القائمة الرئيسية

الصفحات

بقلم: الكاتب والباحث الميداني
أ. محمد توفيق زهران



عائد إلى قلقيلية


يوم الثلاثاء 5/1/2016م جاءني نبأ وفاة أخي/ فيصل بن توفيق بن محمد القاسم الزهران المكنى بأبي عماد وأنا في عمّان.



فقلت في نفسي: لماذا لا أزورُ مسقط رأسي بعد ما أصبحت وحيدًا في أسرتي التي كانت مكونة من أحد عشر فردًا وذلك لفتح بيتٍ للعزاء في ديوان آل زهران في قلقيلية تَليقُ بِهِ، حيث التقاليد والعادات في هذه المناسبة أَنْظَمُ ترتيبًا من عمّان.

في اليوم الثاني قطعت الحدود والحواجز الأمنية حتى وصلت إلى جسر العودة مهزومًا كهزيمة الأحزاب العربية منذ عام 1948م وحتى الآن! وأمام مكاتب الاحتلال الإسرائيلي بلعت هناك الذل اليومي للشعب العربي المتمثل بالشعب الفلسطيني كما أرى وأسمع التأفف من حولي وخاصة من وجوه العائدين لزيارة أهاليهم في الضفة الغربية من حملة الجوازات الأجنبية من أمثالي المولودين في فلسطين فهؤلاء لهم شأنٌ آخر لدى المخابرات الإسرائيلية.

قلت: لأحد حملة الجوازات الأمريكية وهو من مدينة القدس المحتلة: لم يكتف المحتل بسرقة الأرض بل طمع بسرقة الاقتصاد الفلسطيني منذ إعلان سياسة الجسور المفتوحة عام 1967م التي تدر يومياً على الخزينة الإسرائيلية الملايين من الدولارات من جيوب الشعب الفلسطيني المقيم تحت الاحتلال، وحتى زيارتي الأخيرة، بالإضافة إلى الذل اليومي في صالات الانتظار ونحن نجلس تحت صور القدس لتبدو للزائر الأجنبي كأنها عاصمة إسرائيل ترحب بهم وهي عاصمة الشعب العربي في فلسطين كما ترى! قال: كنت أسمع والدي في الخمسينات من القرن الماضي يردد قول الشاعر والمناضل فخري البارودي:

] يــا أُمَـــة الــعُــــربِ نَـــحـــنُ الــيــومَ فـــي خَـــطَـــرٍ

هــــذي فِـــلَـــســـطــيـــنُ فــيـــهــا الــيَـــهـــودُ قــد سَــــادوا

إنَّ الـيــهــودَ بِـــقُــدسِ الأقــداسِ قَـــد عَــبَــثُــوا

 لا تَــغــفَـــلــوا بَــعــدَهــا الفَــيــحــا وَبَــغــدادُ [

وأضاف قائلاً: فالعرب يا صديقي ليس عندهم ثقافة التجديد في الحكم انظر ماذا يجري لهم الآن في عواصمهم من دمار شامل. قلت للمقدسيّ: الآن أدركت بأنّ الوطن العربي قد ضاع، بعد نكبة فلسطين الكبرى ولكن على مراحل كما قال البارودي.

وبعد التأكد من ملفي الأمني من قبل المخابرات الإسرائيلية منحوني الإقامة المؤقتة لزيارة وطني المحتل!!!

وكأن كل فلسطيني في نظرهم هو المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد أو الأديب/ غسان كنفاني أو الشاعر الوطني/ إبراهيم طوقان.

الأول: عراهم في كتابه ] الاستشراق [ حيث قال: إن فلسطين كانت في الكتابات الصهيونية باستمرار أرضاً بلا شعب لتغدو وطناً قومياً لشعبٍ بلا أرض! والشعب الفلسطيني اليوم في الداخل والخارج قد تعدى اثنيّ عشر مليوناً من سكان العالم أكثرهم من حملة الشهادات العلمية العليا ولكن ينقصهم قيادة ديمقراطية.

والثاني: صاحب رواية ] عائد إلى حيفا [ وهي من روائع الأدب الإنساني.

والثالث: مؤلف النشيد الوطني للشعب العربي في فلسطين ] موطني [ والذي ما زال يصدح من حناجر الجيل الجديد في فلسطين والشتات.

وهم على علمٍ بأن جيلي قد هُزِمَ بعد اتفاقية أُوسلو المشؤومة! ولكن الأمل ما زال قائماً في الأجيال القادمة المتسلحة بالتكنولوجيا الحديثة.

خرجت من جسر العودة إلى قلقيلية بواسطة تكسي أجرة كان ينتظر الركاب خارج استراحة السلطة الفلسطينية المحتلة.

وفي الطريق بدأت أمتع نظري بشجر الزيتون المغروس في سهول وجبال الضفة الغربية على مد النظر وتقدر المزروعات بمليون ونصف شجرة زيتون كما علمت من وزارة الزراعة عبر الإعلام.

وهذه الأشجار قد زرعت  بعد اتفاقية ] أُوسلو [ خوفاً من سيطرة دواعش المستوطنين على أرض البور. ثم بدأت أقارن بين الماضي الجميل والحاضر الأليم فوجدت تكاليف الرحلة من عمّان إلى قلقيلية ذهابًا وإياباً للشخص الواحد تصل إلى أكثر من مائة دينار أردني وهي العملة السائدة في الضفة الغربية رغم الاحتلال الإسرائيلي!

وفي أيام الصِّبا كنت أسافر  من قلقيلية إلى عمّان بلا توقف ومعي خمسة قروش ] 50 فلساً [ بواسطة سيارات نقل الخضار والحمضيات ونعود في اليوم الثاني بنفس السيارة ويبقى معي قرشٌ! آهٍ على الماضي الجميل الذي ذهب ولن يعود أبداً.

وصلت قلقيلية قبيل الغروب ونزلت ضيفًا عند ابن أختي/ إبراهيم زهران المُكنى بأبي نصر الذي  خلد اسم خاله الشهيد/ نصر توفيق زهران بتسمية ولده الأول، وذلك لأنني أرتاح نفسياً عند هذا المناضل الذي حمل جينات خاله بالتضحية من أجل الآخرين وقضى من عمره أربع سنوات في سجون الاحتلال في الانتفاضة الأولى.

وخاصة بعد غياب اختي الحاجة/ عزية عن قلقيلية عام 2014م – عليها الرحمة -.

وبعد انتهاء العزاء في قلقيلية لأخي فيصل يوم الخميس 7 / 1 / 2016م قمت بجولة يوم السبت مع أبي نصر إلى مزارع اهالي قلقيلية التي ضاقت مساحتها بسبب انتشار العمران في منطقة ]المرج والنُقّار[ لنبحث عن بقايا ثمار الجوافة الشتوية والحمضيات المشهورة في قلقيلية.

وبدأت الأمطار بالهطولِ فوق رأسي وقد أعادني هذا المشهد إلى السنوات العجاف في قلقيلية    وكنت أصف هذا المشهد عبر التلفون المحمول لمن تبقى من الأصدقاء في عمّان منهم/ نامق سعيد وعلي اليوسف القبعة وعدنان جُعيدي وتميم النوفل بكل صدق وأمانة وكانوا يتمنون العودة إلى الضفة الغربية ولكن حواجز الإرهاب الإسرائيلي تمنع دخولهم إلى وطنهم الأم إلاّ بتصريح من المحتل! وخلال زيارتي قام ابنا شاعر الصمود/ أحمد بن محمد الجُعيدي المُكنّى بأبي شهاب مؤسس ] المسرح في قلقيلية [ بدعوتي للغداء في بيتهما الجميل في المرج.

فلبيت الدعوة وكنت بصحبة العين الساهرة على قلقيلية رئيس بلدية قلقيلية السابق/ معروف زهران المُكنّى بأبي محمد وابن أختي/ إبراهيم زهران.

وبعد الغداء ألقى شاعر الذكريات/ محمود بن أحمد الجُعيدي المُكنّى بأبي الشيشان آخر قصائده الجميلة عن صديق والده المناضل/ محمود الأشوح. بمناسبة مرور نصف قرن على غياب الأشوح تحت عنوان ] أسد قلقيلية [ قال فيها بصوته الحنون:

] قــلــقــيــلــيــه مــاذا جـــرى يــا دارةَ الـبــلــدانِ

أُسْــدِلَ عــلــيــك الـلـيـل وطــال الـلـيل أســاره

بــزغ الـفـجــر وبــعــده الــنــور مــا بــان

                ويــا ســامــعــيــن الـصــوت مــيــن يـجــيــب أخــبـــاره

نــادى الــمــنــادي بــنــبــرتــه أحــزان

نــال الـشــهادة الأشــوح بأســفــاره

وقــلــقــيــلــيــه تـــنــدب عــلى الـخــســران

تــبــكــي عــلى مــحــمــود هــالــمــفــقـــود أثـــاره [

إلى آخر القصيدة، ثم جاء دور السيد/ معروف زهران بالكلام استعرض بطولات ومآثر الأشوح التي لن تتكرر قال: عندي معلومة عن الشهيد/ الأشوح أبلغني بها الرئيس/ ياسر عرفات شخصياً خلال زيارته إلى قلقيلية عام 1998م عندما لَمَحَ أبو عمار من بين الجماهير التي جاءت لاستقباله الشبيه للأشوح بطوله ولباسه وكوفيته وهو أبو خُشخايش ] أحمد بن إبراهيم الحاج عيسى [ من أهالي قلقيلية.

فقال لي أبو عمار: هل هذا الطويل قريب الأشوح ؟ تفاجأت بهذا السؤال! وقلت لأبي عمار: كلا إن الأشوح من آل زهران وهو قريبي ولكن هل تعرف الأشوح يا سيدي؟



قال: نعم لقد التقيت به أكثر من مرة قبيل استشهاده في أيلول عام 1965م، قلت: إن الأشوح خارج قيد الشهداء في الثورة الفلسطينية فأصدر أمراً بتسجيل الشهيد/ محمود الأشوح في قائمة أسماء  شهداء الثورة الفلسطينية الأوائل.

وتم توقيع الكتاب في مقر البلدية وسلمني الكتاب رسمياً أمام الصحافة المحلية وأحتفظ بنسخة عنه بين ملفاتي. قلت: كان الشهيد يردد كما علمت من أجياله قول شاعر قلقيلية الأستاذ/ حسن الأحمد الحسن المُكنّى بأبي سفيان:

] اللهُ أكـــبَـــرُ، هَـــلْ تَـــؤولُ بِـــلادُنـــا

مُــلـكَ الـيَــهـــودِ وَنَــحـــنُ جَـــمْـــعٌ نَــشـــهَـــدُ

اللهُ أكــبَـــرُ، أيـــنَ غَــضْــبَـــةُ يَـــعْــــرُبٍ ؟

أيــــنَ الــشَـــهـــامَــةُ ؟ آهٍ عَــــزَّ الـمُــنْـــجِــــدُ [

وبقي الأشوح يناضل حتى قُنِصَ على خط الهدنه في ليلة 13/9/1965م بنيران صديقة كما قيل في ذلك الوقت! فأُسْدِلَ الستار على صقر قلقيلية للأبد من قبل رفاقه في الثورة الفلسطينية! وحمل السلاح من بعده الفدائي/ نصر بن توفيق القاسم زهران حتى استشهاده في عملية نهاريا البحرية يوم 7/9/1972م تحت قيادة حركة فتح، وفي بداية الانتفاضة الثانية التحق قصي بن فيصل التوفيق القاسم زهران بقافلة الشهداء – عليهم الرحمة -.

وبعد جلسة الذكريات الجميلة مع الماضي قمنا بجولة في حديقة بيت شقيقه الأكبر/ شهاب من أجل التقاط الصور التذكارية، ثم أدركنا الوقت وطلبنا الإذن من شاعر الذكريات بالانصراف وقام الأخوان شهاب ومحمود مع أبنائهما بتوديعنا كما استقبلونا بالحفاوة والتكريم، وينطبق على فتيان أبي شهاب قول المتنبي:



] عَــلـى قَــــدرِ أهـــلِ العَــزمِ تَــأتـــي العَــزائِـــمُ

وَ تَـــأتـــي عَـــــلى قَــــدرِ الــكِـــرَامِ الــمَـــكَــارِمُ [

وقبيل المغادرة ذَكرّتُ أبا الشيشان بمقطع من قصيدته ] كنز الذكريات [ الذي وعدني بغنائها بصوته الحنون عندما قال فيها:

] طــلــبــك يَــا أبــو الــتَــوفـــيــق لـــعــنــدي وصــل

مِــنـــي هـــديــة وَمَــطــلــبــك تــم وحــصــل

غَــنــيــت للــشــهــداء وبــعــزف ســمــيــر

والــعُـــود بــأيــده رقــص طــيـــور الحـجـــل [

قال: ما زلت عند وعدي.

ويوم الجمعة 15 / 1 / 2016م خرجت مع أبي نصر  بعد صلاة العصر من بيته لنقوم معاً بزيارة دواوين أهالي قلقيلية الكرام وذلك لتقديم واجب العزاء أو التهاني بالأفراح كما هي عادة أهالي قلقيلية كل يوم جمعة انطلاقاً من ديوان آل زهران كما علمت بهذه العادة الجميلة خلال زيارتي الأخيرة.

وعندما وصلنا إلى الحديقة العامة التي شيدت على أنقاض المركز ] مركز الجيش البريطاني الذي تأسس عام 1936م في قلقيلية وبعد انسحاب الجيش البريطاني من فلسطين عام 1948م استولى عليه الجيش العراقي ثم الجيش العربي بعد وحدة الضفتين وخلال معركة قلقيلية ليلة 10/10/1956م قام الجيش الإسرائيلي بنسفه على من فيه من المدافعين الأبطال – عليهم الرحمة - [.

تفاجأت هناك بجمهرة أشبال أهالي قلقيلية وهم في حالة استنفار، وسألت شبلاً يافِعاً ويبدو على وجنتيه أنه من أبناء الكآبة ماذا يجري هنا يا بُني؟ قال: ننتظر سيارات التفحيط ] التشفيط [ ! قلت للشبل: أين يقع المكان؟ قال: في هذه الساحة على الطريق العام. 

]فالساحة المشار إليها تقع أمام بئر ] أبو نيع [ ([1]) الذي ما زال شاهداً على معركة قلقيلية[.

قلت يابُنيّ: قبل ستة عقود من الزمن دارت هنا معركة الوجود بين صقور قلقيلية من الحرس الوطني والجيش الإسرائيلي بقيادة شارون – ديان وكل شبرٍ من هذه الأرض مشبع بالدماء الفلسطينية والأردنية فبدلاً من إحياء ذكراهم سنوياً في هذه الساحة تأتي سيارات أبناء المسرات وتدوس بعجلاتها تاريخ من ضحوا بأرواحهم من أجلنا؟!

قال: إن التنظيمات الفلسطينية بعد أُوسلو قد شطبت من ذاكرتها شهداء فلسطين الأوائل! ومن يردد قول فتى فلسطين الأول/ غسان كنفاني بعد اتفاقية الصلح مع إسرائيل يُقمع!

قلت: ماذا قال فتى فلسطين؟.

قال في رواية عائد إلى حيفا: ] إنَّ دوف هُوَ عَارُنا، ولكنْ خالد هُوَ شَرَفُنا الباقي [

وبعد لحظات جاءت السيارات بأصواتها المزعجة تهدر كالطائرات الحربية المقاتلة وبدأت تستعرض حركاتها البهلوانية أمام الأشبال وكادت إحداها أن تصطدم بالأخرى وتقتل العشرات منهم على قارعة الطريق.

قلت لأبي نصر: هؤلاء المراهقون من طبقة أبناء المسرات التي ظهرت في قلقيلية بعد عودة السلطة الفلسطينية وينطبق عليهم قول شاعر العرب أبي الطيب المتنبي:

] تَــشَــابَــهـــتِ الـبَـــهَـــائِـــمُ والْــعِـــبِـــدَّى

عَـــلَــيْــنَـــا وَالْــمَــوَالـــي والــصَّمــيــمُ

ومـــا أدْرِي إِذَا دَاءٌ حَــــديــــثٌ

أصَــــابَ الـنَّــاسَ أَمْ داءٌ قَـــديـــمُ؟ [

ولكن أين حكماء أهالي قلقيلية عن هذه الفوضى العارمة؟ قال: ] لا حياة لمن تنادي [ في ظل الاحتلال الاسرائيلي فترحمت على أرواح ] حكماء قلقيلية في الماضي [ الذين كانوا إذا اجتمعوا لحل مشكلة كانت قراراتهم نافذه على الجميع فمن يعيد هيبة الآباء والأجداد يا تُرى ؟

وفي صباح يوم السبت 16 /  1/2016م قمت بزيارة إلى الحديقة العامة التي تبعد أمتاراً عن بيتي الجديد والذي اخترته مقراً لأبنائي عندما يعودون من المهجر الكندي إلى وطنهم الأم للزيارة والتعبد، وتعرفت هناك على المدير الإداري للحديقة السيد/ عيسى بن أحمد الصبري المُكنّى بأبي أحمد والساخط على حالة الشعب الفلسطيني السياسية.

وبعد التعارف تجولت في الحديقة وحدي وإرشادات الرفق بالحيوان تملأ الطرقات وعمال الصيانة في نشاط دائم، فشاهدت الحيوانات البرية مسجونةً في أقفاصها الحديدية تتمنى في داخلها العودة إلى أوطانها الأصلية في البراري كما تمنيت العودة إلى مسقط رأسي مواطناً ولست زائراً ثم جلست على مقعد خشبي أتأمل الماضي وبدأت أخاطب الزمن في نفسي قائلاً:

أيُّها الزمن: هل تعلم أين أقف الآن؟ أنا هُنا في هذا المكان الذي كان مركزاً للشرطة الأردنية قبل معركة قلقيلية عام 1956م مركز البطولة والفداء الذي تحول مع الزمن إلى حدائق للحيوان والإنسان!

أترحم على أرواح الشهداء الذين دافعوا واستشهدوا في هذا المكان.

أُذكرك أيُّها الزمن أن في هذا المكان دارت معركة الوجود قبل ستة عقود من الزمن بين صقور قلقيلية والاحتلال.

هنا رَأتْ طفولتي دماء الشهداء التي روت أرض الآباء والأجداد.

وهناك رَأيتُ فتيان قلقيلية بأُم عيني في خنادقهم الأمامية وأجسامِهم مضرجة بالدماء دفاعاً عن الشرف العربي الذين كان منهم الشهيدان/ أحمد وحسن أبناء خالي أمين القواس.

وفي هذا المكان كان الشهيد البطل الشرطي/ أحمد الشوبكي متمترساً في خندقه عند مدخل بوابة المركز وهو مضرجٌ بالدماء ويده كانت على الزناد.

هنا رأيت الأشلاء بعد نسف المركز على رؤوس المقاومين وهم تحت الركام! ومن هذا المكان طار أحد أبطال حرب التسلل المناضل/ عبد القادر الولويل الملقب ]بإسطُبلَة[ مع جزء من سقف المركز من قوة الانفجار وسقط فوق أشجار البرتقال سالماً وكان عبد القادر مسجوناً إدارياً في المركز عندما وقع الهجوم فأخذ له مكاناً فوق سطح المركز مقاوماً للاحتلال.

ومن هنا في الشمال والغرب وهناك في الشرق كانت العيون الساهرة على قلقيلية من الحرس الوطني والجيش العربي بقيادة الشهيد البطل/ غازي الكباريتي تقاوم المحتل الذي ترك قتلاه فوق السهول والجبال بعد الانسحاب والطيور الجارحة تحوم عليهم في كبْد السماء حتى جاء الصليب الأحمر وسلم الجثث إلى الاحتلال.

وقد خلد شاعر الصمود/ أحمد بن محمد المحمود الجُعيدي المُكنّى بأبي شهاب معركة قلقيلية بقصيدته الشعبية ]الصلاة عن النبي[ قال فيها:

]هَــــجَــــمَ الـيَهــود عَــلــيـــكِ يـــا قَـــلــقـــيــلــيـــة فـــي لَــيـــلةِ

عَــشـــرَه عَـــشـــرَه ســـنـــة الـســـتـــةِ والخــمــســيـــنِ[ ([2])

واليوم لا أرى إلاّ معبر الذل مفتوحاً أمام جيوش العمال تبحث في الأرض المحتلة عن الشيكل والدينار وأهل القضية والعرب في خصام! قال الزمن: في زمن الشيكل والدولار سادت إسرائيل على كل الأوطان.

قلت: متى يا زمن نعود إلى وطن الآباء والأجداد المحتل ونكُفُّ عن ندب الماضي والحاضر قبل أن يرحل من تبقى من جيلي عن هذه الدنيا الغادرة ؟ قال: أيُّها الغِرُّ، فلسطين لن تعود إلاّ بقرارٍ من مجلس العموم البريطاني كما منحوها إلى بني إسرائيل منذ عام 1948م.

قلت: صدقت أيُّها الزمن هؤلاء هم سبب البلاء للشعب العربي في فلسطين منذ وعد بلفور وحتى زيارتي الأخيرة إلى قلقيلية وبدأت أُذَكِرَهُ بقول شاعر المهجر إيليّا أبي ماضي:

] فَــلَـــيْـــسَـــتْ فَـــلــســطــيــنُ أَرضَـــاً مُـــشـــاعــاً

فَــتُــعــطـــى لِــمَــن شَــــاءَ أن يَـــســـكُـــنــا [

قال: هل قرأت مذكرات بِسمارك [Bismarck] في القرن التاسع عشر عندما قال:

] لتكن مشيئة الله، كل شيء هنا في هذه الأرض إنما هو مسألة وقت وأوان، فالأمم والأخلاق والحماقة والحكمة والسلم والحرب تذهب وتجيء كالأمواج والبحر باقٍ حيث كان [

قلت: متى يأتي السلام على أرض السلام؟ قال: بعد اتفاقية أوسلو اكتشف المفاوض الفلسطيني قول الشاعر محمد صادق العرنوس:

] كُــنّـــــا نَـــظُـــــنُ حَـــقــيــقَـــــةً مــــا حَـــبَّـــــروا

فَـــــإذا بِــــهِ وَهْـــــــمُّ مِـــــنَ الأوهَــــــامِ[



وفي صمت المكان المهزوم كهزيمتي خاطبت مسقط رأسي وقلت:

] قــلـقــيــلــةُ، هـــذي هِـــجــرَتــي قَـــدْ انـتَــهَـــتْ

بِـــلا انــتـــماءٍ، فَــهَــل تَــقــبَــلــيــنَ عَــودَتـــي؟! [


وبعد هنيهة كأني قد سمعت جواباً لا لُبسَ فيه من ممثل ] إسرائيل [ الذي منحني الإقامة المحدودة على جسر العودة لزيارة وطني المحتل يقول عبر الخيال:


لقد انتهت الزيارة !!!



---------------------------------------------
[1]) محمود بن عبد الكريم ذياب – أبو فتحي – لقب بأبي نيع بعد إصابته في فكّه الأيمن بطلق  ناري في معركة كوفيش عام 1949م.

تعليقات

محتويات المقال