القائمة الرئيسية

الصفحات

قصائد المتوكل طه الوطنية : القدس، رفح، ارحلوا، قبل الحرب

قصائد المتوكل طه الوطنية : القدس، رفح، ارحلوا، قبل الحرب


تُجسّد قصائد المتوكل طه الوطنية الصوت الشعري الفلسطيني الذي لا يهدأ في وجه الاحتلال والنسيان، حيث تفيض نصوصه بالانتماء، والمقاومة، واستحضار التاريخ والهوية. يُعد المتوكل طه من أبرز شعراء القضية الفلسطينية في العصر الحديث، وقد تميّزت قصائده بقدرتها على الجمع بين العاطفة الوطنية والالتزام السياسي، ما جعلها تحظى بمكانة بارزة في الأدب الفلسطيني المعاصر. في هذا المقال، نلقي الضوء على أبرز القصائد الوطنية التي كتبها المتوكل طه، ونتناول القضايا التي عالجها، من الأرض والكرامة، إلى القدس واللاجئين، في لغة شعرية مفعمة بالصدق والقوة

قصائد المتوكل طه الوطنية


 القدس اسم عاشقة 

من ساحلِ البحرِ حتى قُدْسِ أَقْداسي    تمتدُّ شمسي وأشجاري وأعراسي

هنا القبابُ على الآفاقِ ساجدةٌ    بِتبْرِها وهناك الموجُ بالماسِ

هنا تُشرّعُ خيلُ اللُّهِ أجنحةً   ويعتلي حمأةَ البُركانِ مِتْراسي

ويرْجِعُ العيدُ في المحرابِ إنْ صَدَحتْ  مآذنُ القُدسِ في ميلادِ أجراسي

كتبتُ عُمري على زيتون دمعتنا   فأزهرت في يراعي شمسُ أطلاسي

يا أرضَ كنعان إنَّ الليلَ مُتَّصِلٌ    فَأَرْجعي لدروبِ الفتحِ أفْراسي

ووحّدي الأَهلَ، كادَ الضدُّ يقتُلني   هذا كُلَيْبٌ وهذي أُختُ جسّاسِ

وتلكَ داحسُ والغبراءُ قد بُعِثَتْ   مع البسوسِ، على رِجْسٍ وَوسْواسِ

وهذهِ في رُبى صِفّينَ قد جَمعَتْ   أبناءَ عَمٍّ على نابٍ وأضراسِ

فأوقفي غَبشَ الأحقادِ آن لنا   أنْ نُفْرِغَ الكاسَ، إنّي أُترِعَت كاسي

أنا ابنُ عبدِ مَنافٍ حينِ تندهُني    فيستجيبُ عليٌّ وابنُ عبّاسِ

والفاطميون أخوالي إذا هَدَلتْ   أُمّي، يكون جميعُ القوم جُلاّسي

هذي عباءَتُكِ الشقراءُ سابحةً   في الغيم تهمي وروداً فوق أقواسي

ويهتف النَخْلُ في الريحِ التي عَبقت  خُذْني لبيّارةِ الليمونِ والآسِ

يبوسُ! قد فَهَقَتْ في الشاطئين لنا   نارٌ تُضيء ذُرى يافا وعمْواسِ

أنا المحبَةُ والإسلامُ، عارمةٌ     مراكبي، وعلى الراياتِ نبراسي

أنا الشآميُّ والنيلُ الذي عرفوا..   وابنُ العراقِ وكلُّ الخَلْقِ مِن ناسي

أنا البدايةُ والطينُ الذي اشتعلتْ  به النجومُ، فذابَتْ فوق أنفاسي

أنا المحيطُ، وسدُّ الماء إِنْ عطشت     هذي المجرّاتُ، والأوراسُ أوراسي

والأبجديةُ كانت بعضَ ما نَطَقتْ    به حروفي، فكان البرقُ كُرّاسي

أنا السفائنُ من قرطاج إنْ مَخَرتْ     على الضفافِ، وحقلي باذخٌ راسي

أنا القناديلُ، لا فجرٌ سيُشرق في  هذا الزمانِ، سوى من زيتِ قرطاسي

أنا معلّقةُ الصحراء باقيةٌ   ما دام سِحْري على حِبْري وأطراسي

أنا المدائنُ من صَنْعا إلى حلبٍ   وهي الحضارةُ من نجدٍ لِمِكْنَاسِ

أنا عروسُ عبابِ الشّهدِ في بلدٍ   يمتدُّ من أخمص المرجانِ للراسِ

أنا يبوسُ، وهذا اسمٌ لعاشقةٍ     وجنّةٍ جمعَتْ نايي وقُدّاسي

أنا على شَفَةِ الدّنيا إذا ابتسمت  وخافقي وترٌ من عهد حُوراسِ

أنا البراقُ، فمَنْ يرقى إلى نَسَبي  دربي السماءُ وزادي ملءُ أكياسي

فتحتُ بابي على العشاقِ فاجتمعوا   حولي؛ الحجازيُّ والنوبيُّ والفاسي

قدّمتُ مائدةَ الأنوارِ فامتلأت   كأسُ الرؤى بالرّضا.. من جَمْرةِ الطّاسِ

يا قُدْسُ! هذا دمي الناريُّ فاغتسلي  وهذه عاصفاتي تحت أرماسي

إني أُحّبكِ يا قُدْسَ البلادِ هوىً    يفوقُ دَفْقةَ أضلاعي وإحساسي

فكلّما ذكروا عينيكِ، سيدتي     أرى الفراديسَ في مرآةِ أحْدَاسي

يا اسمَ الشقائقِ والريحانِ، عابثةً     به الفراشاتُ أُنْساً فوق إيناسِ

يعزُّ ياقدسُ أنْ تبكي على كتفي     والأنبياءُ على أعتاب نَخّاسِ

يعزُّ، لكننّا بالحقِّ نُرْجِعُها     قُدْساً تقولُ: هنا أهلي وحُرّاسي




قصيدة رفـح


مهما استباحوا بأرضِ الله واجترحوا     لن نرفعَ الرايةَ البيـضاءَ يا رفحُ
ولو أعادوا لنا القتلى بِمُعجزةٍ            وأعذر الشهداءُ الموتَ أو صفحوا
لا، لن نُسامحَ مَنْ حلّوا بِمجزرةٍ         وإنْ أقاموا ؛ فللذّبحِ الذي ذبحوا
وكيف ننسى شظايا زهرةٍ صُلِيَتْ      وعِرْضَ مَنْ ولِدَتـْها حينما سَفحوا ؟
وهل نـجاورُ مَنْ بالصَّهْدِ أضرَمها        بيارةً لشروقِ الشَمسِ تنفتحُ ؟
ومَنْ يُسالِمُ مَنْ لم يُبْقِ نافذةً        لخفقةِ النجمِ والموجِ الذي جرحوا ؟
هم الذين أتوا من عَتْمِ ظالمةٍ       وقد أناخوا على نَحْري .. وقد جمحوا
وقلتُ : أحتملُ الأغرابَ إنْ حَسُنَتْ    أقدامُهم ، في فضاءِ البيتِ ، أو جنحوا
لن يُحسنوا أبداً ، هذا إذا ارتكسوا       فكيف إنْ سُعِّروا يوماً وإنْ شَطَحوا ؟
وَرَوَّغوا السُّمَ ، وارتدّوا لشأفَتهم         دوماً ، وفي فتنةِ الأغيارِ قد نَفَحوا
وكم رسولٍ لطِيبِ الدّهرِ قال ، وما         رأى غيرَ طعنِ الظّهرِ يجتَلحُ
وأحْفَروا مثلَ مَنْ راحوا بِخَيبتهم         وإنْ بقوا ؛ فهو قبرٌ عندنا مُنِحوا
لسنا مَدَقَّ خيولِ الطّامعين ، وهل      عَادَتْ إليهم على نَصرٍ ، وهل فَرِحُوا !
من غزةَ الباسلين الرملُ زلزلةٌ         وفي جنينَ رأوا ما كان وافتُضِحوا
هُمُ الذين ابتدوا دَهْماً وعربدةً       فليجرعوا الردَّ قَاصفاً أينما قُبِحوا
لسوف نبقى كما الإسمِ الذي صعدتْ     إليه أعراسُنا .. والمُبتَلى فَرِحُ
لا لن يناموا ، وإنْ ناموا على رَهَبٍ      وخلفَ كلّ جدارٍ عندهم شَبحُ
يا لعنةَ الزمنِ الأعمى كفى صَلفاً      أكُلما زاد دمعي .. كلّما سَبحوا ؟
لربّما زادت الأيتامُ .. وانكشفت     هذي البيوتُ عَراءً ، والمدى نطحوا
وربّما اغتصَبوا شِبراً على جسدي      لكنّهم ، غيرَ هذا العارِ ، ما رَبِحوا
فليشربِ العالَمُ الفاشيُّ ثانيةً       دمي النبيَّ من الكأس الذي طفحوا


 حوار بسيط قبل الحرب

 

يضحكُ متّكِئاً لا يرى غيرَ صورتِه في الطفولةِ..
كانت يدٌ في يدٍ،
وأبوهُ يقودُ خُطاهُ على الليلِ
والحربُ تقدَحُ في الرأسِ،
والنازحون يخبُّونَ نحوَ الجنوبِ،
إلى أن توسَّدَ كابوسَهُ كاملاً في العراءْ.
يذْكُرُ أنَّ المخيَّمَ لم يتَّسِعْ قمَراً،
فمشوا في الرمالْ،
والوحْلُ مأكَلُهُم في الصباحِ مع الحسراتِ،
ومشرَبُهم في العِشاءِ.
وصادَفَ أنَّ الربيعَ رمادٌ لبعضِ العيونِ،
وقد يسرقُ الجَفنُ عينَ الغزالِ،
وقد يتوقَّفُ في عتمةٍ من عَماءْ.
لم يتزوّجْ إلى أن تجرّأَ بعد الثلاثينَ، من جارةٍ
فقدت ساقَها بالشظايا،
فكانت بعكّازها تذرعُ الغرفتَينِ،
فيعرف، بالصوت، أين تروحُ وأين تجيءُ،
كأنَّ المواجعَ بُوصلةٌ للنداءِ.
وصارَ له صِبْيَةٌ صاخبونَ،
فيهجسُ: يكبرُ أولادُنا، فنعودُ إلى البيتِ.
هذا الصفيحُ المؤقَّتُ، لن يحجبَ الدربَ
عن قريةٍ بقيَتْ بين أشجارِها للغناءِ.
وقد كَبروا كلُّهم،
غير أن الدروبَ توزِّعُ مَن هاجَروا في البعيدِ،
فظلَّ وحيداً، إلى جانب امرأةٍ في الخواتيمِ،
باتَ لهم منزلٌ في الضواحي،
وما عادَ يَرْفَعُ فوقَ المآذِنِ صوتَ البلابلِ،
قد هدَّموا الجامعَ اللبنيَّ بآخر حربٍ،
فصار يُصَلّي وحيداً،
وثمَّةَ دمعٌ نبيٌّ يُبَلِّلُ لحيتَهُ بالدعاءِ.
وقبل الحروب الثلاثِ؛
تراهُ يُفَكِّكُ أخبارَ مذياعِهِ، ثم يبكي،
فقد أدركَتْهُ الرؤى،
فالرُعاةُ يبيعونَ أغنامَهم للذئابِ،
ولم يبْقَ غيرُ النّباحِ المدجَّجِ،
إنْ طاشَ فوق السرابِ على كَذِبٍ،
بالعواءِ.
يُنادي على كلِّ أبنائِهِ الغائبينَ،
فتبكي العجوزُ على خَرَفٍ هَفَّ في عقْلِهِ،
غيرَ أنَّ النداءَ اشتياقٌ،
ورغبةُ جَدٍّ ليحضِنَ أحفادَه الغامضين،
قُبَيْلَ الذَّهابِ إلى غفوةٍ في الفناءْ.
تقولُ العجوزُ لجاراتها، ذات عصرٍ،
وشَهدُ الغروبِ يذوبُ على أُفُقٍ في الفضاءِ:
تزوَّجْتُ، وانتَظَرَ الزوجُ تفاحةَ الرَّحِمِ المشتهاةِ،
ولكنها سقَطَتْ في الطريقِ،
وبعد ثلاثِ سنينَ، سمِعْتُ مع الفجر زوجي يناجي الإلهَ..
انكسرتُ، ولكنني رُحْتُ للبحر، خاطَبْتُهُ،
وانغمَسْتُ بأزرَقِهِ،
وارتميتُ على شاطئ النخلتينِ،
غفوتُ،
ومرّتْ شهورٌ تكوّرْتُ فيها،
ابتهجتُ،
فَرَبَّتَ زوجي على أمِّ رأسي،
وحين تفاجأتُ بالوضْعِ جاءَ المخاضُ بطفلٍ
له طلعةُ الشمسِ
ما بينَ ماءٍ وماءْ.
وقالت: شهدتُ بعينيَّ،
في ليلةٍ ذاتِ نجمٍ يتيمٍ،
بأنّ غريباً تسلّل للدارِ، قلتُ: سأمنَعُهُ،
كان زوجي مريضاً، ويكتُمُ آهاتِهِ في المواقدِ،
فتّحتُ بابي، فطالَعَني البحرُ يحملُ باقةَ وردٍ
ويضحكُ..
ساءلتُه، فأجاب: لقد جاء سرّاً يعودُ المريضَ،
وينْثُرُ سُكّرَهُ للمساءِ.
وتسألُ: يا مَن ترى العشبَ بين الأصابعِ،
كيف تبرْعَمَ رُمّانُ ناصيةٍ في الجحيم؟
وبستانُ نارٍ تجلّى شقائقَ ضوءٍ؟
وسالَتْ على فضّةِ النورِ أرواحُ مَن صعدوا للخلودِ،
وظلّوا على صخرةٍ في السماءْ؟
كان لنا مقعدان من القشِّ،
نشربُ شاياً،
ويأتي العديدُ من الأصدقاء،
نردُّ السلامَ على الذاهبينَ،
ويفترشُ البدرُ شارعَنا،
ثم نعبرُ في آخرِ الليلِ للنومِ،
والصبيةُ اللاعبون على ملعبِ الحربِ..
حتى ترى بينهم قاتلاً لا يموتُ،
وبضعةَ مَن سقطوا بالرصاصِ..
ولا زال ليلُ المخيَّمِ يحملُ عصفورَهُ للدماءْ.
وأذْكُرُ أني شَغُفْتُ بإحدى الليالي،
فألصقْتُ خَدّي على صدْرِهِ،
فانثنى مثلَ فَحْلِ الحَمامِ، وفَحَّ على لَفحةٍ من غواءْ..
وتمتَمَ: هل أنتِ سمراءُ مثلُ القرنفُلِ؟
أمْ مثلُ بدرِ التمامِ وصحنِ اللباءْ؟
ضحكتُ، ونِمْتُ، ولمّا يَزَلْ سائلاً عن ملامحِ وجهي،
وينْفُثُ فضَّتَهُ في الهواء.
أقولُ لَهُ: إن كفّيكَ تعرِفُ خارطَتي، في طرائقها للحنانِ،
وتقرأُ ما تحت جلدي، فَصِفْني إذا ما استطعتَ،
فقال: أيا عسلاً قد تجمَّدَ في جرّةِ الطّينِ،
يا بابَ قلبِ السجينِ،
أحبُّكِ من أول الشهرِ حتى بلوغِ الثلاثينَ،
إنْ كنتُ داءً فأنتِ الدواءُ.. ويضحكُ،
قلتُ: كفى، أنتَ شيخٌ كبيرٌ، وليس لنا فسحةٌ في الشقاءْ..
فيهزأُ منّي: أنا حاصدُ السنبلاتِ
اللواتي أمَلْنَ قلوبَ السِّباعِ،
وصائدُ قُبّرةِ الأشقياءْ.
وكنتُ زرعتُ على مدخل الدار داليَةً،
كي يكونَ المخيّمُ أخضرَ، ينقلني للبلادِ،
وأنْبَتُّ ريحانةً كي تكونَ الوسائدُ عابقةً بالحَبَقْ.
كان زوجيَ يَشْتَمُّ رائحةً حين يعبرُ،
ثم يمدُّ يداً في الفراغ، ليقطفَ أوراقَها،
غير أنّ الأصيصَ تمرَّغَ في كفِّه أو نَطَقْ.
ربّما اختَلَجَ الشيخُ، أو هزَّ رأساً،
فقلتُ؛ لقد غصَّ بالمِلْحِ من دمْعِهِ واختَنَقْ.
ظلَّ يرمقُني ثمّ عاتَبَني أنّني عُدْتُ،
حيثُ الممرُّ الطويلُ إلى بيتِهِ،
حين كان يُلاحِقُ بعضَ الفراشاتِ،
حتى إذا هبَطَتْ فوق غصنٍ،
سترجِعُ كفّاهُ مثل اللهيب..
فَثمّة ما مسَّهُ، فاحتَرَقْ.
وألحَظُ أن الكبارَ يموتون،
إن سقطوا تحت سُلَّمِهم في البكاء.
لقد حرَّمَ البرتقالَ على نفسِهِ،
ثمّ أقسم ألّا نُعاقِرَهُ، فأقول له: إنّ أطفالَنا يرغبونَ بِهِ،
ثم قد لا نعودُ إلى قريةٍ هدّموها..
فيصرخ، مثل الذي لدّغَته الأفاعي: تقولينَ ماذا؟
.. جنونٌ أصابَكِ، أمْ لوثةٌ مِن هراءْ..!
عشرُ حروبٍ، وما فتئَ الشيخُ يصدَعُ نحو الشمالِ،
ليجمَعَ أنفاسَ زهرٍ يجنّحُ بين البيوتِ،
ويعبُرُ زفّةَ طيرٍ،
وتحمِلُهُ ضِحْكَةُ الكَستناء..
كانَ يسألُ عن عَدَدِ الطائراتِ،
وعمّا تُسَوّيهِ بالقاعِ،
ثمَّ يصيحُ؛ لماذا تغيبُ النياشينُ عن صدْرِها؟
إنّ هذا المقدَّسَ ليس لنا وحدنا!
إنه قُبّةٌ للرباط كما كان محرابَ بَسملةِ الأنبياءْ.
لا بأسَ من هدمِ بيتٍ وسجنٍ،
لكي لا نكون عبيداً،
فلا دربَ غير الخيول لنبلغَ ما شاءتِ الأرضُ،
أو ما يشاءُ السَناءْ.
عشْرُ حروبٍ، ويبقى على مقعدِ الانتظارِ،
وإن قصَفوا كلَّ شيءٍ، فلا يتزحزحُ عن مطرحٍ ثابتٍ..
إنْ وصْلتَهُ القنابلُ يبقى على شُرْفَةِ البحْرِ،
لا شيءَ في بالِهِ غيرُ عودَتِهِ، أو يموتُ كما الآخرين..
وتبقى العجوزُ.. تقول: سنبقى معاً، أو نروحُ معاً،
فليس لديهِ، وليس لديَّ، سوى أن نُعانِقَ في لحظةٍ
ما يُجمِّعُنا للبقاءْ.
ويوم انتهى القصفُ؛ كان هنالك رأسانِ يحترقانِ،
وبعضُ عظامٍ،
وعكازتانِ،
وشيءٌ كثيفٌ ترمَّدَ وسْطَ الرُّكامِ،
وصوتٌ ينادي على الغائبين: تعالوا لغزّةَ،
ثم احملونا لنُدْفَنَ حيثُ ولِدْنا،
أو احتَشِدوا..
جمِّعوا ما تبقّى من اللحمِ مُحتَرِقاً،
وانثروهُ على الموجِ،
حتى يُضَفْضِفَ للساحلِ الجبليّ،
وتبقى لنا وردةٌ في العَزاء.


إرحلوا 

أيّها الدّمى المُبعثَرة،

والبيادقُ الصغيرةُ المُسَيَّرة،

أيها العروشُ

أيّها القصَورْ

أيّها الألعوبةُ المُسَخَّرة.

نحنُ أصحابُ الأزقّةِ القبورْ،

والرِعاعُ والدهماءُ والنعوش،

والجماجمُ المُكَسَّرة!

نقول دون خوفٍ أو وَجْل:

فلترحلوا، ولترحلوا .. كفى!

فقد تَهرّأ الزمانُ واكتفى،

ومرّ فوق وجهكم، وقد عَفَا،

فما الذي تريدهُ يا صاحبَ الدبابةِ المُجَنْزَرة؟

وقد أخذتَ خُبزَنا وماءَنا وعُمْرنا

ووردةَ المواقدِ المُعطَّرة؟

فلترحلوا جميعكم من الجهات كُلّها،

لأنها ضاقت بكل صورةٍ مُعاقةٍ مُصوَّرة،

وجُملةٍ كريهةٍ مُكَررَّة،

وخطبةٍ مُذلَّةٍ مُحبَّرة،

وخطوةٍ مريبةٍ مدبّرة ..

فلترحلوا؛

لأنكم سحبتم الضفائرَ الشقراءَ

والسمراءَ للفِراش، عنوةً،

ففاضت الدماءُ من زهورها المُخَثّرة.

وَلترحلوا؛

لأنكم قتلم الكلامَ واليمامَ والشجرْ،

لأنَّ حُرْقةَ اللجامِ كالشَّرَرْ

لأنّها السجونُ تخنقُ القمرْ،

لأنكم رأيتم الجموعَ هاتفة،

والبلادَ خائفة،

والخيولَ نازفة،

لأنها المشانقُ التي تَلُوحُ في الطريق،

ويصطلي الصفيحُ بالحريق،

ولم يكن مَنْ ينقذُ الغريق،

وتاهَ عن صديقهِ الصديق،

لأنّكم ترونَنا نّجَسْ

ولا ولا ولا نَّفَسْ ،

لأننا الفقيرُ والأجيرُ والغفير،

ولم تعد في أوْجها القصائدُ المُسَطَّرَة.

ركبتم المواكبَ السريعةَ المُزَمجِرَة ،

وحلّت العجائبُ المُحيَّرة ،

وظلّت الأزقةُ المذبوحةُ المُدَمَّرة،

وجاء سادةُ المحافلِ المُزَنَّرة ،

لكي يظلّوا فوقَ ظهرنا إلى الأبد

ولا احد ولا أحد!

سوى أبنِ مَنْ تقدّست أسماؤه،

في نشرةِ الصحافةِ المدوّنةِ،

وسينما الشرائطِ الملوّنة،

وأغنياتِ الصفوةِ المُنفَّرة.

فلترحلوا..

لأننا، وقد سئمنا دينكم،

نريدكم أن ترحلوا عن ديننا،

لأننا وقد كرهنا صوتَكم وحرْفَكم وأُمَّكم

وطَلَّةَ المحروسِ إبْنِكُم

لأنَّ بابَ دارنا يصيحُ:

لم أعد أطيقكم!

والثوبُ والألحانُ والغصونُ

والنجومُ والغيومُ والحجارةُ المُسَمَّرة،

وتينةُ الختيارةِ المُحَفّرة،

وكلُّ طيرٍ في السما،

ودفترُ الحقائبِ المدوّرة .

لأنَّه الربيعُ لا يريد أن يكون بينكم،

لأنّه المطرْ

يُحبّ أن يزّخ دونكم،

لأنها الصلاةُ تكره النفاقَ والنجاسةَ المُخمَّرة،

نريدكم أن ترحلوا ...

فلترحوا

لأنها الأراملُ الضَياع،

لأنكم سرقتم النخاع،

لأننا الخراف في حظائر الضباع،

فلترحلوا؛

لأنّ رؤية الخراف قادرة،

ولستم المشيئةَ المُقدَّرة .

لأنها القوادمُ التي تعاظَمَت

في شمسِنا المُطَيَّرة .

لأنكم هراوةُ اغتصابنا

على مقاصل الخرافةِ المُؤَطّرة.

وأننا الأسطورةُ المؤزَّرة

فلترحلوا؛

لأنّ مَنْ يجوعُ يملك الدقائق المُسيطِرة

وحكمةَ الضحيّةِ المُقَطّرة.

لأن مَنْ ينوءُ في القيودِ يملكُ

المداخلَ المُظَفَّرة،

ويملكُ المفتاحَ والمدى، ونجمةَ الندى

وقبضةَ الزنازن المكوَّرَة .

فلترحلوا؛

لأنَّ أحلامَ الزعيم كذبةٌ مُفَسّرة،

ولم تعد حروفكم، لمَنْ يَسِفُّ حفنةً مُغبّرة،

حكايةً مُبررّة.

فلترحلوا إلى هوامش النسيانِ

والحفائرِ المُعَكَّرَة،

لأنها الجموعُ أجمعتْ، بأنكم؛

وباءَ عصرِها،

وأصلَ جوعها،

وأُسَّ موتِها،

وأنها أمّ الأرادةِ التي تخدّرت،

ولم تعد مُخَدَّرة،

وأنها الجبيرِةُ المُجبَّرة

وأنها العظيمةُ المُحرَرَّة.

فلترحلوا

ولترحلوا

ولترحلوا

تعليقات

محتويات المقال