــتــوبُ
رُبَــمــا تــطــلـــعُ شَــمـــسُ الـضُــحــى مــن صَــوبِ الـغُــروبِ
رُبــمــا يَــبــرأُ شَــيــطــانٌ فَـــيَــعــفــوا عَــنــهُ غَـــفــارُ الــذُنــوبِ
إِنـــمــا لا يَــبــرأُ الــحُــكــامُ فـــي كُــلِ بـــلادِ الـعَــرَب مــن ذَنــــبِ الــشـــعـــوب [
---------------
المطلاع:1990/09/18
الهجـــرة إلـــى كنـــــدا
الجزء الثالث:غادرت تلة المطلاع إلى مدينة البصرة للزيارة، لفت نظري هناك يافطة كُتِبَ عليها قول الشاعر/ أبي العلاء المعرّي:
[سَــلامٌ هُـــوَ الإســـلامُ، زَارَ بِــلادَكُـــم
فَـفـــاضَ عَلـى السُّـنِّــيِّ والمُتَشَيِّـعِ ]
بعد الزيارة توجهتُ إلى بغداد عاصمة الرشيد وشاهدتُ هناك الشعب العراقي يستعد للحرب وإذاعة بغداد تردد للشعب العربي قول المعرّي الذي عاش في بغداد مدة من الزمن والذي قال:-
[هـــاتِ الحديـــثَ عَــــنِ الــزَّورَاءِ أَو هيتـــا
وَمَـوقِـــدُ النّــارِ لا تُـكـــرَى بِتَكـرِيتَــا( )
والـــرُومُ سَـاكِـنَــةُ الأَطـــرافِ، جَـاعِـلَـةً
سِهَــامَهــا، لِـوُقـــودِ الحَــربِ كَـبـرِيـتــا]
وعندما وصلتُ إلى أطراف المثلث العربي في غرب العراق توقفتُ عند يافطة كبيرة كُتِبَ عليها قول الفاروق/ عمر بن الخطاب: العراقُ.. جُمجُمَةُ العَرَبِ، وكَنزُ الرِّجَالِ، ومادةُ الأمصَارِ، ورُمحُ اللهِ في الأرض، فاطمئنوا.
وأمام قول أبي حَفص اطمئنَ قلبي على قلعةِ الأسودِ في العراق، حتى لو اجتمعَ عليها أخسّاءُ العالم.!
ثم توجهت إلى الحدود العراقية الأردنية بلا توقف، فاستبدلت الجمارك العراقية رقماً جديداً برقم سيارتي [العراق – كويت]، ما زلت أحتفظ به في مهجري للذكرى وبعد خروجي من العراق وصلت إلى الحدود الأردنية فاطمأن قلبي على أسرتي ونمت نوماً عميقاً في سيارتي تحت حماية الأمن الأردني.
وفي اليوم التالي 19/9/1990م شاهدت الألوف من البؤساء الذين كانوا يعملون في الكويت من جنسيات مختلفة على الحدود الأردنية، ينتظرون نقلهم إلى أوطانهم بواسطة الحافلات إلى الموانئ والمطارات الأردنية تحت القيود المشددة من قبل الحكومة الأردنية التي حصرت دخول أراضيها على مواطنيها فقط. في ظل حالة الحرب السائدة في منطقة الخليج العربي أو الفارسي، ليست التسمية مهمةً عندي بعد أن جعلنا عربُ النفط بلا انتماء! وبعد الظهر غادرت الحدود إلى مدينة عمان ]عاصمة العرب[ ومكثت فيها أسبوعاً في فندق "السان روك" لترتاح نفسي من هول الصدمة!
وبتاريخ 26/9/1990م غادرت مطار عمان الدولي بصحبة عائلتي إلى المهجر الكندي عن طريق سويسرا وعندما أقلعت بنا الطائرة ثم نظرت عبر النافذة من السماءِ إلى الأرض العربية نظرة وداع كأنها قد تلاشت من ذاكرة أبنائي إلى الأبد. ورددتُ في نفسي مقطعاً من قصيدة شهيق وزفير لشاعر البؤساء فهد صالح العسكر:
]وَطّـنـي وَأَدتُ بـِكَ الشَّبــابَ
وكــلَّ مـا مَـلَـكَــت يَمينــي
وَرَجَعــــتُ صِـــــفرَ الكــــَفِّ
مُنطَوِيــاً عَلى سِــرٍّ دَفيـــنِ [
وصلت بنا الطائرة مطار مونتريال الساعة الثالثة بعد الظهر بتوقيت كندا يوم 27/9/1990م. وكان من ضمن الرّكاب الفنانة القديرة السيدة فاتن حمامة (أم طارق) لزيارة ابنها في مونتريال. وقد منحني مسئول الجوازات الإقامة الدائمة مع عائلتي ثم حولني إلى دائرة الهجرة في المطار وهناك لقيت الترحيب والكرم من المسئول الفدرالي والذي لم أجده في حياتي في مطارات الوطن العربي، ويعود الفضل هذا إلى إدارة المطار باختيارها موظفين من ذوي الأخلاق الرفيعة في التعامل مع المهاجرين الجدد إلى كندا. ويقول الشاعر أحمد شوقي:
[ َإِنّـمَــا الأُمَــمُ الأَخــلاقِ مـا بَـقِـيَــت
فَــإن هُــمُ ذَهَبَــت أَخـلاقَـهُــم ذَهَـبُـــوا]
هذا وقد لفت نظري في مكتب الهجرة الفدرالي ملصق مطبوع عليه بعدة لغات عالمية] مرحبا بكم في كندا[
[Welcome to Canada] وعبارات ترحب بالمهاجرين الجدد وفيه جملة باللغة العربية: [أهلاً وسهلاً]، فتذكرت صاحب هذا القول الجميل للشاعر- بهاء الدين زهير:
[ علــى طائـــرِ المَـيـمـــونِ، يــا خَـيـــرَ قـــادِمٍ
وأَهــلاً وَسَهــلاً ، بالعُــلا والمَكَـــارِمِ]
وبعد خروجي من المطار متجهاً مع عديلي السيد محمد حسين وهبي إلى مدينة أوتاوا العاصمة الكندية، سمعت من أطفالي النشيد الوطني الكويتي، كأنه الحنين إلى الماضي، فتذكرت شاعر المهجر إيليا أبو ماضي والذي قال:
[ واغـتِـــرابُ القَويِّ عِزٌّ وَفَخرُ البرلمان الكندي في أوتاوا واغتِرابُ الضَعيفِ بِدءُ الفَنَاءِ]
حبست دموعي أمام أطفالي الذين كانوا يمرحون بسعادة مع أبناء عديلي بالسيارة وتساءلت في نفسي هل يكون أبنائي في المستقبل من أهل العلم والمعرفة أو إلى الضعف والضياع؟ كما يقول الشاعر أبو ماضي صاحب الخبرة مع الجالية العربية في المهجر، وبدأ التوتر يسيطر على أعصابي منذ أن وطأت قدمي أرض المهجر الكندي ولا أدري لماذا يخشى الأب على أبنائه من الضياع أكثر من الأم التي تشاركه نفس الشعور؟ هل هي ناتجة عن الخبرة المريرة مع ذئاب البشر أم أن هناك سبباً آخر في النفس البشرية؟
وفي 1/10/1990م تم تسجيل أطفالي في مدرسة Queen Mary في أوتاوا بلا قيود وانتظموا في الصفوف وأصبحوا ينشدون النشيد الوطني الكندي إلى الأبد.
وبتاريخ 1/11/1990م استأجرت بيتاً على عنوان Gloucester، 1270Bel get way.
استأنست في بيتي الجديد وبدأت الثلوج تتساقط أمامي، لم أشاهد هذا المنظر من قبل في حياتي، خرجت مع أبنائي نلهو بكرات الثلج ودرجة الحرارة كانت أقل من الصفر بقليل وفي اليوم التالي بدأت العاصفة الثلجية تهب على أوتاوا فانخفضت درجة الحرارة إلى 45 درجة تحت الصفر تقاس مع سرعة الرياح القطبية التي تجمد أطراف الإنسان إذا لم يَرتَدِ اللباس الخاص بالجليد من أخمص القدم إلى الرأس
كما يظهر في الصورة ابني قاسم. ومن خلال نافذة بيتي لم أرَ إنساناً يمشي على الطرقات إلاّ سيارات إزالة الثلوج من الشوارع، سيارة تزيل الثلج وتقذفه على جانب الطريق وسيارة أخرى ترش الملح الخشن المخلوط بالرمل حتى يذوب الثلج قبل أن يتجمد بفعل انخفاض درجة الحرارة على الطرقات الرئيسية وبعد تأمين الطرق الرئيسية تفتح الطرق الفرعية ولم أستطع أن أخرج من بيتي إلاّ بعد أن رششت الملح الخشن على مدخل بيتي حتى يخترق الجليد الذي تكوّن بفعل أقدام أبنائي وأَزَلتُهُ بعد ذلك بالرفش وبعد فتح الطرق تدب الحياة في الأسواق كأن العاصفة الجليدية لم تكن وكان لحسن حظي أن بيتي يبعد أمتاراً عن السوق المركزي في منطقة سكناي.
وذات يومٍ جاء خلدون من المدرسة وكان يلهو في طريقه إلى البيت مع زملائه بالثلج بدون أن يرتدي القفازات فكادت أصابعه أن تتجمد من شدة البرد وقال: أبي لا أشعر بأطراف أصابعي فوضعت أصابعه تحت إبطي لتمتص حرارة جسدي وحضنته حتى يشعر بالدفء، ومنذ ذاك التاريخ يرتدي خلدون القفازات قبل خروجه من المدرسة إلى البيت في فصل الشتاء وكان عمره في ذلك الوقت سبع سنوات.
وأمام هذا الطقس الجليدي قلت في نفسي: لا بد من العودة إلى الوطن الأم، فدكتاتورية الشرق الدافئ أفضل من ديمقراطية الغرب الجليدي!
وفي صمت المكان تذكرت معاناة الفدائيين القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي والذين ضحوا بشبابهم من أجل فلسطين.
فصبرت مثلهم في مهجري كأني في سجن مفتوح وذلك من أجل مستقبل أبنائي حتى تأقلمت مع الطقس الجليدي الذي وصل أحياناً إلى 63 درجة مئوية تحت الصفر في مدينة مونتريال! كما تأقلمت مع طقس الكويت صيفاً في بداية شبابي والتي وصلت الحرارة في الظل إلى 53 درجة مئوية فوق الصفر! ومن أجل تنفيذ برامجي العلمية لأبنائي قلت: لا بد من الاعتزال عن الناس مؤقتاً كما فعل فيلسوف المعرّة في معرّة النّعمان حيث قال:
[ وَزَهَّـدَنــي فــي الخَـلــقِ مَـعـرِفَـتـي بِهِــم
وَعِـلمـي بـِأَنَّ العَـالَمِيــنَ هَـبـاءُ]( )
بعد ذلك نقلت: أبنائي إلى مدارس Gloucester الابتدائية والمتوسطة حتى أنهوا مرحلة الثانوية العامة، وهي الأهم، وخلال هذه الفترة كنت أرسلهم كل يوم سبت إلى المدرسة العربية حتى لا ينسوا لغتهم الأم، وقد دخل أبنائي جامعة أوتاوا الكندية التي تأسست عام 1848م تباعاً بعدما رهنت لهم قلبي وإحساسي في كل المراحل الدراسية التي سبقت دخول الجامعة، وقد توليت بنفسي السهر على أبنائي في المهجر الكندي تشاركني بذلك زوجتي السيدة سلوى شحادة أم توفيق لقول الإمام الشافعي:
[مـا حَــكَّ جِـلــدَكَ مِـثــلُ ظُـفــرِكَ
فَـتَــوَلَّ أَنـتَ جَـمـيــعَ أَمـــرِكَ]
عائلة آل زهران في أُوتاوا
قاسم خلدون وديع محمد توفيق زهران توفيق غسان بيسان
قاسم زهران مع والده بتاريخ 20/8/2002 أمام جامعة أوتاوا
وكم تمنيت على أبنائي مواصلة الدراسات العليا في الجامعات الكندية قبل غياب فترة الشباب، وهنا أذكرهم بقول الشاعر أبي نواس الذي قال:
[ فَـقُــل لـِمَــن يَـدَّعِــي فِــي الـعِـلــمِ فَـلـسَــفَــةً
حَـفِـظــتَ شَـيـئَــاً، وَغَـابَــت عَـنــكَ أَشـيَــاءُ]
أنهي نصيحتي لأبنائي بقول المعرّي:
[ أَرَانِي قَد نَصَحتُ، فَمَا لِنُصحِي
إذَا مَا غَارَ فِي أُذُنٍ، يُمَجُ؟]( )
وذات يوم التقيت مع بعض المهاجرين العرب في مدينة أوتاوا، ورداً على أسئلتهم الكثيرة حول التعليم الجامعي في كندا أجبتهم بقول المعرّي:
[ وَيَـنشَــأُ نـاشــئ الـفِتيَــانِ مـِنَّـــا
عَـلَـى، مَــا كَــانَ عَــوَّدَهُ أَبُـــوهُ]( )
ومن يطلب العلا لأبنائه، فالطريق إلى الجامعات الكندية، تبدأ بالتضحية وتنتهي بتحقيق حلم الوالدين.
وفي أحد الأيام من شهر أيلول، اختليت بنفسي على ضفاف نهر أوتاوا، الذي يجري بانسياب بين غابات كندا الجميلة، وتذكرت قولاً جميلاً لأبي ماضي في وصفه جمال الطبيعة في كندا وخاصة شجرة القيقب [MEPLE TREE] التي يتغير لون أوراقها في فصل الخريف من اللون الأخضر إلى الأحمر ثم الأصفر، وفي منتصف شهر أكتوبر يبدأ تساقط الأوراق عن الأشجار تلقائياً فتمتلئ الأرض جمالاً وروعة بألوانها المتساقطة وقد اتخذت الحكومة الفدرالية ورقة القيقب الحمراء ( MAPLELEAF) رمزاً وطنياً ووضعته على علم كندا. قال أبو ماضي في قصيدته – (أيلول الشاعر):
[ الحُـســنُ حَـولَـكَ فِـــي الوِهَــادِ وَفِـي الـــذُرَى
فَانـظُــر، أَلَســتَ تَــرَى الجَمَــالَ كَمَــا أَرَى
وَانظُــر، إلـى الأَشجَــارِ تَـخـلَــعُ أَخـضَـــرا
عَـنـهَــا، وَتَـلـبِــسُ أَحـمَــرَاً أَو أَصـفَـــرَا]
وفي لحظة التأمل في جمال الطبيعة الخلابة بدأت أقارن بين الماضي في الكويت والحاضر في كندا فوجدت الفرق شاسعاً بين الطبيعتين والثقافتين:
[ فــالـكُـوِيـــتُ قَــد قَـيَّـدَتـنِـي بِـقُـيُـــودِ الإِقَـامَــةِ
وَكَـنَــدَا حَـطَّـمَــت قُـيُـــودِي فــي المَـطَـــارِ]
لهذا ، أتقدم باعتذاري عن مدة إقامتي في الكويت إلى والدي رحمه الله وأقول له: كما قال أحد شعراء المهجر الأستاذ سليم البيطار في قصيدته قُدسِيَّةُ الأُبُوَةِ:
[ زَرَعــتَ عِـنــدِي رَيـاحِـينَــاً مُـعَـطّــرَةً
فَـفَــاحَ عِـطــرُهَا لابـنِـي مِـن تُـــرَاثِ أَبِـي
سَـيَـبـقَــى طَـيـفُــكَ مَـرسُـومَـــاً عَـلـى هُـدُبِــي
طَـيــفٌ يُـثِـيــرُ شُـعُـــورَ العِـــزِّ فِـي نَسَبِــي]
وكذلك أعتذر إلى وطني الأم معترفاً بقولي:
[ لَقَــد خَسِــرتُ فـــي غُـربَـتِــي خَسَـارَتَـيــن، وَطَـنِـي وَغِـيَـابَ الوالـِدَيــنِ]
وفي الختام أتقدم بالشكر إلى الناشط الاجتماعي/ علي السبيتي في أوتاوا الذي زودني من مكتبته العامرة بالكتب عن تاريخ أبناء سوريا بالمراجع عن فيلسوف المعرّة وأدب المهجر الشمالي والجنوبي في الأمريكيتين، ورفاق المجالس الأدبية منهم أستاذ اللغة العربية عبد القادر كعوش الذي تعلمت منه أسلوب الكتابة في بداية التسعينات من القرن الماضي، والمحلل السياسي/ بسام حنحن الذي أحبطني في تحليلاته السياسية، والناقد الأدبي/ تيسير السوسي الذي قام مشكوراً بمراجعة وتنقيح كتابي لغوياً في عمّان. وأحمد مراد صاحب مجلة الفلسطيني الذي نشر لي عدة مقالات عن تصرفات مخاتير الجالية الفلسطينية في أوتاوا. وكذلك فرسان اللغة العربية في جريدة المستقبل – مونتريال. منهم الكاتب الاجتماعي الدكتور/ كمال ديب، والكاتب الصحفي/ سيف الدين الخطيب، والكاتب وليم نصَّار صاحب مجلة عيبال، وكذلك شعراء المهجر الكندي/ عصام عَدِيّ، وعدنان صالح أبو بكر، ورضا منصور الذي قال في إحدى قصائده عن كندا:
]تَـــغَـــرَبـــتُ فــي هَـــــذي الـبــلادِ مُــضَــيَــعــاً
ولـمـلمــتُ مــن هـــذي الـبــلادِ كـــيـــانـــي [
وأخص بالشكر فرسان اللغة العربية في مدرسة رُواق المعرّي التي تأسست في مدينة ساوباولو عام 1900م في بداية الهجرة إلى برازيل. ومدرسة الرابطة القلمية في مدينة نيويورك عام 1920م، ومدرسة العُصبة الأندلسية في مدينة ساوباولو عام 1933م على تنمية ثقافتي منذ الصغر في وطني الأم.
وألفُ شكرٍ لأبي العلاء المعرّي الذي جعل مني باحثاً وكاتباً بين أقراني عند الكِبَر. شاكراً الحكومة الفدرالية والبرلمان الكندي على قوانينها التربوية والإدارية والإنسانية التي لا تتغير مع تغيير الحاكم، وهذا هو سر تفوق كندا بين الأمم. أُنهي قصة "هذي هجرتي" في المهجر الكندي للتذكير بقول الشاعر العربي زيدان عبّاس:
[ وَلَــو لَـم يَكُــن للعُـــربِ فــي العِلــم كُلِّــهِ
سِـــوَى الصِّفـــرِ مُلكــاً مـا أقتَنَـى الغَـــربُ مَجمَعَــا ]
ومع الأسف .. ليت العرب ظلّوا يذكرون هديتهم للعالم وهي اختراع الصفر.
تلك كانت نهاية هجرتي..!
لقراءة جميع مقالات الكاتب عن قلقيلية اضغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق