مقالات المتوكل طه : ابراهيم طوقان، حائط البراق اسلامي، الفلسطيني متناسق والقصيدة ارض ارادتي
يُعد الكاتب والشاعر الفلسطيني المتوكل طه من أبرز الأصوات الأدبية التي وثّقت الهوية الوطنية الفلسطينية من خلال المقالة والشعر. في هذا المقال، نستعرض مجموعة من مقالاته التي تتناول رموزًا جوهرية في الوعي الثقافي الفلسطيني، مثل الشاعر إبراهيم طوقان، والقصيدة كأداة مقاومة، إلى جانب تسليطه الضوء على حائط البراق باعتباره معلمًا إسلاميًا فلسطينيًا متجذرًا في التاريخ والوجدان. تجمع هذه المقالات بين العمق الأدبي والبعد السياسي، لتشكل معًا رؤية متماسكة تعكس الصراع على الأرض والرواية. تعرّف على مقالات المتوكل طه التي تبرز دور الثقافة في الدفاع عن الحق الفلسطيني.
إبراهيم طوقان
أدّعي
أنني أنفقت وقتاً طويلاً في البحث والتنقيب والجمع، لأرسم صورة قريبة من
شاعرنا الكبير إبراهيم طوقان، صورة تشبهه أو صورة لا ينكرها ولا ينكرها
غيره ممن عرفه عن قرب أو عاش معه أو قرأ له.
كانت الصورة التي حاولت أن أجمعها لهذا الشاعر الفذّ تقوم على عدة ركائز
تمثلت في: سخريته النافذة والمرَّة والكاشفة والكاوية، وهواجسه التي توزعت
بين حب الحياة والخوف من الموت، ومواقفه السياسية والوطنية، ومصادر ثقافته
المتنوعة، وكيف ظهر ذلك كله في شعره ومقالاته ورسائله.
كان هذا عملاً احتاج مني سنين عديدة، وجهداً كبيراً لجمع أوراقه ومقالاته، وقراءة ما كتب عنه، وشاركني في ذلك أصدقاء كثر ولا أنسى هنا الإشارة إلى ما قدمته لي شقيقة الشاعر أمي الراحلة الكبيرة فدوى.
الآن، وبعد أن صدر كتاب "حدائق ابراهيم" الذي كتبتُ فيه كل شيء عن ابراهيم، هل يمكنني القول: إنني نجحت في رسم بورتريه لهذا الشاعر الكبير ؟! وهل استطعت حقاً أن ألمّ بعالم هذا الشاعر الكبير، وأن التقط حقاً هواجسه الأعمق وأن أمسك ذبذبات روحه الأرق والأشف ؟!
ربما تكمن مشكلة الدراسة الأكاديمية في أنها لا تلتفت إلى الهامشي أو أنها لا تحتفل بذلك الغامض المستتر أو ذلك الذي لا يمكن التدليل عليه وإثباته. ربّما كان هذا النقص الوحيد في دراستي لهذا الشاعر الكبير الذي لم يكن يشبه شعراء جيله.
ربّما أغراني المنهج الأكاديمي لأنْ أُلاحق المعروف والمكشوف والواضح،
وحرمني متعة أن أغوص في أعماق شاعر عاش في وطن على شفا الهاوية دائماً،
وعاش في مجتمع مهدد بضياع الهوية وارتباك الاتجاه.
كيف لي أن أتلبس روح هذا الشاعر وجسده وهو يعيش بين شفرتين طيلة الوقت،
شفرتي الموت والحياة، وشفرتي التفكك والبناء، وشفرتي الطبقة والمجتمع،
وشفرتي السمسار والشهيد، وشفرتي الحب والشبق، وشفرتي المسئولية والعبث.
الحقيقة أن هذا الشاعر يغريني دائماً بالتساؤل الأبدي: من هو الشاعر بالضبط
؟! والحقيقة أيضاً هي أنني أشعر أنني مقصر في الكلام عن هذا الشاعر الذي
صار مع الوقت جزءاً من روحي، ولم يعد بالإمكان أن أتخلص من تأثيره عليّ
وهيمنته على ذائقتي.
وكيف لي أن أفهم دوافع هذا الشاعر الكبير الذي اضطره شعره إلى التخلّي
عن طبقته أو عن ارستقراطيته لينزل إلى الشوارع والحواري، وأن يحول شعره إلى
ما يشبه اللهجة الدارجة ؟!
لماذا لم يكن الشاعر ابن طبقته ؟!
ولماذا لم يكن تغريبياً على منوال غيره من المثقفين في العشرينيات
والثلاثينيات ؟! ولماذا لم يركن إلى حزب من الأحزاب القريبة من السلطة
الانتدابية؟!
ولماذا لم يتورط في تجارة أو مشروع أو وظيفة تريحه وتكفيه شر العمل والتنقل وهو المريض المعتل !!
ولماذا لم يتنكر لثقافة أمته ومشروعها وهو خريج جامعة ليبرالية في وقت مبكر
؟! أسئلة كثيرة نسألها ونحن نستذكر الشاعر الكبير، تساعدنا لإكمال
التفاصيل الصغيرة في البورتريه المفترض لشاعر إشكالي تماماً !!
وللإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بد من إيجاد أو البحث عن تلك العلاقة بين الخيار الشخصي والخيار العام، بين الموقف الإبداعي والموقف الإنساني، بين الشعر والحياة !! بين ما نريد وما يراد لنا، بين ما نرغب وما نجبر عليه. الإنسان وعي ومن ثم موقف وخيار.
الإجابة الأولية لمثل هذه التساؤلات تتمثل في فلسطين، ذلك الوطن الباهظ
الثقيل، المزدحم بالتاريخ وأوهامه ومقدساته وتابوهاته. فلسطين بلد قلق،
هكذا أراده الله، وهكذا يكون. الأمكنة المقدسة هي أكثر الأماكن اضطراباً
وثقلاً واختلافاً، أما فلسطين فهي البلد التي أحبها قَتَلَتُها وغُزاتها،
أيضاً. وقد تعود أهلها اختلاف الزمان واضطراب الوقت. ليس هناك من أرض اختلف
عليها الناس كما في فلسطين، حتى في عهود القوة والمنعة تمزقت فلسطين بين
دولتين كبيرتين الأولى في بغداد والثانية في القاهرة، هل كان ذلك التغييب
هو الذي دفع المقدسي – ذلك الرحالة الكبير – إلى أن ينسب نفسه إلى فلسطين
في نهاية القرن العاشر الميلادي، وأن يكتب بالتفصيل كيف يبني الفلسطينيون
بيوتهم بالحجارة والخشب. بالتأكيد أن فلسطين كوحدة ديموغرافية وجغرافية
ولدت قبل الانتداب البريطاني كما أشار الخالدي، فهذا المقدسي يشير إلى أصله
الفلسطيني صراحة في كتابه: " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" فيقول رداً
على سؤال رجل شيرازي بالقول:
– لا، أنا فلسطيني".
ويقول في موضع آخر من الكتاب ذاته: " ولقد سميت بستة وثلاثين اسماً،
دعيت وخوطبت بها: مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي... وذلك لاختلاف البلدان
التي حللتها وكثرة المواضع التي دخلتها".
هذا الكلام قيل قبل ألف عام تقريباً، وقد سقت ذلك لأخلص إلى القول: إن
فلسطين المحددة ديمرغرافياً وجغرافياً عرفت نمطاً حضارياً موحداً ونسقاً
ثقافياً ثابتاً تواصل واستمر وتطور باسمه ورسمه الفلسطيني حتى وصل إلى
شاعرنا الكبير إحساساً عارماً وعميقاً وقوياً بالمكان وقدسيته وإشكالياته
ومتاعبه وثقله وموته ورعبه.
لقد احتمل شاعرنا مكانه، وعبّر عنه وحماه ودافع عنه، إن لوحة جمل المحامل
التي رسمها سليمان منصور وفيها رجل عجوز يحمل القدس على كاهله تعني لي أكثر
من لوحة عادية، إن حمل الوطن في القلب وعلى الكاهل مهمة ثقيلة وتفترض
الانحياز الكامل الذي يلغي الألوان كلها، ما عدا الأبيض والأسود. وهكذا كان
شاعرنا الكبير إبراهيم طوقان في شعره متطرفاً في كل شيء، في السياسة والحب
والحياة والشعر. هل أقول هنا حقاً عن هذا الشاعر ؟! هل كان متطرفاً ككل
مبدع حساس وشفاف أم أنه كان شخصاً ذا عقلية مرنة تميل إلى التسوية ؟! نجد
في شعره الجواب !!
يفاجئنا هذا البيت من الشعر الذي يعلن فيه عدم انتمائه إلى حزب أو زعيم. إذ يقول:
إن قلبي لبلادي
لا لحزب أو زعيمِ
غايتي خدمة قومي بشقائي أو نعيمي
إن مثل هذا الموقف الذي يبدو من خارجه محايداً يعكس موقفاً غير مألوف في عصر الشاعر الذي كان الاصطفاف فيه على أشده ما بين العائلات القوية والأحزاب والحركات السياسية المقاومة والمنضوية تحت لواء الانتداب. في لحظة من اللحظات انقسمت البلاد كلها بين ما سمي في حينه "المجلسيين" و"المعارضين"، وكان على عشيرة الشاعر أن تحدد انتماءها لأسباب لا تخفى، ولكن الشاعر يفاجئنا أنه لا ينتمي سوى لوطنه فقط. والشاعر يفاجئنا أيضاً – وأعتقد أنه فاجأ معاصريه أيضاً – عندما يقول مجاهراً بأعلى صوته:
بني وطني، هل يقظة بعد رقدة وهل من شعاع بين تلك الغياهب
فوالله ما أدري و لليأس هبة أنادي (أميناً) أم أهيب (براغب)
في وقت من الأوقات مثّل الحاج أمين الحسيني رمز الحركة الوطنية
الفلسطينية وكان عنوان تلك المحاولات المبكرة لإقامة كيان فلسطيني، وقد
اجتهد على طريقته في ذلك، ولسنا هنا بصدد تقييم رؤى هذا المناضل أو
اجتهاداته، أما راغب النشاشيبي فقد مثّل هو الآخر اجتهاداً مغايراً لطبيعة
مقاومة المحتل الإنكليزي وشكلِهِ وأسلوبِهِ، كان هذان الرجلان يمثلان فعلاً
وجهي الحركة الوطنية الفلسطينية على اختلاف اجتهاداتها ومساراتها، ولكن
الشاعر الكبير يعلن هنا يأسه من الرجلين، ومن الاجتهادين، ومن الأسلوبين.
هل كان يعرف هذا الشاعر أنه يفضح طبقته ؟! وهل كان يعرف هذا الشاعر أنه كان
شاهداً على إجهاض ميلاد الدولة الفلسطينية في الأربعينيات ؟! وهل كان يعرف
أنه كان شاهد العيان على ما لحق بتلك النخبة التي قادت الفلسطينيين في تلك
الفترة، يقول الشاعر عن تلك الفترة ما لم يقله أحد:
وهناك سمسار البلاد فإنه الشهمّ الأغرُّ
هل هناك ما هو أقسى وأصرح وأشد من ذلك ؟! هل يرى الشاعر غير لونين في وطنه الذي وصل إليه عبر القرون ليقول عنه:
ليست فلسطين الرخية غير مهد للشقاء
عُرضت لكم خلف الزجاج تميس في حلل البهاء
هيهات ذلك إن في بيع الثرى فقد الثراء.
أليست هذه الأبيات هي لوحة جمل المحامل لسليمان منصور، الذي وضع صورة القدس في كيس من الزجاج أيضاً، ونثر حولها اللون الأصفر، لون المرض والشقاء. أليست هذه الأبيات صريحة بإشارتها إلى ثقل المكان وقدره وموته ورعبه الأبدي.
إن إحساس الشاعر بمكانه الفريد والذي خصص له أجود شعره وأعلاه دفعه إلى
أن يكون متطرفاً كعادته في كل شيء. أنا أصر هنا على مفردة التطرف باعتبارها
تصف حالة الشاعر وكينونته، قد يقول قائل: إن الأشخاص الذين يعانون من
أمراض مزمنة سيجبرون على أن يتصرفوا بحكمة واعتدال وانضباط، ولكن شاعرنا لم
يفعل ذلك، ولم ينصع لأوامر الأطباء. في إحدى رسائله يكشف دون قصد عن ذلك
بقوله: إنه سيأكل ما يريد حتى يدخل العملية. أي أنه سيغافل الأطباء وسيغافل
جسده وسيغافل كل شيء ليفوز بلذة ما. ليذهب إلى أقاصي المتعة والإحساس
بالحياة. كان متطرفاً مع جسده ومتطرفاً مع النخبة التي ينتمي إليها..
ومتطرفاً حتى في أحكامه النقدية ومعاركه الصحفية التي خاضها هنا أو هناك.
ولأنه كان دائماً على الحافة من كل شيء، فقد رأى في الثورة والثوار صورة
منه، أو وجد أنهم يمثلون ما يسعى ويصبو إليه. ولهذا فقد مجَّد الثورة ومجد
الثوار كأناس يتحدّون الزمن والجسد والظلم والمعوقات كلها. ومن عجب أنَّ
وصف الشاعر للثوار لم يتجاوز ذلك أبداً. وكان الثائر بالنسبة إليه فوق
الزمن وفوق الجسد، أي أنه القادر المسيطر والضابط لكل شيء، ولأن الأمر
كذلك، فقد احتفل شاعرنا بالثائر كثيراً ومجدّه كثيراً في التفاتة تثير
العجب من شاعر عرف عنه حبه للحياة واحتفاله الشديد بها.
كان الثائر والشهيد بالنسبة للشاعر نقيضاً لكل ما يكره، وصورة لكل ما يحب
وينتمي، ليس على المستوى السياسي والوطني فقط، وإنما على المستوى الوجودي،
أيضاً. لنستمع إلى الشاعر كيف يفضح النخبة السياسية في حينه:
وطني مبتلى بعصبة (دلالين) لا يتقون فيه الله
في ثياب تريك عزاً ولكن حشوها الذل والرياء سداها
ووجوه صفيقة ليس تندى بجلود مدبوغة تغشاها
وصدور كأنهن قبور مظلمات قلوبهم موتاها
حسبوا في الرجال، هل كانت الأنعام إلا لمثلهم أشباها
إن نزع الرجولة عن مثل هؤلاء يتعدى الموقف السياسي إلى الموقف الوجودي الذي كان يشغل الشاعر دائماً، الرجولة المسيطرة الطاغية القادرة على الفعل والإثارة والانتصار. ولهذا عندما يرسم صورة الثائر والشهيد مقابل هؤلاء، فإنه يقول عنه:
وأخو العزم لم يزل يده تسبق الفما
ويقول كذلك:
وشبا الأسنة فيه ألسنة إذا نطقت فمنطق سؤدد وسدادِ
فكرة الرجولة القادرة المسيطرة كانت تشغل الشاعر وتسيطر عليه، ليس فقط من منظور الذكورة وإنما بمفهومها الأعمق، باعتبارها الموقف التاريخي الذي يجب أن ننحاز إليه دون تحفظ. وقد قاده تطرفه في هذه الفكرة إلى أن يتورط في قصائد اعتبرت جارحة و خارجة، وأعتقد أن ذلك ما كان لولا أنَّ هذا الشاعر رأى الحياة بلونيها الأساسيين فقط، الأبيض والأسود، بمعنى أن هناك سمساراً وهناك شهيداً، هناك رجلاً وهناك امرأة، وأن هناك حياةً وهناك موتاً. وهكذا فعل إبراهيم وهكذا عاش، يذبح على هذه الشفرة وعلى هذه الشفرة، حتى وطنه الرخي فهو مهد للشقاء أيضاً..
ولكن، هل كان إبراهيم طوقان حالة ثقافية تمثل لحظة الخروج من زمن إلى
زمن، ومن مرحلة حضارية إلى مرحلة أخرى !! وهل كان بمثابة المثقف الذي قدم
لنا صيغة أو معادلة مبدعة لمزج القديم والحديث، واندغام الحداثة بالأصالة
كما يقولون !!
وهل استطاع بإبداعه الشعري أن يقدم لنا صيغة مبدعة أو توفيقية أو تلفيقية للثقافة الوافدة والثقافة المتوارثة ؟!
وهل شغل شاعرنا الكبير نفسه أصلاً بتحديات وأسئلة الوافد الغريب والأجنبي أم أنه انشغل بمشاكل وطنه ومجتمعه !!
إن شعره يقدم إجابات معينة، إذ إنَّ شعره متعدد الأغراض والأشكال ومتنوع
الإيقاعات يقدم جدلاً شديداً بين المبدع وعصره وأسئلته. فالقصيدة العربية
في الثلاثينيات والأربعينيات كانت تمر بمرحلة المقارنة والمقايسة مع الشعر
الغربي المترجم، وكانت تسعى أيضاً، إلى أن ترد على الحركية التاريخية
السريعة في فلك السنوات وكان عليها، أيضاً، أن تستوعب ما يجري حولها من
تغييرات حقيقية على مستوى المجتمع والعلم.
انقلابات القصيدة العربية في الثلاثينيات والأربعينيات والتي أتت أُكلها
بشكل واضح وجلي في الخمسينيات، جعلتْ من الشعراء باحثين عن موضوعات وأشكال
وإيقاعات ومفردات. أما شاعرنا الكبير، فقد انتبه بسرعة إلى ذلك الجدل
والاشتباك، وهو الذي عاش في بيروت وبغداد، ولهذا فقد حاول أن يقيم لنفسه
قصيدة خاصة به.
لا تغادر القديم الجميل الموسيقي المنضبط، ولكنها لا تعاند المعاصر الذكي والعميق، وعلى الرغم من تطرف شاعرنا الكبير في كل شيء، فإنهُ لم يغامر أبداً بمغادرة القديم، لقد نوّع وجدّد في أشكاله ولكنه أبقى على مضامينه كما هي، جدد في مبنى القصيدة، استغنى عن صالونات كثيرة، وشرفات وأبهاء، وربما ضّيق قليلاً في الفناء الخارجي واختصر كثيراً من الجدران، ولكنه أبقى قصيدته بيتاً حجرياً في بستان أخضر، قد يكون ذلك البيت صغيراً ورشيقاً وضيقاً ليس فيه حجرات كثيرة، ولكنه بيت أنيق يضج بالموسيقى والألوان. هو بيت خاص لصاحبه وهو أجمل ما فيه.
إبراهيم المغامر في كل شيء لم يغامر أبداً بثقافته المتوارثة، لقد وقف في الوسط من كل ذلك، ويمكن القول: إنه كان محافظاً في ثقافته وغير ذلك في سلوكه. وربما يمكن القول هنا: إن إبراهيم الذي غادر طبقته وفضح النخبة التي ينتمي إليها ونزل بشعره إلى الشوارع والحواري، وجهر بمعاداته للاحتلال والاستيطان وانحاز للثورة والثوار لم يستطع أبداً أن يفصل بين العروبة والإسلام على عادة الأحزاب التي نشأت في تلك الفترة وحاولت أن تضع الفروق والاختلافات. شاعرنا يقول دون أن يضع الخطوط والفواصل بين الأمرين:
ناديت قومي لا أخصص مسلماً أبناء يعربَ في الخطوب سواءُ
ويقول أيضاً:
إن الكتاب شريعة استقلالكم فتدبروه وأنتم الخلفاءُ
إن هذا التداخل في المفهومين يدل على أن إبراهيم طوقان لم يكن ينشغل في ذلك الحفر الفكري الذي انشغل به بعض المنظرين منذ أوائل القرن الماضي. أو قد يقال هنا: إن شاعرنا الكبير يعتبر أن دائرة العروبة والإسلام منطبقتان تماماً على بعضهما البعض أو هكذا يريد الأمر. وعلى كلٍ، فإن هذا يعني أن شاعرنا الكبير لم يغامر بخوض غمار فكر لا يريده ولا يحبه ولا يشغل نفسه به، وهو عندما يريد أن يدرس الشعراء القدماء أو يقدمهم في الإذاعة، فإنه يقدم شعراء واضحين ويميل إليهم، شعراء غير إشكاليين، وعندما يضطر للحديث عن المعري وهو الشاعر الإشكالي، لم يصبر شاعرنا كثيراً حتى قال عن أبي العلاء: "والذي أراه أن أبا العلاء تجاوز حدوده وأخطأ"، وقد يكون من المفيد القول: إن شاعرنا الكبير قدم الشعراء الذين جابهوا عصرهم وناقضوا الرأي السائد ثم ظهر أنهم كانوا على صواب في آخر الأمر، وكأني به يرى نفسه منهم وأنه ينتمي إليهم، والآن، وبعد مئة سنة على ميلاده نقول بكامل الثقة: إن هذا الشاعر كان مصيباً ومحقاً في كل ما قال عن وطنه وعن أمته، وإنه كان لسان قومه ورائدهم وحاديهم وعرّافهم. وهؤلاء هم الشعراء الكبار الذين لا يمضون ولا يذهبون من بيننا. إنهم قائمون معنا ليس بصدقهم فقط، ولا بنبوءاتهم أيضاً، وإنما بذلك الإحساس العميق الجارف الذي يحتاج إلى أزمان عديدة وأجيال كثيرة ليوّزع عليهم بالتساوي. الشاعر الكبير ثروة جمالية وتذوقية وحضارية وقومية كبرى، ولهذا نفهم الآن لماذا كانت القبائل تتزاور فيما بينها عندما يظهر شاعر ذو شأن بينهم. لقد كانوا يعرفون أنهم يولدون من جديد، أو أنهم سيولدون في كل جيل وفي كل آن ومكان أيضاً.
شاعرنا الكبير طوقان، كان حالة ثقافية فلسطينية أولاً، ذلك أنه أوقف شعره على أرضه ووطنه وشعبه، ولم يؤخذ بالغريب ولا بالوافد، ربما لأن الغريب والوافد كان مستوطناً ومحتلاً، ولم يناقش الفلاسفة ولا المفكرين، ربما لأن ذلك كان من الترف في وطن يسرق كل يوم، لنستمع إليه يقول معدداً وسائل هجرة اليهود:
يهاجر ألف.. ثم ألف مهرباً ويدخل ألفٌ سائحاً غير آيب
وألف (جواز) ثم ألف وسيلة لتسهيل ما يلقونه من مصاعب
وفي البحر آلاف.. كأنَّ عبابه وأمواجه مشحونة في المراكب
الكلام هنا يشبه الكلام العادي، كلام اشتباك، كلام فيه تقرير وتثبيت، كلام يبدو جزءاً من كلام آخر، الواقع فيه حارق وصادق حتى هذه اللحظة وحتى لحظة تحرير البلاد، هذا كلام لن يتوقف عند جدل أو سجال فكري لا معنى له.
الواقع له أولوية. وكان إبراهيم شاعر الواقع تماماً.
ولأنه شاعر الواقع تماماً، فقد كانت مفردته واقعية أيضاً، لم يتأنق شاعرنا كثيراً ولم يبحث عن الأناقة إلا ما أتت عفو الخاطر ونتيجة لصفو الطبع وتوقد القريحة. إنه أشبه بهذا بالشاعر الكبير عرار الذي ابتعد عن النخبة التي ينتمي إليها، وكان أوضح – ربما – في إعلان مواقفه وانتماءاته.
إبراهيم طوقان الذي أنشد إلى ما يقال في الأرياف وفي أوساط الثورة والثوار والذي كان مرآة واقعه وتاريخه يقول ساخراً في قصيدة كان لها وقع كبير حتى هذه اللحظة:
أنت كالاحتلال زهواً وكبراً
أنت كالانتداب عجباً وتيها
أنت كالهجرة التي فرضوها
ليس من حيلة لقومك فيها
أنت أنكى من بائع الأرض عندي
أنت أعذاره التي يدعيها
لك وجه كأنه وجه سمسار
على شرط أن يكون وجيها
وجبين مثل الجريدة لما
لم تجد كاتباً عفيفاً نزيها
وحديث فيه ابتذال احتجاج
كلما نمّقوه عاد كريها
جمعت فيه عصبة للبلايا
وأرى كل أمة تشتكيها
إن هذه القصيدة التي جمعت ما كره الشاعر وما ناضل ضده تعكس عمق ومدى
اشتباك الشاعر مع واقعه وقدرته على السخرية منها وتحويلها إلى لغة مقاومة
ولافتة ثقافية تنتشر بين الناس والجماهير والثوار.
من هنا كانت أسطورة هذا الشاعر، وكما قلت، لا بد للشاعر الكبير من أسطورة
كبيرة، فهذا الشاعر غنى للثورة وغنى للحب، فضح الخائن والسمسار والكاذب،
تنبأ وهمس وصرخ وانتحب وصلى في آن، ثم انطفأت شمعة حياته مبكراً، مات
كالأبطال تماماً، غادرنا في لحظة توهجه، انكسرت أحلامه وأحلامنا، بصَّرنا
بمأساتنا التي تقدمت إلينا بعلم دون أن ننتبه أو نستعد، كانت قصيدته قصة
مأساة معلنة دون إن نتخذ الإجراءات أبداً. إن احتفالنا به هو جزء من ردودنا
التي يجب أن تكون يوماً من الأيام. يقول شاعرنا وكأنه يقول ذلك، اليوم:
تمكن الذل من قومي فلا عجب ألا يبالوا بتقريع وتأنيب
ما أشرف العذر لو أن الوغى نثرت أشلاءهم بين مطعون ومضروب
أكثر من سبعين سنة مضت على هذا القول وما زال صحيحاً وصائباً. ويقول أيضاً، وكأنه يتحدث عن حالنا هذا اليوم:
مثلُ القول لا يؤيده الفعل أزاهير لا يفوح شذاها
لا سمت أمة دهتها خطوب أرهقتها ولا يثور فتاها
إنه يصف لنا مأساتنا المعلنة، ويقدمها لنا كما هي بشعة وسوداء وكارثية
وهو قاسٍ في ذلك فعلاً، ولكنها قسوة مبررة ومفهومة. فالوطن يضيع ويتسرب من
بين الأصابع حبة وراء أخرى دون أن نحرك ساكناً.
إن هذا الشاعر الذي لم يلتحق بصفوف الثورة فعلياً كان واحداً من الثوارِ
تماماً، وقد نصَّب نفسه ناطقاً باسمهم مصوراً أحلامهم وأحوالهم، ووفرّ لهم
سنداً شعبياً وجماهيرياً وروحياً ووجدانياً أبد الدهر، وجعل من ذلك الصامت
الثائر متكلماً أبداً، لقد رأى في الثورة خلاصه الشخصي وخلاص أمته ووطنه،
ورأى في الرجولة بمفهوميها الجسدي والإنساني الرد التاريخي الحقيقي
والمطلوب ليتجاوز اللحظة السيئة دائماً.
مات هذا الشاعر بعد أن كان شاعر عصره وفضيحته، نحتفل ليس بشخص الشاعر
فقط، وإنما بمواقفه الصادقة الواضحة المشرفة، ونحتفل بالوجدان المنتمي
للأرض والإنسان والتاريخ، ونمجد عملاً إبداعياً أصيلاً لم يداور أو يناور
أو يجامل، بل اعتلى السقف الذي يجب أن يعتلي، لنبقى من بعده مشدودين إلى
المثال والنموذج.
إبراهيم طوقان، الشاعر والإنسان، وبعد مئة عام من ميلادك، نحن نتذكرك لأنك
صورت لنا ما كنا نخشى دون أن نحذر، والآن نتذكرك لنحذر مما نخشى.
حائط البراق حائط إسلامي
تتسارع هذه الأيام إجراءات الاحتلال ضد الأرض الفلسطينية والمقدسات، وخاصة ضد الحرم القدسي الشريف، وبالذات حائط البراق، الذي هو الجدار الغربي للمسجد الأقصى، والذي يدعي الاحتلال الإسرائيلي، زوراً وبهتاناً، ملكيته لهذا الحائط الذي يسميه بـ "حائط المبكى" أو "الكوتيل".
ونعرض هنا هذه الدراسة التي أعددناها، والتي توضح بشكل علميٍ وموضوعي ونزيه، أحقية المسلمين بهذا الحائط، الذي سيبقى حائط البراق، والذي لا يحق لأحد أن يتماهى مع الصهيونية في ادعائها بملكيته، أو أن يتنازل عنه تحت أي ذريعة أو دعوى.
نظم اليهود مظاهرة في تل أبيب لمناسبة ما يسمى ذكرى تدمير الهيكل في 14 آب (أغسطس) 1929، وأتبعوها في اليوم التالي بمظاهرة كبيرة في شوارع القدس لم يسبق لها مثيل، حتى وصلوا قرب حائط البراق، وهناك رفعوا العلم الإسرائيلي، وأخذوا ينشدون النشيد الصهيوني "هاتكفا" (الأمل)، وشتموا المسلمين، وأطلقوا صيحات التحدي والاستفزاز، وقالوا "هكوتيل كوتلينو"، أي "الحائط حائطنا"، وطالبوا باستعادته، زاعمين أنه الجدار الباقي من هيكل سليمان.
وفي اليوم التالي، الذي كان ذكرى المولد النبوي الشريف، توجه أهالي القدس والقرى المحيطة بها على عادتهم لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، وبعد الصلاة خرج المصلون في مظاهرة ضمت الآلاف من المسلمين، واتجهوا نحو حائط البراق، وحطموا منضدة لليهود كانت موضوعة على الرصيف، وأحرقوا بعض الأوراق التي تحتوي على نصوص الأدعية اليهودية الموضوعة في ثقوب الحائط.
وبعد عدة أيام تواترت الأخبار عن نية الصهيونيين شن هجوم على حائط البراق واحتلاله لتثبيت حقهم في ملكيته، فتدفق مسلمو فلسطين إلى القدس لأداء صلاة الجمعة في 23 من الشهر نفسه، وهم يحملون العصي والهراوات، وحين خرج المصلون وجدوا تجمعاً صهيونياً يتحداهم، فوقعت صدامات ومواجهات عنيفة بين الطرفين، وفتحت الشرطة البريطانية النار على الجمهور العربي، ودخلت المصفحات البريطانية القدس، وفي الأيام التالية اتسعت المواجهات الدامية فشملت مختلف المدن الفلسطينية، وكانت حصيلة ما عرف باسم "ثورة البراق" مقتل 133 يهودياً وجرح 239 منهم، واستشهاد 116 مسلماً وجرح 232 شخصاً، وإلحاق أضرار كبيرة بالقرى والممتلكات.. وفي 17 حزيران من العام 1930 أعدمت سلطات الانتداب البريطاني، في سجن عكا، قادة ثورة البراق: عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، الذين خلّدهم الشاعر الشعبي نوح إبراهيم بقصيدته ذائعة الصيت "من سجن عكا طلعت جنازة ..." وهي ذاتها الأغنية التي قدمتها فرقة العاشقين الفلسطينية وانتشرت في أصقاع الدنيا. كما قام الشاعر الفلسطيني المعروف إبراهيم طوقان برثاء الشهداء الثلاثة بقصيدته المميزة "الثلاثاء الحمراء"، والتي ألقاها في حفل تأبين الشهداء في ساحة مدرسة النجاح الوطنية (جامعة النجاح) العام 1930 بمدينة نابلس، خرج على أثرها الفلسطينيون في المدينة بتظاهرة عارمة، جددت روح التحدي وبعثت الأصرار من جديد.
وأسفرت تلك المظاهرات أو ما عُرف بثورة البراق عن إنشاء جمعية "حراسة المسجد الأقصى"، التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية، واشترك المسيحيون مع قادة الحركة الوطنية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية، فانتخبت في تلك الفترة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي المسيحي التي قامت بعدة زيارات خارجية للدول العربية وبعض العواصم الأوروبية تحذر من الخطر المحدق بالمسجد الأقصى، ومحاولات اليهود بناء هيكل لهم على أنقاضه.
وعلى إثر الاضطرابات وثورة البراق، أرسلت الحكومة البريطانية لجنة للتحقيق عرفت باسم "لجنة شو"، نسبة إلى رئيسها، وبين جملة توصياته، أوصى شو بإرسال لجنة دولية للتحقيق في موضوع حقوق العرب واليهود في البراق. وفي 15 أيار من العام 1930، وافق مجلس عصبة الأمم على الأشخاص الذين تم ترشيحهم من قبل بريطانيا لعضوية اللجنة.
وصلت لجنة التحقيق الدولية إلى القدس في 19 حزيران من العام نفسه، وأقامت فيها شهراً بكامله، عقدت خلاله 23 جلسة، اتبعت خلالها الأصول القضائية المعهودة في المحاكم البريطانية، واستمعت إلى ممثلي الطرفين العربي واليهودي، وإلى 52 شاهداً (30 استدعاهم العرب و22 استدعاهم اليهود)، وأبرز الطرفان أثناء الجلسات 61 وثيقة (26 وثيقة قدمها العرب و35 وثيقة قدمها اليهود)، وكان دفاع الفريق العربي عن حقه في القدس يثير الإعجاب، واشترك في هذا الدفاع نخبة من رجالات البلاد من ذوي الاطلاع الواسع على الوضع الراهن للأماكن المقدسة.
كانت المشكلة الرئيسة التي واجهت اللجنة يومذاك تتمثل في محاولة
الجماعات الصهيونية قلب "الوضع الراهن" بالنسبة للأماكن المقدسة، إذ ركزت
جهودها منذ البداية على حائط البراق، متبعة أساليب تدريجية تصاعدية تنتهي
بها إلى ادعاء حق اليهود في ملكية "حائط المبكى"، وقد تمثلت المرحلة الأولى
من تلك الخطة بجلب اليهود الكراسي والمصابيح والستائر على غير عادتهم
السابقة، ووضع هذه الأدوات أمام الحائط ليحدثوا سابقة تمكنهم من ادعاء حق
ملكية التي يضعون عليها هذه الأدوات، ومن ثم ملكية الحائط.
ومن الوثائق التي قدمها الحاج أمين الحسيني إلى اللجنة الدولية، وثيقة ترجع
إلى زمن الحكومة المصرية، مؤرخة في 24 رمضان 1256 للهجرة (1840 ميلادية)،
موجهة من رئيس المجلس الاستشاري محمد شريف إلى أحمد آغا الدزدار، متسلم
القدس، وتمنع اليهود من تبليط الرصيف المجاور لحائط، وتحذرهم من رفع
أصواتهم وإظهار المقالات عنده، وقد شكك بعض اليهود في صحة هذه الوثيقة، بيد
أن د. أسد رستم، أستاذ التاريخ الشرقي في جامعة بيروت الأميركية، عضو
المجمع العلمي اللبناني، درس هذه الوثيقة، مستخدماً خبرة غنية ومنهجية
بحثية أصيلة، وأرسل نتيجة دراسته مزودة بالوثائق المقارنة إلى الحاج أمين
الحسيني مفتي فلسطين العام 1930، أكد له في نهايتها ما نصه: "بناء على ما
نعرفه من نوع ورقها وقاعدة خطها وأسلوب إنشائها وطريقة تنميرها وتاريخها،
وبناء على موافقة النصوص التاريخية لها ولاهتمام اليهود بأخربة الهيكل،
نرانا مضطرين أن نرجح أصليتها ترجيحاً علمياً تاماً".
ويشكل حائط البراق الجزء الجنوبي من السور الغربي للحرم القدسي الشريف، بطول حوالي (47 متراً، وارتفاع حوالي 17 متراً)، ولم يتخذه اليهود مكاناً للعبادة في أي وقت من الأوقات إلا بعد صدور وعد بلفور العام 1917.. ولم يكن هذا الحائط جزءاً مما يُسمى بـ الهيكل اليهودي، ولكن التسامح الإسلامي هو الذي مكّن اليهود من الوقوف أمامه، والبكاء على زواله، وزوال الدولة اليهودية المدّعاة قصيرة الأجل في العصور الغابرة.
وجاء في الموسوعة اليهودية، الصادرة العام 1917، أن الحائط الغربي أصبح جزءاً من التقاليد الدينية اليهودية حوالي العام 1520 للميلاد، نتيجة للهجرة اليهودية من أسبانيا، وبعد الفتح العثماني العام 1517.
وفي عهد الانتداب البريطاني على فلسطين زادت زيارات اليهود لهذا الحائط، حتى شعر المسلمون بخطرهم، ووقعت ثورة البراق بتاريخ 23/8/1929 م، والتي استشهد فيها العشرات من المسلمين، وقتل فيها عدد كبير من اليهود، واتسعت حتى شاركت فيها عدد من المدن الفلسطينية، وتمخضت الأحداث عن تشكليل لجنة دولية لتحديد حقوق المسلمين واليهود في حائط البراق، وكانت اللجنة برئاسة وزير خارجية السويد الاسبق "أليل لوفغرن"، وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري " تشارلز بارد"، وبعد تحقيق قامت به هذه اللجنة واستماعها إلى وجهتي النظر العربية الاسلامية واليهودية، وضعت تقريراً في العام 1930، قدمته إلى عصبة الامم المتحدة أبدت فيه حق المسلمين الذي لا شبهة فيه بملكية حائط البراق.
ومن اليهود الذين استمعت إليهم اللجنة الدولية الدكتور مردخاي الياش وديفيد يلين والحاخام موشي بلاو، وقدم الدكتور كورش ادلر وبعض كبار رجال اليهود في القدس مذكرة خطية تشرح وجهة النظر اليهودية بشأن حائط البراق. ومن العرب الذين استمعت إليهم اللجنة عوني عبد الهادي، وأحمد زكي باشا، ومحمد علي باشا، والشيخ اسماعيل الحافظ، وأبرزوا للجنة وثائق ومستندات عدة، وقد كانت حجج اليهود أن حائط البراق هو من بقايا الهيكل، وأن "الكوتل معرافي" لا يمكن هدمه على الإطلاق، لأن الحضور الإلهي "شكينة" مستمر على الدوام، ولذلك فإن اليهود يرغبون في الصلاة أمام هذا الحائط، وينوحون على خراب الهيكل الذي كان في (9 آب عبري). وقال اليهود ان استعمال أدوات كالمقاعد، وستار لفصل الرجال عن النساء، وخزانة تتضمن أسفار التوراة، وقناديل للطقوس، وطشت للغسيل، كان شائعاً عند الحائط، ومسموحاً به من الحكومة العثمانية قبل نشوب الحرب العالمية الأولى بمدة طويلة، ووفقاً لهذه الحجة يجب اعتبار هذه الحالة بأنها هي الحالة الراهنة. وقالوا إن المادة (15) من صك الانتداب البريطاني تقضي على الدولة المنتدبة بأن تضمن لليهود حرية العبادة عند الحائط حسب الطريقة المفروضة في شعائرهم وطقوسهم الدينية من دون أدنى تدخل من العرب، ويجب أن يمنع العرب من إزعاج اليهود أثناء صلواتهم، سواء بالمرور عند الحائط، أو بصوت الأذان، أو إقامة الذكر قرب الحائط. وعلى رغم كل هذه المطالب لم يدع اليهود ملكية الحائط، ولكنه من صنف الأملاك المقدسة التي لا يمكن الاتّجار بها.
وقال اليهود إن قصة البراق يرجع عهدها إلى عدة أجيال بعد زمن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإن البراق لم يأت ذكره في القرآن، ولا توجد قدسية للرصيف الكائن أمام الحائط لكون النبي – عليه السلام- مرّ به ليلة الاسراء، لأنه لم يرد ذكره في الكتب المقدسة، وإن المسلمين لم يطلقوا اسم البراق على الحائط إلا في السنوات الاخيرة، كما أن الدليل الرسمي للحرم القدسي الشريف الذي صدر عن المجلس الإسلامي العام 1924 لم يشر إلى قدسية خاصة للحائط، وقالوا إن وقفية حارة المغاربة لا تؤثر في قيام اليهود بفروض العبادة عند الحائط.
وعلى أساس هذه الادعاءات طلب اليهود من اللجنة أن تعترف بأن حائط المبكى (كما سموه) مكان مقدس ليهود العالم قاطبة، وأن تقرر أن لليهود الحق في التوجه الى الحائط للصلاة وفقاً لطقوسهم الدينية دون ممانعة من أحد، واتخاذ كافة التدابير الضرورية لاخلاء أملاك وقف المغاربة على أن تقبل دائرة الاوقاف الإسلامية بدلاً منها مباني جديدة في موقع لائق في القدس.
أما ملخص تصريحات أحمد زكي باشا ومحمد علي باشا التي أدليا بها نيابة عن المسلمين، فهو أن الأمة الإسلامية أعلنت رسمياً، وفي كل الظروف، عدم اعترافها بالانتداب البريطاني على فلسطين. وعليه فهي لا تريد أن تتقيد بأي نظام مستمد من هذا الانتداب، ولا الإقرار بأية نتيجة ترجع إلى ما يسمى بـ "وطن قومي لليهود"، كما قرر المسلمون أن النزاع على ملكية أماكن العبادة، أو على حقوق مدعى بها على هذه الأماكن، يجب أن يرفع إلى الهيئة المختصة دون غيرها للفصل في أمر الوقف والأماكن الإسلامية المقدسة.
أما الحجج التي أبداها الفريق الإسلامي فكانت أن الرومان طردوا اليهود من فلسطين على إثر تدمير الامبراطور "تيطس" الهيكل سنة 70 للميلاد، وإزالة آثاره من قبل الامبراطور "هدريان" سنة 135 للميلاد، ثم حكم البيزنطيون البلاد لغاية الفتح الإسلامي في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، واستمرت البلاد في حوزة العرب والمسلمين جيلاً بعد جيل باستثناء تسعين سنة حكم فيها الصليبيون، ولم تكن فلسطين في القرن السابع للميلاد عندما فتحها المسلمون يهودية، ولم يكن في القدس أي يهودي، ولم يتعرض المسلمون لليهود بأي أذى، بل أكرموهم، ولم يدّع اليهود في يوم أن لهم الحق في حائط البراق، وأن وعد بلفور العام 1917 هو السبب في وقوع الخلاف وتحريض اليهود على المطالبة بحق الصلاة أمام الحائط.
كما أن حائط البراق جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك والحرم القدسي الشريف، وهو وقْف إسلامي لعائلة "بومدين" الجزائرية المغاربية المسلمة، وليس فيه حجر واحد يعود إلى عهد الملك سليمان، والممر الكائن عند الحائط ليس طريقاً عاماً، بل أنشئ فقط لمرور سكان محلة المغاربة وغيرهم من المسلمين في ذهابهم إلى مسجد البراق، ومن ثم الى الحرم الشريف، وقد كان السماح لليهود بالسلوك إلى الحائط من قبيل التسامح في المرسوم الصادر عن إبراهيم باشا في العام 1840، وليس لأداء الصلوات.
وإن تطبيق الحالة الراهنة في الأماكن المقدسة ليست له علاقة بحائط البراق، لأن الحق في ملكيته أو الإنتفاع به عائد للمسلمين، وأما مدى التسامح فهو الذي يستطيع أصحاب البراق إبداءه، ولا يمكن أن يتجاوز الحدود التي يعينونها. وقد كان الكولونيل "سايمس" قد اعترف بهذا الأمر عندما مثل الدولة المنتدبة أمام لجنة الانتداب الدائمة في دورتها التاسعة لسنة 1926 م، حيث قال: "جرت عادة اليهود بالتوجه إلى الحائط الغربي للبكاء على عظمة إسرائيل، على أن الموقع الذي يحصل في البكاء عائد للوقف الإسلامي.. وإذا كان يسمح لليهود بالتوجه إلى هذا المكان، فلا يترتب على ذلك أن الموقع هو ملكهم". وأشار المسلمون إلى أن الدولة المنتدبة في كتابها الأبيض الذي أصدرته في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1928 اعترفت صراحة بأن الحائط الغربي والمنطقة المجاورة له ملك المسلمين خاصة.
هكذا، فإن اليهود حاولوا العام 1929 أن يؤيدوا مزاعمهم بالقوة، حتى ينفذوا نواياهم الحقيقية ووضع يدهم على جزء لا يتجزأ من الحرم الشريف، ورغم أنهم قالوا أمام اللجنة الدولية إنهم لا يدعون بحق الملكية في الحائط، فإنهم كانوا يرمون في الحقيقة إلى تحقيق هذه الغاية، ويؤكد ذلك ما جاء في دائرة المعارف الريطانية، والذي يقول: "أو من أكبر النتائج التي تلفت النظر والعناية التي تولدت من العداء نحو الساميين ظهور حركة اليقظة القومية في اليهود بمظهر سياسي، وهي الحركة التي عرفت بالصهيونية.. إن اليهود يتطلعون إلى افتداء اسرائيل، واجتماع الشعب اليهودي في فلسطين، واستعادة الدولة اليهودية، وإعاة بناء الهيكل، وإقامة العرف الداودي في القدس ثانية، وعليه أمير من نسل داود".
وقد اختممت اللجنة الدولية تقريرها بالنتيجة التالية: "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي ولهم الحق العيني فيه، لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف الإسلامي. وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة، لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي".
ولكن سلطات الاحتلال، وبعد حرب 1967، واستيلائها على القدس القديمة، هدمت حارة المغاربة، واستولت على حائط البراق مباشرة، وأنشأت ساحة كبيرة مبلطة أمام الحائط لتستوعب اليهود الذين يحضرون للصلاة أمام الحائط، وفي هذه الساحة اليوم يوجد الباب الأول للنفق الشهير الذي حفرته سلطات الاحتلال موازياً للسور الغربي للحرم الشريف بطول حوالي 488 متراً، وأوصلوه بقناة رومانية قديمة طولها 80 متراً، وفتحوا باباً ثانياً في نهاية النفق عند مدرسة الروضة الإسلامية العام 1996.
حتى بين اليهود أنفسهم، تظهر أحياناً أصوات تخلع القدسية اليهودية عن "حائط
المبكى"، وتعتبر أن لا علاقة للدين اليهودي بهذا الموقع، نظراً لعدم وجود
أية صلة بينه وبين شريعة النبي موسى، وفي أيامنا هذه، لجأ بعض اليهود
المستنيرين إلى التذكير بانتفاء تلك القدسية. وعلى سبيل المثال، نشرت
تصريحات للحاخام يهورام مزور، أمين سر مجلس اليهودية التقدمية، في العدد
الأول من مجلة "بتلم" اليهودية الصادرة عن هذا المجلس، صيف 1999، تحت عنوان
"هل من المهم تأدية الصلاة على وجه التحديد عند حائط المبكى ؟!". ومما
ذكره الحاخام مزور في هذا المقال أنه لا توجد قدسية لحائط المبكى في
الديانة اليهودية، وأنه يرفض إقامة حفلات البلوغ أو أي شعائر أخرى هناك،
وقال الحاخام مزور: "إننا نلتقي طوال ساعات اليوم أشخاصاً في هذا المكان
يؤدون الصلاة في موقع هم الذين قدسوه". وأضاف: "إن ذلك يشبه عبادة الأوثان،
وإن على مجلس الحاخامات التقدميين في إسرائيل اختيار موقع آخر لصلاة
اليهود".
وكثيرة هي الدراسات التي نشرها متخصصون يهود، وتؤكد أن الرواية التوراتية
تفتقر إلى أي دليل أثري، ومنها دراسات البروفسور اليهودي إسرائيل
فنكلشتاين، رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب، وزميله دافيد أو سسيشكين،
اللذين أكدا أن بيت المقدس لم يشيد في عهد سليمان وإنما قبله بمائة عام،
وأن هذا العهد غامض جداً، وليس هناك أي سند لما ورد في "العهد القديم"
بشأنه.
ومما سبق، يمكن استخلاص موقف واحد لا تشوبه شائبة، وليس له بديل وهو أن حائط البراق حائط اسلامي وجزء لا يتجزء من المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف. ولا يحق لأيٍ كان أن يدعي ملكيته، أو يجري عليه تغييرات تبدّل معالمه، أو أن يضفي عليه ملامح جديدة تنسف شخصيته الأصيلة.
كما لا يحق لأي أحد أن يوافق دولة الاحتلال على اجراءتها العنصرية والظالمة وفظاعاتها ضد التاريخ والمقدسات، أو أن يبارك هذه المجازر ضد حائط البراق والمقدسات الإسلامية والمسيحية. كما لا يحق لأي مسلم أو عربي أو فلسطيني، ولأي سبب كان، أن يتنازل عن حجر واحد أو ذرة تراب من حائط البراق أو غيره من المقدسات، لأن ذلك سيكون تنازلاً عن الحرم القدسي والقدس والمقدسات.
ونقدر عالياً الموقف الثابت الفلسطيني والعربي والإسلامي، الذي يدافع عن البراق والأقصى وعن كل المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، ما يجعلنا نؤكد على هذا الموقف، ونطالب بكل عوامل تعميقه وديمومته.
القصيدة أرض إرادتي
بعد ثلاثة اعتقالات إدارية، استمرت عاماً ونصف العام، وإقامة جبرية داخل البيت لمدة عام ونصف أيضاً .. يطالعنا اتفاق أوسلو، ليرفع، شكليّاً، تلك القيود عنّا، بعد أن شكّل الاتفاقُ خطوةً اعتراضيّة حدّت من اندفاعة تلك الانتفاضة الشعبية الكبرى، التي انفجرت بعبقرية، قبل اثنين وعشرين عاماً، في شهر كانون الاول، ديسمبر العظيم.
وفي هذه الذكرى، التي ينبغي سبر غورها، من جديد، كظاهرة عملت على تحييد السلاح الاحتلالي الثقيل، وجعلته عاجزاً أمام المقلاع البدائي، ونبّهت الدنيا إلى أن ثمة مَظْلَمة ما زالت تحطّ على فلسطين، وقد استباحت الحجر والشجر والبشر والطيور والرُّضَّع، فإننا نستذكر تلك الأيام الصعبة والطيّبة، المليئة بالأمل والتفاؤل والتعاضد، التي عشناها في حمأة الحواجز المشتعلة، أو داخل معسكرات الإعتقال المهولة، أو في حمل النعوش الطائرة فوق الأكتاف، في فضاء يمور بالأغنيات والجسارة .
ولأستذكر، في الاعتقال، كيف كان الشَِّعر سلاحاً نشهره في وجه الطغمة
القاتلة، وشاحذاً لهمم الشباب المتحفّز، وتأريخاً لكل لحظةٍ، كانت تشهد
انسفاح الدم الحُرّ، أو انطلاق صرخة، كأنها سيف الضوء في قلب العتمة .
وأستذكر تلك القصائد التي اجترحتُها في السجن، وقمت بتهريبها، لتطبع في
مجموعتين شعريتين هما "فضاء الأغنيات" و "زمن الصعود"، ولأكتب بعد ذلك،
ببضع سنوات، سيرة المعتقل في كتاب سردي آخر هو "رمل الأفعى"، الذي طبع سبع
طبعات مختلفة في فلسطين وخارجها .
أنصار 3
معسكر "كتسيعوت" أو "أنصار 3" آخر ما وصلت إليه عقلية فاشية عنصرية من أساليب في تنميط جزيرة عقاب صحراوية بعيدة ومنعزلة، مستفيدة من سرمدية الصحراء وأبدية الشمس، من عقاب القرّ وخناجر الحر .
أنصار 3
معسكر اعتقال، أو قُل معسكر تجميع يشبه معسكر تربلنكي أو أوشفيتس، أُريد له أن يكون تقطيراً لكل معسكرات الامبرياليات السابقة، وتركيزاً لكل تجارب إجهاض الثورات والشعوب، من خلال هذا الاحتكاك اليومي بين القاتل وضحيته، بين السجان وسجينه .
مدينة جهنمية كاملة هو معسكر "أنصار 3 "،
وكان علينا أن نطوّع أجسادنا أولاً، وكان علينا أن نحصّن إرادتنا ، وكان
علينا أن لا نرى من خلال عيوننا، وإنما من خلال هذه الأرواح التي تسكننا
لتجعل من أجسادنا لا تشعر بحرٍ أو بقرّ، ولنحتمل صحراء فلسطين الجنوبية
القارسة الموحشة.
كان علينا أن نجعل من مدينتهم الجهنمية الكاملة، وعالمهم الجديد مجرد أضحوكة ليس إلا، وقد فعلنا .
وهنا المدينة الجهنمية "الفاضلة" و "الكاملة" "أنصار 3"، الذي حقق "العالم
الجديد والشجاع"، كما تصوره الدوس هكسلي بقمعهِ ووحشيتهِ وسلبهِ روحَ
وإرادة الإنسان، وتحويله إلى مجرد هيكل عظمي دون أدنى مقومات .
ومن عجب أن العقلية الاستعمارية الامبريالية تشرب من نبع واحد؛ "أنصار 3"، هو ذاته عالم الدوس هكسلي، وهو ذاته جزيرة العقاب كما تصورها فرانز كافكا . العقلية الإمبريالية الاستعمارية تعتقد واهمة أنها تستطيع حمل الإنسان إلى نقطة يتخلّى فيها عن روحه وإرادته وأحلامه وطموحاته .. باستعمال القوة، العزل، التعذيب، القمع، زرع اليأس في النفوس، تذويب الإحساس بالتمييز، قتل الإبداع، إنهاك الجسد من أجل إنهاك الروح
الشَّعر والسجن
لا علاقة بين السجن والصحراء، و لكن الاحتلال الاسرائيلي – ككل محتل مهووس – اختار أن يجعل سجن "كتسيعوت" فى قلب صحراء النقب! و هكذا سمح لنا المحتل دون، أن يدري أن نرى شمس الله في انبجاسها المذهل صباحاً ، وفي موكبها الجليل مساءً ، وسمح لنا بغبائه أن نرى السماء السرمدية و نجومها الباسمات. هكذا سمح لنا المحتل باستعلائه وعنجهيته ، نحن معتقلي الانتفاضة الكبرى عام 87 ، أن نتابع حركة الغيوم القليلة التي تمر فوق خيامنا ، فنحكي عن هارون الرشيد الذي امتلك مخزونَ الغيوم يوماً ، و ننشد ما قاله درويش عن نبيذ السحاب و النهاوند ، و سمح لنا أن نتابع طيور الدوري التي تقف على السياج الفاصل بين كل خيمة وخيمة. كان هناك طائر دوري صرت أميّزه ، كان كبير الحجم، كثير الحركة ، عالي الصوت ، جناحه مائل بعض الشئ ، حتى أنه لا يبتعد كثيراً عن خيمتنا ، صار صديقنا ، نطعمه و نحكي عنه ومعه، و صار له اسم مثلنا. واندفع معتقل آخر لزرع بذرة بطيخ فى جوف جزرة وعلّقها على السياج لتستند عليه. صار لدينا عصفور و نبتة! هكذا هم الفلسطينيون، يحبون النبات والطيور. و كان الشَّعر يأتي هكذا أيضاً ، من جوف الصحراء العميق و المديد و المخيف ، ومن أشيائها القليلة و المتقشفة ، من صمتها ورعبها وأسرارها، في الليل وفي النهار ، كان يأتي الشَّعر ، من غناء المعتقلين عن البيت المُضاء البعيد، والموجة ذات الرائحة الأليفة ، و البيدر الذي استحق الحصاد ، ومن الحقل الذي يقطر عسلاً في الظهاري الّلافحة ، من الأمهات المنتظرات اللواتي يغزلن الحزن و الدمع بالصوف، من أجل إبن لا تدرى في أي سجن هو .
كان الشَّعر يأتي، لأن سحنات الجنود الذين يقفون على البوابات و الأبراج العالية، كانت مغطّاة بالزجاج و الأقشمة السوداء ، بدون أسماء ولا نكات ولا ذكريات ، ولكن بأسلحه لها رائحة الكبريت و الأحماض والموت!
كنت أتسابق مع سجّاني على جسدي، الذي يعتقد أنه نقطة ضعفى ، فيما كنت أفرد بساط الشَّعر الطائر ، أعلو و أكبر وأمتدّ ، أطير لأرى أيامي القادمة ، أبنائي الذين سأنجبهم ، كتبي التي سأنشرها ، المدن التي سأزورها ، العربات التي ستحمل المحتل بعيداً عن وطني. كان السجّان يضغط على ما يعتقد أنه ضعفي ، بالضرب مرّة، وبالحبس الإنفرادي مرّة، بالغاز أو بالجوع أو بالتخويف. أما أنا ، فأذهب إلى قصيدتي، أسمّي أشيائي وأرتبها، أكتشف أن لي ذخراً لا ينتهى من النماذج العظيمة التي لا تتكرر. كانت القصيدة تتحدّر منّي لأكتشف أَنني أبني قصيدتي على ملايين القصائد التى قيلت بالعربية ، فأفرح بأنني أعلى من سجّاني ومن سجنه، وأن قصيدتى مثل صحراء النقب، أكبر من أن تُمتلك، وأكبر من أن تُدرك أو يُسبر غورها العميق.
وكما في غناء المعتقلين أو صلواتهم أو تكبيراتهم، فى مواجهة اقتحام الجنود، الذي كان يتكرر ، فقد فعلت مثلهم أيضاً. ففي اقتحام ما ، هجم هؤلاء ببنادقهم و عصيهم و خراطيم الغاز المُسيل للعار والدموع، وأقنعة الزجاج وصفارات الاستنفار التى دوّت فى أرجاء المعتقل، كُنّا عُزَّلاً من كل شئ، ولكننا كنا نكتب، وكنا نُنسّق فيما بيننا المواقف النضالية و السياسية ، كنا ندير شئوننا و نتصل بالخارج بطرق كثيرة، كان لنا موقف وكان لنا رأيٌ، وكان اقتحامهم لمصادرة أقلامنا ودفاترنا و مواقفنا ! لم أشعر بنفسي إلاّ وقد وقفت وسط الخيمة واندفعتُ بقصيدة مرتجلة أردُّ بها البنادق و العصي والغاز والوحشية . كانت تلك أول مرة أقول فيها الشَّعر مرتجلاً، هكذا ، تصرفت كشاعر عربي تماماً ، منذ عمرو بن ودّ العامري وحتى يومنا هذا. هذه هي القصيدة العربية، قصيدة القلب المترع والسقف العالي و الفروسية التي لا تحسب الحساب. شَّعرنا فيه مطلق، وفيه رجولة، وفيه قوة. هذا هو تراثنا، ولا عاش من يتنكر لتراثه. وقد نشرت تلك القصيدة في ديوان " فضاء الاغنيات " الذي كتبته تحت خيمة وبين معتقلين كانوا يشاركوني الكتابة ، بما يقولون وبما يفعلون. هناك في السجن، يشفّ الإنسان ويرقّ، ويرى فى إخوانه ما لا يستطيع رؤيتة خارج السجن. كانوا في معظمهم رائعين أقوياء وقادرين. كنت بحاجة إلى شجاعتهم وابتساماتهم وقدرتهم على التكيّف، كنت أرغب في أن أرى قلوبهم وألمس مشاعرهم التي كانت تقوّيني وتدعمني، ولهذا عندما كتبت عنهم، لأني أكتب عن نفسي أيضاً، في ذلك الديوان الذى دائماً أنشدّ إليه، سكبت كل نأمة قيلت فى ذلك المعتقل، ورسمت مشاعري ومشاعر زملائي وأصدقائى هناك؛ الحرية والوطن الواسع والحياة بدون احتلال، والفضاء المزدحم بالعصافير والأزهار والأطفال. احتفلت بالديوان فى المعتقل معهم، واحتفلوا به معي كأنه لهم، وقام معتقل بكتابة مقدمه له، قرأها الآخرون، وأحسسنا جميعاً أن هذا الديوان هو ديوان كل المعتقلين. وفي الديوان كتبت أو كتبوا أسماء قرى فلسطين، وأسماء أشجارها وطيورها، وتحدثنا عن بيوتها و نسائها و طرقاتها وأزقتها، كنا نريد أن نسمّي وطننا من جديد.
ما الذي يفعله الشَّعر فينا ؟ عندما كنت هناك، تحت الخيمة، فى ذلك السجن الردئ عرفت ما معنى الشعر وما الذي يفعله فينا. كان أشبه بالهويه او بالتعريف، كان أشبه بالمميز والمحدد لي، بعيداً عن أولئك الذين لا وجوه لهم ولا أسماء، كان أشبه بالتواصل مع طائر الدوري مكسور الجناح، الذي يبدو أنه لا يستطيع مغادرة خيمتنا. وعندما تصاعدت نبتة البطيخ وامتدت على طول السياج باتجاه الشمس ، شعرت أن قصيدتى تشبه تلك النبتة. عندما رأى قائد المعتقل الصهيوني نبتة البطيخ وهي تتمدد من قلب الجزرة، لم ير الحياة التى تكسر وحشة المعتقل، ولم ير اللونين الأخضر والبرتقالي على خلفية كآبة السياج ورماده ، كل ما رآه أن هذا فرحة المعتقلين بتأسيس تاريخ لهم هنا. و بوحشية بالغة ، نزع القائد الصهيوني الجزرة ورماها في الممر الرملي بين الخيام. شعر كل منا أن ما فعله القائد الصهيونى هو إهانة شخصية فردية له. في اليوم التالي، وعندما حطّ عصفور الدوري على السياج، لم يجد نبتة البطيخ التي كان يمرغ فيها منقاره، رفرف بجناحه المكسور، غرد كثيراً، مشى على طول السياج، ظل يروح و يجئ وهو يصيح، كان مشهداً فريداً بالنسبة لي. ليس لي الا القصيدة، هي بيتي و مكاني وهي مائدتي وهي طعامي. القصيدة ترد على قسوة العالم و فظاظته وفانتازيته، القصيدة بالنسبة لي توازن واعتدال وواسطة، تعلمت ذلك كله فى السجن. عندما حشرنى المحتل فى زنزانة انفرادية، حشر في زنزانة أخرى شاعر آخر، ولما بدأ المحتل بضربنا، انفجر كلانا بالشعر، كنا نصمد بالشاعر، وكنا نحتفل بشَّعر لا يفهمه المحتل، وكأنه تعويذة السحر او طوطم الحكاية التي تحكى كل الاجيال . كانت القصيدة فى تلك اللحظة ناري التي اصطلي بها ودثاري الذي اتغطي به. المحتل الذي كان يضربني اعتقد أنني أتوجع فاظهر اغتباطه، ولكن لما عرف أننى وصديقي ننطق بالشَّعر جن جنونه. مكثت في الزنزانه الانفرادية أكثر من سبعين يوماً، لم ينقذنى فيها سوى الله والشعر. والشَّعر اكتشافات متواصلة، الشعر ليس لغة فقط ، إنه عوالم وراء عوالم ، ابتكار فرح ، فيه زهو وعجب، فيه طرب وحركة، فيه قوة خفية. لهذا، لم يجد كفّار مكة من صفة سوى صفة الشاعر أو المجنون يلصقونها بسـيد الخلق ، لأن الشاعر لا يبتعد كثيراً عن المجنون، ولأن كلاهما – في لحظة ما _ يستطيعان رؤية ما لا يُرى، و يقولان مالا يُقال.
هناك في السجن، حيث يقايضني المحتل بحرية جسدي، كانت القصيدة أرض إرادتى، وفضاء قلبي الذي لا يستطيع أي محتل على وجه الكوكب كله أن يحرمني إياها. والحرية أقوى!
الفلسطيني متناسقِ :الى ياسر عرفات في ذكرى قيامته الدائمة
ألَم يَنتَهُوا بَعدُ!؟
هذي المَزَامِيرُ مَاءٌ،
وثمَّةَ برق بهذي الغُيومِ،
وصوتك أَحلامُ مَن لَم يَعودُوا..
جَلسنا على مَفرقِ الشَّمسِ، كانت تَجيءُ لَنا بالسَّنابلِ والزَّهرِ، والبيتُ في بَيتِ شِعرٍ قَديمٍ
يَليقُ بِأحجارِهِ المُعشِبات، ولَم يَعرفِ الإخوةُ السَّاهرونَ السَّواحلَ
في شَهوةِ النَّائِمات اللَّواتي صبرنَ، وأَعددنَ ثَوبَ الحِدادِ
الطَّويل.
وكانت أَباريقُكَ ؛ اللَّيلُ والنَّايُ تَسقي الحزينَ.. وتَربطُ قَلبَيْهِ بالوَطنِ الغائمِ المُهتَدي بالقَذائفِ والمَوتِ كي لا تَكونَ الحَياةُ كما رَسَمُوها على صَفحةِ الرَّملِ.. ظِلاًّ على الجَسدِ المستَطيل.
خَرَجْتَ من الأَخْذ، كانَ التناقضُ في شَاهدِ الحقِّ أعني المُخيّمَ،
في بحثهِ عن فضاءِ الكرومِ، وعاكستَ نومَ الطَّواويسِ، أبصرتَ أن المسدسَ
قبل الغصونِ، إذا التبسَ القاتلون.. ولو أنّهم أخذوا الإصبعين
لما كنتَ في هاجسِ الشِّعرِ رمزاً، وما لَبِسَتْ زهرةُ البرقِ تيجانَها،
إنّما خانكَ الخائنونَ الذين إذا ذُكِرَتْ أرضُنا.. انْذَهلوا.. ثم ما لم
يكن كان بالرّحمِ والرُّوح.. وما كنتَ تُعطي الأمانَ إذا لم يكن غَدُنا..
في الجليل.
أرادوكَ، في الصَّحَراءِ، الطريدَ إذا لم تكن راعياً للقطيعِ، وسقّاءَ ماءٍ، فإنْ أزهرَ الرَّحْمُ أو ضَوَّعَ الفَحْمُ فالسَّهْمُ في الظَّهرِ حتى يضيعَ المدى والدَّليل.
وكَم بُحَّ صَوتُ المُنادِي، ولَم يَسمَعِ الأَقربونَ.. دُفِنْتَ وقُمتَ وأَبعَدَكَ اللَّيلُ حتَّى يَنامَ، وقُمتَ كما كنتَ تَنفُضُ لَحماً وظُلماً ولمَّا خَرجتَ : إلى أَينَ ؟ قُلتَ : إِلى مَاسَةِ المُستَحيل.
وكيفَ لنا بعد هذا الجنونِ الذي اجترحَ العَقلَ أنْ نفقِدَ التُّرْسَ، والرُّمحُ من كلِّ فجٍّ يجيءُ، وفينا، على عَصْفِنا، ألفُ جُرْحٍ بِكعْبِ الأخيل ؟
وها أنتَ في حَمأَةِ السُّورِ، في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ؛جَنينٌ من النُّورِ خَلفَ الجِدارِ الحَديدِ هنا ابتدأَ الحَمْلُ ؛ من نُطفةِ الرَّايةِ المُِشتَهاةِ على حَجرِ الطِّفلِ والبُندقيَّةِ، والقَوسُ يُكمِلُ زينَتَهُ للمياهِ وللسَّيفِ يَفتحُ للعائدينَ الجوامعَ، والبُرجُ تَنثالُ أَجراسُهُ السَّلسَبيل.
وَمنْ ذا الذي ظَلَّ في العينِ إنْ أيقَظَ الصَّـقْرَ أو صَدَّعَ الصَّدْرَ ؟ حطّوا وراحوا ؛ المغولُ التَّتارُ الفِرنجةُ والفُرْسُ والسِّيرُ والقُمْصُ والرُّومُ والفُونسُ، والتَّائهُ الجِبْسُ والبُرْصُ والخُرْسُ والكِنْجُ والبُصُّ جاءوا وزالوا وكانوا وآلوا كأنْ لم يكونوا! دخيلاً تَرَسَّم خَطْوَ الدَّخيلْ.
نثارُ الصِّغارِ المضيءُ مضى للبعيدِ، وأشعلَ نارَ الهدايةِ في النَّطْعِ من صَدرِنا ينبعُ الكهرمانُ ومن أرضِنا يطلعُ السنديانُ ونروي الحكايات حتى يجيءَ إلينا الزمانُ.. وأنتَ الوحيدُ الذي قال : لا للذي يمسكُ الكوكبَ المحتفي بالدماءِ.. ورغمَ الرمادِ المحيطِ جمعتَ المواقدَ صوّحتَ في الصَّمتِ ما أطبقَ الطائراتِ على الأرجوان.. ومن عتمةِ القصفِ نبدأ، حتى نرى.. كيف يمضي، بعيداً دخانُ الرحيل.
لدينا شبابيكُ وردٍ وأحجارُ كُحلٍ وغزلانُ موجٍ وأبناءُ حقلٍ وحسرةُ أمٍّ.. تنادي على شجرٍ لا يميل.
كأَنَّا ابتدأنا من الموتِ حتَّى نُرنِّقَهُ بالحَياةِ، وقُلنا :
تَعالوا إِلى بَهجةِ الانفِجارِ، وكانت تِلالُ الشَّواهدِ أَنَّى خَطونا
تُلاحقُنا.. لَم نَقِفْ، وانطلَقنا معَ الجُرحِ والنَّوحِ، فينا المُلوحَةُ
والنَّحلُ والدَّارُ والرَّحلُ والرَّملُ والسَّهلُ
والنَّارُ والنَّخلُ كلُّ المُغنِّينَ فينا، ونَهرُ الفَجائعِ، والكَشفُ، والصُّبحُ في بُرعمِ اللَّوزِ واللّيلُ مُحتَشدٌ بالعَويل.
غَمَستَ أَصابِعَكَ البِيضَ في جَفنَةِ الثَّأرِ، كانوا وراءَ المضَاربِ مُلتَحفينَ الخَناجرَ، أَبناءُ أَعمامِكَ الصَّامِتُونَ، الَّذينَ تَوالَوا على لَحمِكَ المَجدَليِّ، اختَفوا عندما جَاءَتِ الأَرضُ في ثَوبِها المَقدسيِّ، وَحُمِّلْتَ ما لا يُطاقُ، ولكنَّكَ الكَبشُ يُفدِي بكَ اللَّهُ أَبناءَهُ الطَّيِّبين، وأَنْ لا يَكونَ عَلينا السَّبيل..
أعدّوا المراثيَ ألفاً بلا مُلْصَقٍ للجدارِ ولو كان صوفُك منهم تَبِعتَ المليكَ الذي ضَلَّ.. يوم الغداة، ولو كان خُبزك من بيتهم، كنتَ عبداً يسوق السُّعَاة، ولو كان سيفُك من غمدِهم كنتَ حارسَ ما ملكوا من لُهاة، ولو كنتَ منهم لأصبحتَ في عرشك السَّيِّد المُستعار.. ولكنَّكَ الأيْلُ من أرضِ كنعانَ لا يغمض الجفنَ حتى تعودَ السَّما للهديل.
كفى أنّك، الآنَ، بعضُ الذي باركَ اللهُ طيناً من القُدسِ تلكَ التي شَرِبَتْ دمعةَ النارِ والأولياءِ وهذي بلادُكَ منذُ الخليقةِ كوّنها الربُّ حتى تكونَ الوصيفةَ للحُسْنِ والخُلدِ، جنَّتهُ في الكواكبِ أُمثولةً للتي سوفَ يعبرها الأنبياءُ على سُرُرٍ تحت ظلٍّ ظليل.
ومن زمنٍ يصطفيكَ الذي يصطفي الشُّهداءَ لتكتبَ إلياذةَ الناسِ بالخيلِ حتى تكون البسيطةُ مطهمةً بالصَّهيلِ.
وفي كل برٍّ سهامٌ تشير إلى بيتكَ السَّاحليّ، هنا يهبطُ النجمُ في جمرةِ الكَسْتَناءْ وبنتٌ تُعيد مناديلَها للنِّداءْ وترجع من نَبْعِها دون ماءْ.. وفي بيتك النرجسيِ الضفافُ التي غمرتْ أغنياتِ النساءِ اللواتي عَجَنَّ القرنفلَ بالزَّنجبيل.
تُحاصِرُكَ الأَرضُ ؟ هذا فضاءُ الأَغاني، ومِعراجُ أَجدادِنا للسَّماءِ، وصوتُ النَّبيِّ على خَشبِ الزَّيتِ اِضْرِبْ بِقَبضَتِكَ البَابَ تَصحُو القِبابُ وتَبقَى على عَهدِها للقَتيل..
وهذي طبولُكَ خلفَ التِّلالِ، وطيرُ العقاب على كتفِ الغيمِ، والعُرْسُ يبدأُ عمّا قليل.
تعليقات
إرسال تعليق