الحكايات الشعبية | حكايات الغزو والغارات
حكايات شعبية : الغـزو
كان الغزو تقليداً مألوفاً عند الأعراب، وظلت تلك العادة سائدة حتى فترة قريبة، ولا شك أن الدافع الأساسي للغزو عند البدوي هو الحاجة إلى الطعام. ولكنه بالإضافة الى ذلك، يبدو وكأنه أصبح رياضة روتينية تحثها دوافع أخرى، مثل حب الكسب والرغبة في الاستحواذ على مال الغير ومواشيهم في المناطق الجدباء الفقيرة من البراري، وفضلاً عن ذلك، فإن الغزو أيضاً يمكن أن يكون مدفوعاً بالرغبة في الانتقام أو أخذ الثار كما أن الغزو نفسه يولد الرغبة في الانتقام المضاد من غزو سابق وهكذا.
ويمكن اعتبار الغزو بالنسبة للبدوي أحد المتطلبات المعنوية لاستكمال الرجولة، واستجلاب مظاهر الهيبة، ومنعة الجانب، واستعراض المواهب المتفوقة. وكان الناس لا يزوجون بناتهم للذي لا يجرؤ على الغزو والحرمنة، ولم يكن البدوي أو القروي ليرى في الغزو وكأنه مسألة سرقة منحطة.
ويجوز الغزو في الليل أو النهار وقد يكون هدف الغازي أرض خصمه أو مواشيه، وقد يكون الهدف الذود عن الديار.
ولا يجوز للغزاة خطف النساء أو التعرض لهن أو مسهن بسوء وحتى إذا وجد الغزاة قطيع غنم مع فتاة بدوية، فإنهم يسمحون لها أن تأخذ من ذلك القطيع ما يملأ يدها.
وفي مطلع التاريخ الإسلامي درج المسلمون على تسمية حملاتهم العسكرية والتي كانت بهدف نشر الدين الإسلامي، أو النيل من المشركين بالإيقاع بهم، أو نهب ممتلكاتهم- بالغزوات؛ فكانت هناك على سبيل المثال غزوة بدر، وغزوة أحد، وغزوة الخندق ومن الطريف أن نلاحظ بأنهم ظلوا يسمون الحملات التي تتم خارج شبه جزيرة العرب بالغزوات، وهكذا سموا الحملة العسكرية الموجهة ضد إمبراطورية الروم باسم غزوة مؤتة، وقد حملت هذه الحملة اسم "غزوة "على الرغم من أنها كانت تضم (3000) مقاتل.
ونلاحظ ذلك الخلط بين حملة وغزو فيما أثر عن أبي بكر الصديق من قوله: "ما أمة تركت الغزو في سبيل الله إلا ضربها لله بالذل"، وما من شك بأن أبا بكر كان يقصد بالغزو "الحرب والجهاد" لكن خليفة رسول الله ظل يستعمل العبارة الحربية "الغزو" التي كانت تعني الحملة الموجهة للانتقام والكسب.
وظل العرب يستعلمون لفظ غزوة في العصور الإسلامية التالية للتعبير عن الحرب المقدسة ضد الروم وسواهم، وكذلك، للتعبير عن غزو البدو بعضهم بعضاً.
وفي الحكاية الشعبية العربية تمجيد للغزو، ومن تلك الحكايات التي تبين رسوخ عادة الغزو في نفوس البدو حكاية فرحان باشا الجد الأعلى لشيوخ "شمر الجربة" الحاليين، تقول الحكاية:
أن فرحان باشا ذهب في أحد الأيام إلى قرية المشاهدة القريبة من مدينة الكاظمية من ضواحي بغداد – فرأى سكانها ضخام الأجسام فسألهم:
هل تغزون؟
فقالوا: لا، إننا لا نستطيع أن نغزو، ولم نتخذ الغزو صنعة.
فقالوا: اغزو من هم أضعف منكم.
ويتحول الولد الجبان إلى شيخ عشيرة مرموق، عن طريق الغزو؛ فابن المرأة البدوية "البايرة" هب للغزو تحت ضغوط والدته، وعلى الرغم من أن الولد كان قد هرب من وجه القوم؛ إلا إن المقادير ساقت إليه ابنة شيخ العرب وجعلتها تحت ظروف قاهرة، بحيث تضطر للهرب معه حتى لا يقتل أهلها، وهكذا يعود الولد إلى أمه ومعه "بنت وجهها مثل القمر"بعد أن أصبح فرساً يغزو حتى أصبح من أبرز الفرسان وأكرم الكرماء وأغنى الأغنياء.
وقد يقوم بعملية الغزو رجل واحد، وفي هذه الحالة يسمى خيان بما يرادف حرامي، ويقال فلان خان الشيء الفلاني بمعنى سرقه، وجمع خائن هو خَوَن، بمعنى حرامية، وتقول النساء فلانة تخون بيتها أي تبدد مال زوجها أو تسرقه أو تهديه للغير بدون معرفة زوجها.
وإذا قام بعملية الغزو عدد من الأشخاص في حدود الأربعة، سموا جيشاً، وإذا كانوا أكثر من ذلك سموا غزواً .
عقيد الغزو:
يتزعم الغزو قائد يسمى "عقيد القوم" وربما جاء الاشتقاق من الفعل "عقد" أي ربط الراية على الرمح ويسمونه عقيد الراية أي الشخص الذي يقعد الراية على الرمح منادياً للغزو وقائداً له،ويمكن تشبيه ذلك برفع الراية على سيارة قائد الحملة في الجيوش المعاصرة.
رد النقا: جرت العادة أن يقدم العقيد إنذار للقوم الذين يستعرضون للغزو، ويسمى هذا الإنذار برد النقا، وقد يأتي هذا الإنذار عندما ينهب رجل من عشيرة ما ناقة، فتطلب العشيرة التي فقدت ناقتها إعادة تلك الناقة، وإذا رفضت العشيرة الأخيرة رد الناقة، فإن العشيرة الأولى تنذرها بالغزو وترد عليها النقا.
ويوجه عقيد الغزو رجالاً لاستكشاف مضارب الخصم ويسمى هؤلاء صبور، ويكونون في العادة خمسة أو سبعة أو تسعة ويوجه العقيد رجاله، ويدير دفة الحرب، ويوقف القتال، وله لقاء واجباته بعيرٌ يأخذه من كل من الفرقاء – أي مجموعات الغزاة التي تعمل بشكل انفرادي وتنهب من الخصم ما تستطيع نهبه وتهرب إلى حين اجتماع الجمع ثانية، حيث يتم اقتسام الغنائم.
حماسة الغزو:
يتحرك الغزو للنهب والقتال وهم ينشدون الأهازيج، كما أنهم يعتقدون بأنهم يقومون بعمل جرئ وبطولي وخاصة إذا كانوا (يردون النقا) أي يثأرون لغزو سابق تعرضت قبيلتهم له.
وتلعب المرأة البدوية دوراً كبيراً في بث الحماس عند الغزو، وكذلك في تحميس المدافعين عن مضارب القبيلة التي تتعرض للغزو. ومن أساليب بث الحماس في نفوس الغزاة ما يسمى بالعطفة، وذلك بأن يركب الغزاة فتاة من أجمل فتياتهم على جمل ويأخذونها معهم ؛تشجيعاً لهم على المضي في القتال، وردعاً للجبناء من الهرب، وإذا ارتدّ الغزاة مقهورين استقبلتهم إحدى النساء رافعة الغطاء عن رأسها ملقية ذلك الغطاء على الأرض، وهنا لا يجوز لهم أن يتخطوه بل يعودوا للحرب.
وتشترك المرأة مع الرجال المدافعين بأساليب كثيرة؛ فهي تذكي الحماس في نفوسهم، وتحضر لهم الماء، وتشجعهم على الصمود.
ومن أساليب الحماس في نفوس الغزاة أن يأمر عقيد القوم رجاله بسكب ما في قربهم من ماء من أجل أن يستولوا على موارد المياه التي بيد الخصم، ويقال عنهم (كبابة)، أي لا ينثنون عن مرادهم، ونحس بوطأة الغزو ومدى الخراب الذي ألحقه بقرى الفلاحين الفلسطينيين ومزارعهم ومواشيهم من خلال ما كتبه تومسون، ونقرأ في ما كتبه تومسون قوله:
"ليس الذئب والفهد هما العدوان الوحيدان للراعي وماشيته، بل هناك أيضاً البدو اللذين يغزون الرعاة وينهبون مواشيهم بقوة السلاح". إن أحد الرعاة بين طبريا وجبل طابور في ربيع عام 1956 قاوم الغزاة، وبدلاً من أن يلوذ الراعي بالفرار قاوم الغزاة، فقطعوا جسده بخناجرهم، ومات بين الغنم التي دافع عنها. ثم يعبر تومسون عن عميق الأسف والحزن على الأرض ذات الطبيعة الخلابة التي يبددها البدو المتوحشون ويهلكونها بنار الغزو والحرب الأهلية.
الخاوة: نوع من أنواع الضريبة المالية أو العينية تفرضها القبيلة القوية على العشائر الصغيرة والضعيفة، وكذلك على قرى الفلاحين والمسافرين والتجار، ويدفع أولئك الأشخاص والجهات تلك الضريبة لتصبح هناك بينهم وبين القبيلة الحامية مؤاخاة ينتج عنها حماية حق الضعيف من القوى الأخرى.
ويستند البدو في طلبهم الخاوة إلى أن الصحراء هي أرضهم الموروثة؛ ومن حقهم فرض الخاوة على الغرباء اللذين يمرون أو يقيمون فيها، وهكذا فلا يجوز أن يقيم في تلك الأرض أحد بحماية تشترى من سادة الأرض.
قد تكون الخاوة على شكل هدية يهديها المسافر الغريب لأحد أفراد القبيلة، وربما تكون مسألة أبسط من ذلك بكثير كأن يشارك المسافر أهل القبيلة خبزهم وملحهم ليحسب أخاً لهم.
وفي نجد تدفع الخاوة تمراً وذرة، ويطلب الخاوة أن تستقبلهم القرى بحفاوة، وأن تستضيفهم بكرم إذا زاروها ويطلبون كذلك، أن تساعدهم في الأحوال الطارئة، وهم يدافعون عنها ويحمونها عند الحاجة، ويقومون أيضاً بدور الوسطاء في النزعات التي قد تنشب بينها وبين القبائل.
ويقول مندرل أن البدو تعرضوا له ولرجاله في وادي الأردن بالقرب من أريحا، وأطلقوا على مجموعته الرصاص؛ ما اضطر رجال الدين إلى عدم المخاطرة بأنفسهم من أجل الثواب.
ويصف بارثيما كيف تعرض الأعراب لركب الحاج الشامي، ومنعوا عنه الماء بالقرب من العقبة، ويقول بارثيما: فلما رأيناهم أنخنا جمالنا في شكل دائري، ووضعنا الحجاج في الوسط، وشبّ القتال بينهم وبيننا ودام يومين كاملين، فرغ فيهما الماء منها ومنهم، وكان قد تكاثر عددهم وامتلأ الجبل برجالهم ثم جمع الأمير الحجاج وشاورهم في الأم؛ر فقر الرأي على دفع (1300) دينار للأعراب، فلم يكادوا يقبضون المال حتى عادوا إلى قتالنا، وقالوا: أن عشرة آلاف دينار لا تكفيهم.
وقد تفن البدو في تصنيف أنواع وأسماء ومقادير الخاوة التي ابتزوها من الفلاحين، فمنها العيني ومنها النقدي، كما اقتسموا مناطق النفوذ في القرى.
وأفاد زعيم بدوي اسمه مليحان أنه أخذ خاوة من "المرج" وقال: إن المرج والغوطة مقسمة بين البدو، وكان نصيب أحدهم واسمه على بن مصلح "قنباز وعشرة إمداد ذرة من قرية المغسولة ومائتين وخمسين قرشاً وستين مد شعر وستين مد وخمسين مد ذرة وعباية واحدة فقط من قرية النشابية "
وإذا لم يدفع الفلاحون هذه الخاوة، حرق البدو زرعهم واعتدوا على نسائهم وأخذوا أطفالهم رهائن.
وما شجع الغزو والحروب بين البدو وأهالي القرى من الفلاحين هو؛ أن الدولة العثمانية لم تؤسس في بلاد الشام (بما في ذلك فلسطين) جهازاً حكومياً فعالاً، ولم تكن لتعتني باستتباب الأمن الداخلي، وكل ما كانت تفعله الدولة العثمانية، هو إرسال حملات عسكرية بين آن وآخر تضرب السكان دون تمييز لتثبيت هيبة الدولة، وإرهاب الناس وإجبارهم على الطاعة ودفع الضرائب.
ونظراً لغياب سلطة الدولة؛ فقد حلت محلها سلطة شيخ العشيرة الكبيرة الذي كان يتحمل كلفة حماية القرى والحواضر والقوافل من الغزو؛ ولذلك ترتب على المحميين دفع خوة أو خاوة وهي عبارة عن أموال أو أشياء عينية. وكلمة الخوة مشتقة من حق الأخوة والمخاواة، إذ تحصل مؤاخاة أفراد العشيرة الكبيرة الحامية و أهل القرية المحمية ينتج عنها واجب الحماية من جانب العشيرة الكبيرة ودفع "حق الخوة " من جانب القرية.
وإذا رفضت القرية دفع "الخوة " فإن العشيرة الحامية تأخذ ذلك الحق بالقوة، ولا تدفع الخوة لمجرد أن العشيرة الحامية تحمي القرية، بل أيضاً لقاء امتناع تلك العشيرة عن القيام بأعمال السلب والنهب في القرى المحمية، وهكذا دفع أهالي القرى خوة للبدو من أجل كف اعتدائهم ولكي يتمكن الفلاحون من ممارسة الزراعة في أراضيهم بهدوء واطمئنان.
واعتاد تجار غزة ابتياع الأسلاب التي يأتيهم بها البدو والتي تدر عليهم الأرباح الطائلة.
وهكذا أو بسبب الغزو ساد جو من الرعب بالنفوس وانتشر الغزاة المسلحون واضرابهم من اللصوص وقطاع الطرق الذين هددوا طرق المواصلات وسكان القرى في عصر انعدمت فيه وسائل الاتصال الحديثة وغابت سلطة الدولة.
ونشط الأشقياء وقطاع الطرق في القرن التاسع عشر اللذين يعملون لحسابهم بعيداً عن سلطة الأشياخ ووجهاء البدو، وكان هؤلاء الأشقياء وأخلاطاً من العربان النصرية، الدروز التركمان والفارين من الخدمة العسكرية.
إن هناك صلة بين الغزو والنهب والقتل، ذلك لأن الغزاة والنهابة يضطربون لقتل من يعترض سبيلهم عندما يصطدمون بأصحاب الممتلكات التي ينوون نهبها هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه قد جرت العادة أن ينهب أقارب القتيل ممتلكات العشيرة التي قتل فرد منها أحد أقاربهم، وذلك عند وقوع حادث قتل، وفوق ذلك فإن الأخذ بالثأر لا يتوقف عند قتل رجل من عشيرة القاتل بل يتعدى ذلك للنهب أيضاً ولدينا هذا المثال:
" الطق قتلوه دار الزريقي من مسكه (بقضاء طولكرم) لأنه غزاهم، بعد 15 سنة راح أبو حسين وازلام معه وأبو الزلف، أبو حسين ابن البلاد، وعارف المطارح لقيوا البياتية بايتين باخوار العرب ناس زاحت البقر زاحوا يومها اثنا عشر رأس بقر أبو ذياب، وأبو حسين راحوا لواحد معه جوز خيل اسمه علي أبو جاموس صالح الصوفي طرشة ع رأسه و مات أخذوا الخيل، ولحقوا البقر، عاد وزعوا اللحم على الناس تيقول أهل البلد لا نعلم ولا ندري.
مرويات عن الغزو بين أهل الجبل والساحل: ولم ينته مسلسل الغزو والثأر الذي بدأ بمقتل الطق في قرية مسكة، فقد ذهب أبو حسين إلى قرية الطيرة بالقرب من مسكة المذكورة، ومر بصبيين يحرثان الأرض، فسألها ماء ليشرب، وبعد أن شرب الرجل انتبه أكبر الصبيين إلى أن الرجل الذي شرب من مائه هو نفسه أبو حسين – موسى أو علقم – الذي نهب وغزا بقر مسكة قبل سنتين، فيما نهب فدان بقر لوالده وهنا أسرع الصبي وحمل خرطوشه وصاح مهدداً بقتل موسى أبو علقم، أسرع موسى فاخرج الفرد من حزامه وقال للصبي:
- لا تقتلني ولا على بالك هذا فردي … وأنا بقول إني أمشي أنا وإياك للطيرة وهناك بنحكي مع أهلك، وظل الصبي الصغير مع الفدان وسار الصبي الكبير مع موسى إلى قرية الطيرة وكانت نية موسى أن ينتظر حتى يصل الصبي إلى "الصبر"، عند مدخل البلد وهناك يستغل فرصة الاختفاء بعد أن يطلق النار على الصبي ويتخلص منه ولكن الأمور لم تسر كما أراد موسى، وكان مدخل البلد يعج بالمارة وسار موسى والصبي حتى دخلا البيت – بيت صاحب الفدان الذي تم نهبه مع بقر مسكة قبل سنين – وهناك اجتمع نفر من الرجال وقال لهم موسى بأنه ليس لديه أو لدى أقاربه في دير نظام أي ثأر الذين قتلوا ابن عمه الطق، وأخبرهم أن الفدان الذي تم نهبه قد نهب على اعتبار أنه من بقر مسكة لا من بقر الطيرة ووعد بأن يطلب من أقاربه إعادة "فدان" بدل الفدان الذي يقولون أنه نهب مع بقر مسكة.
واقتنع الرجال بما قال موسى وخاصة بعد أن حذرهم من أنه إذا أصابه مكروه فإن أهل دير نظام سيغزون مسكة والطيرة معاً، وسيتدرجون على القريتين من رؤوس الجبال خلال ساعات من معرفتهم بأن موسى أو علقم مسه مكروه، وهكذا نجا الرجل واستعاد أهل الطيرة فداناً بدل فدانهم المنهوب وتجنب القرية الطيرة غزوات "سكان جبل القدس" الأشداء.
وتبيح الأعراف العشائرية لأهل القتيل مهاجمة قبيلة القاتل ونهب ما يمكنهم نهبه من ممتلكاتهم من الحيوانات والنقود والأثاث وتبقي هذه المنهوبات ملكاً لهم ولا تخصم قيمة أثمانها من المبلغ الذي يتفق على دفعه بعد الصلح، ويحظر الاعتداء على النساء حظراً تاماً أثناء عملية النهب، ويحق لأقارب القتيل الاستمرار في عملية النهب لمدة ثلاثة أيام وثلث اليوم ويفقدون هذا الحق إذا قتلوا أحد أفراد عشيرة القاتل.
وتتوقف عملية النهب عند أخذ العطوة، وإذا لم يتم الصلح لعد العطوة؛ فإن أهل القتيل يجددون عملية النهب بعد مضي ثلاثة أيام وثلث اليوم، والأموال التي تنهب في هذه المرة تخصم من قيمة المبلغ الذي يتفق عليه عند المصالحة، ولكنها تقدر بنصف قيمتها الحقيقية.
وقد روت الست لويزا عام 1926 حادثة تعطى مثالاً على النهب بعد القتل ودونت الرواية الباحثة الفنلندية "هيلما جرانكيفيست".
"قبل مائة سنة ذهب رجل من صوريف ليسرق الخيار من بساتين أرطاس، فأطلق عليه رجل النار وقتله وجاء أقارب المقتول إلى أرطاس وقالوا للقتيل أنت عليك النوم واحنا علينا الانتقام، وأخذوا قتيهلم من صوريف ودفنوه، وأخذ أقرباؤه من صوريف يترددون على أرطاس في حملات للنهب، وحصل رعب كبير في أرطاس لدرجة أن الناس لم يستطيعوا الخروج خارج بيوتهم؛ حتى لا يقتلوا، ولجأ أهالي أرطاس لأصدقائهم في القرى المجاورة، ثم ذهبوا إلى الشيخ اللحام سلطان البرية في قضاء عرقوب وأجرى صلحة جلبت فيها خمسة وعشرون رطلاً من السمن، عشرة اشوالات من الأرز، وخمس قطع من الصابون، عشرون كيساً من السكر، خمسة عشر كيساً من الملح، وخمس وعشرون عباءة، وخمس وعشرون راية.
ونقرأ في مذكرات حبيب حنا زبلح التلحمي ما يوحي بأهمية الغزو عند القتال، إذ يأتي الفريقان المتخاصمان كل فريق قبالة الآخر، ويأتي كل فريق بفتاة حسناء عذراء شديدة البأس لا يروعها السيف ولا دخان البارود أو صهيل الخيول، وترتقي الفتاة هودجاً يكسوه ريش النعام، وتقفز على ظهر البعير بين المحاربين من قومها، يحيط بها نفر من شجعانهم الأشداء ويربطون أنفسهم بسلاسل تتصل بأطراف الهودج للدفاع عن الفتاة حتى النفس الأخير، ويفعل محاربوا الطرف الآخر كما يفعل هؤلاء وتدور المعركة على أشدها بينهما وكلاهما مستميت في الدفاع عن موافقة وحماية هودج الفتاة.
ويتخذ الغزو من التقاليد مالا يسمح بالتعرض للنساء، وإنه يسمح لكل واحدة من ربات البيوت أن تحمل من أمتعة بيتها ما تستطيع حمله.
ويصف لنا حبيب التلحمي، أساليب البدو الحربية فيقول: أن فريق الغزو تتألف في العادة من (88) رجلاً، تستعين رجلاً لكل فرقة، يمتطي أربعون منهم صهوات الخيول، ويركب الباقون ظهور الجمال. وأكثر أصحاب الخيول يصطحبون معهم جمالاً لحمل المؤن والماء وهم يسيرون على ترتيب عسكري، بحيث يستطيع رجال المؤخرة أن يستديروا إلى الوراء حتى يمكنهم إطلاق النار على خصومهم من جهتين متقابلتين. وهم يسيرون في الليل ويختبؤون في النهار حتى إذا ما اقتربوا من مضارب أعدائهم كفوا عن إشعال النار وعن التدخين، ويرسلون اثنين من رجالهم على هجينين يمتازان بالخفة والسرعة، فيتقدمان لارتياد مواقع الأعداء، وفي أثناء الليل يقسم الغزاة أنفسهم إلي عدة جماعات حتى إذا تمكنوا من نهب الجمال ساقوها أمامهم يخزونها بالرماح ليفروا مسرعين كما يقومون بإطلاق البارود خلفها لتجري هاربة.
شاة المرعى– غرامة الصلح في الغزو: الفريق الذي يضعف في وجه حملات الغزو يطلب الصلح ويعلن استعداده تقديم شاة المرعى، أي شاة من كل قطيع لديه ولدى عشيرته، وبعيراً عن كل قطيع من الإبل، وذلك، كغرامة حربية وليس للفريق الضعيف غير أن يدفع تلك الغرامة أو يلجأ لعشيرة أكبر وينضم إليها.
ومن الأمثلة على الغزو بدوافع الانتقام ما تقوله المرويات الشعبية عن أن قرية أرطاس تعرضت لغزو غزاة من جيرانها وقد نهب الغزاة القرية ودمّروها وأصبحت القرية خالية من السكان.
وقد حصل ذلك الغزو انتقاماً من أهل أرطاس الذين اعتدوا على بعض النساء من القرى المجاورة، ونتيجة لذلك، قُتل كثيرون وهرب الناس إلى وادي فوكين، كما هرب بعضهم إلى قرية خنزيرة بالقرب من الكرك، والخليل واستقروا في عجور وسعير.
ويبدو أن هجرة السكان حصلت في العقدين الأول والثاني من القرن التاسع عشر. وفي حوالي عام 1830، بدأ أهل أرطاس بالعودة إلى بلادهم، وفي البدء لم يجرؤ الناس العودة إلى البيوت؛ لخوفهم من التعامرة، بل عاشوا في القلعة المقابلة لبرك سليمان وكانوا يعملون خلال النهار في حقولهم وخلال الليل يعودون إلى القلعة.
وفي نفس الفترة؛ كانت الخلافات بين القيسيين واليمنيين سبباً آخر من أسباب الغزو وحملات الانتقام بين السكان خلال القرن التاسع عشر، وظلّت هذه الخلافات القبلية إقطاعية تفعل فعلها في توجيه الغزو بكل ما يرافقه من نهب وتدمير، والتي استمرت حتى عام 1860.
المساومة في الغزو: ويقول الروا:ة إنه من الممكن أن يأتي الغزاة إلى مضرب من مضارب قبيلة من القبائل لينهبوا مواشيها فيستقبلهم شيخ أو وجيه ويدعوهم ليكونوا ضيوفاً، ومن المحتمل أن يقبلوا الدعوة ويغيروا هدفهم، ومن المحتمل أن تكون هناك مساومة بين الغزاة والقبيلة التي يتوجه الغزاة إليها، وقد يقول رجل من تلك القبيلة نعطيكم ناقة أو بعيراً ولا داعي للقتال. ومن المحتمل أن يتم القبول.
وإنني أميل إلى تصديق هذه المرويات، ويدفعني لهذا الميل، هذه الحكاية الشعبية التي رواها مؤلف كتاب "حكاية شعبية من فلسطين"، عن غزاة ساومهم رجل تعرضت مواشيه للغزو.
تقول الحكاية أن رجلاً عجوزاً يقيم في الصحراء مع ابنته، داهمه الغزاة ونهبوا منه ستمائة ناقة، وبعد أن شرب البدوي القهوة، لحق بالغزاة وأخذ يساومهم نصف الجمال التي نهبوها، ولكن الغزاة استخفوا به ورفضوا أن يعطوه ما طلب، لكن الرجل العجوز أخذ يطالب بثلثي الجمال، ولم يجب الغزاة طلبه، وقالوا بأنه مأفون، وأخيراً أخذ العجوز يساومهم على أساس أن يأخذوا ناقة وبعيراً فحسب لكل منهم... وسخروا منه.
وبعد نكبة عام 1948 اعتاد الناس أن يعبروا الحدود لأخذ ما تركوه أثناء الحرب. تطورت مثل تلك الأعمال لتتحول إلى غزو للمستعمرات اليهودية؛ بقصد نهبها أو الفتك بأفراد العدو. ومن الجدير بالذكر أن الفدائيين المصريين استفادوا كثيراً من فكرة أولئك الغزاة في عملياتهم في صيف عام 1955.
الخيط الرفيع بين الغزو والحرب في المفهوم الشعبي: في الفترة الجاهلية من التاريخ العربي كان الغزو والحرب مفهومين لمعنى واحد تقريباً؛ فكانت القبائل العربية يغزو بعضها بعضاً؛ وبالنتيجة كان لابد من أن تكون هناك غنائم تشمل المال والمتاع والسبايا. وفي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ظلت حملاته لنشر الإسلام تحمل اسم الغزوة، وظلت الغنائم هدفاً بارزاً من أهداف الغزو، بالإضافة لنشر الدين الرسمي.
وقد رأينا في معركة بلاط الشهداء في أسبانيا، كيف أن سبب هزيمة المسلمين كان انصراف الجند للدفاع عن معسكر الغنائم؛ مما أدى إلى الكارثة، وكان السبب شبيهاً بما كان من أسباب الهزيمة في معركة أحد.
وقد عاد الغزو إلى الحياة من جديد في فترة التقهقر التي حلّت بالبلاد العربية في العهد العثماني، عندما اختل حبل الأمن وصارت القبائل تغزو بعضها بعضاً، وتغزو طريق الحج، وقرى الفلاحين بهدف الغنيمة، وكانت أعمال الغزو تتراوح بين الأعمال الحربية المنظمة إلى أدنى أشكال الحرمنة والسطو. والذي يعنينا من الموضوع هو رصد ظاهرة الغزو كنمط مقرر في الحياة الشعبية البدوية والقروية، وهو نمط يختلط بالحرب اختلاطاً بيِّناً.
ومن أجل أن نوضح فكرة اختلاط مفهوم الحرب لابد من أن ترصد الأشكال المختلفة للغزو، من حيث أهدافها، وكذلك، من حيث اتباع الوسائل المختلفة للوصول إليها بما يوضح تشابك مفهومي الغزو والحروب.
الغزو لرد غائلة الجوع: يمارس البدو أعمال الغزو بهدف رد غائلة الجوع والحصول على القوت اليومي، وهم يقومون بذلك مضطرين؛ بسبب طبيعة الحياة الصحراوية المجدية تفرض عليهم أن يمارسوا عملية الغزو وإلا ماتوا جوعاً، وعملية الغزو تضطرهم إلى أن يمارسوا نوعاً من حرب الخديعة؛ فييذهبون إلى مضارب القبيلة التي ينوون غزوها على شكل جماعة مسلحة ويتقدم اثنان من راكبي الهجن السريعة العدو لاستكشاف المكان، وفي حين تستعد المجموعة بكاملها لعمل حربي، فإن الغزاة يفضّلون أن يفاجؤا القوم الذين ينوون غزو مضاربهم في الوقت الذي يكون فيه الرجال قد غادروا المضارب، ولتتم عملية نهب المواشي والأمتعة دون الاضطرار إلى القيام بعملية حربية، وفي هذه الحالة يصبح الغزو أقرب ما يكون إلى الحرمنة – والتقشيط – وهو أقرب إلى عمل من أعمال قطاع الطرق … ويمكن أن تتحول عملية الغزو إلى عملية حربية كاملة تذهب فيها الضحايا ويسقط القتلى... ومن أشكال هذا الغزو ما كان يقوم به القرويون من أهل الجبل باجتياح قرى الساحل الفلسطيني بهدف الحصول على المحاصيل أو سوق قطعان الماشية.
وفي هذه الحالة فإن العملية أيضاً بهدف الحصول على الطعام مدفوعة بحاجة سكان الجبل الأشداء إلى محاصيل القرويين في الساحل والذين يعتبرهم سكان الجبل أضعف قدرة قتالية وبالتالي يسهل غزوهم.
الغزو بهدف التوسع في المراعي وكسب الأراضي: في هذه الحالة تتم عملية الغزو على نطاق أوسع تشترك فيها قبيلة أو أكثر، وتهدف إلى بسط نفوذها على منطقة جديدة من المراعي؛ وكسب أراض تتسع للوضع الجديدوتزايد أعداد أبناء القبيلة. إن هذه العملية أشبه ما تكون بالحرب التي يقصد من ورائها التوصل إلى الغلبة والفتح وهزيمة الآخرين، ولا تهدف هذه العملية إلى الحصول على الغنائم كهدف مباشر وإن كانت لا تخلوا من المتمخض عن غنائم وفيرة.
الغزو بهدف الانتقام والثأر: يحصل في الحياة الشعبية أن تقع جريمة قتل تروح ضحيتها نفس بريئة، وكما هو معروف يتوجب على أهل قرية القتيل أن يعملوا ما في وسعهم للأخذ بالثأر لقتيلهم والانتقام من العشيرة التي قام فرد منها بالقتل، ويتم الغزو هنا بدافع الثأر على مرحلتين في المرحلة الأولى التي تسمى مرحلة فورة الدم – يقوم أهل القتيل بغزو أهل القاتل لمدة ثلاثة أيام وثلث اليوم، وفي هذا الوقت ينهب أهل القتيل الماشية والمتاع دون الاعتداء على النساء، وفي المرحلة الثانية وهي مرحلة غر محدودة زمنياً وتتم في حالة عدم التوصل إلى الصلح.
نظرة الوسط الشعبي للغزو والحرمنة:
كان الرجل "يتحرمن" لكي يسد رمقه ويطعم عياله الجياع، أو لأنه لا يجد عملاً يكسب منه عيشه، ومن الحرامية من استطاب ذلك العمل وامتهنه. وقد انتشرت الحرمنة في العهد العثماني عندما لم يكن الأمن مستتباً بسبب ضعف الدولة اتكالها على الأشياخ والإقطاعيين والمتنفذين المحليين الذين لم يكن يهمهم سوى ابتزاز الناس.
والحرمنة استمرار لعقلية الغزو عند البدو، فمع فقدان السلطة الحاكمة التي تحمي الضعفاء وتثبت الأمن استشرى اللصوص وقطاع الطرق والحرامية بمختلف أساليبهم، ومع الزمن صارت الحرمنة دليلاً على (القبضنة) والشجاعة، لقد لاحظ الإنسان العادي أنه محط لاستغلال الملتزم والإقطاعي، كما أن البلاد كلها كانت موضع استغلال الدولة العثمانية التي دأبت على ابتزاز شتى أنواع الضرائب دون أدنى اهتمام بتقديم الخدمات للناس، ولذلك أخذ الإنسان العادي يسطو على من يواجهه في جو سيطر فيه القوي على الضعيف والشجاع على الجبان.
إن نظرة المجتمع الشعبي للحرامي هي نظرة استنكار وازدراء وهم يستنكرون التربية التي تصنع من الابن لصاً، وبهذا المعنى تقول حكاية شعبية أن ولداً سرق وانتهى به الأمر إلى المشنقة بعد سرقات وجرائم كبيرة، وعندما جاءت أمه عانقها وقال لها: بأنه يريد أن يقبل لسانها وعندما أخرجت لسانها عضه حتى قطعه بأسنانه لوماً، سألوه عن سر ما فعل؟ قال:
-لأن لسانها كان يشجعني على السرقة.
ويقول المثل الشعبي: اللي بيسرق البيضة بيسرق الجمل "والمقصود من ذلك، هو أن على الأسرة أن تعاقب الطفل الصغير إذا امتدت يده لسرقة بيضة، وإذا هم أهملوا ذلك، فإن الولد يعتاد السرقة حتى يصل به الأمر إلى سرقة الجمل.
ونجد شيئاً من التعاطف مع الرجال الذين يذهبون للغزو لأنهم كانوا يذهبون للبحث عن لقمة العيش، ففي أغاني هدهدة الأطفال نلاحظ أن الأم تغني لابنها لكي ينام بكلمات تدعو الله لأن يحمي زوجها "اللي بالخلا سارح "، والسارح يحمل مفهوم الذي خرج للغزو وهكذا توخي الكلمات ومنطوق الأغنية وتفسير الناس لها بأن ذلك السارح هو أشبه "بمن يخرج بحثاً عن الرزق ولقمة العيش"، ولذلك فهو يستحق دعوات امرأة ترضع طفلها وتهدهده لينام. تقول كلمات الأغنية:
يا جيرة الله مع اللي بالخلا سارح
ياجيرة الله مع خالد والنبي صالح
ويحتل الشاب الذي يخرج للغزو وينجو مركز الشاب الجريء الذي يأتي بالطعام لأهل الحي أو العشيرة أو يعود إليهم بما يعينهم في حياتهم، ولذلك؛ فهو يحتل (مركز الغازي) الذي يستحق التقدير؛ وإن حصل وسطا الشاب على مواشي يعود ببقرة يذبحها أهل الحي ويوزعون لحمها على الجميع ليسدوا رمقهم، وتبعاً لذلك، فإن أهل الحي يتسترون على الحرامي لأنه الرجل الذي يغزو من أجل مصلحة الجماعة، وإذا كان غنيمة الغزو حصاناً أو أداة قام الناس ببيع تلك الغنيمة وتوزيع ثمنها على بعضهم البعض، وهكذا يحصل الغازي على مجرد جزء من الغنيمة شأنه في ذلك شأن أي فرد في مجتمعه، ولا يستطيع الاحتفاظ بكل الغنيمة لأنه يكون بحاجة لحماية ذلك المجتمع.
إن الوسط الشعبي لا يجد أي غضاضة في الحصول على ممتلكات الغير إذا جاءت عن طريق غزو قبيلة لأخرى، ذلك لأنه مع غياب الحس الوطني وسيطرة الحس القبلي لدى الفرد؛ فإنه يعتبر الاستيلاء على ممتلكات الغير ضرب من الاستيلاء على ممتلكات جهات بعيدة ومعادية ولا يحس بأي انتماء إليها، وهكذا يمكن تفسير مسألة تلاشى عادة الغزو مع تزايد الشعور بالانتماء إليها، وهكذا يمكن تفسير مسألة وتضاؤل الشعور بالعصبية القبلية في نفس الوقت الذي ازدادت فيه سلطة حكومة مركزية.
وفي ظل الوضع الجديد أصبحت الحرمنة داخل القرية الواحدة أو المنطقة الواحدة مسألة تثير الاشمئزاز وتبعث على الإدانة، وفي هذه الحالة يحس أقارب الحرامي بأن فعلة قريبهم هي بمثابة إهانة لكل عشيرة، ومثال ذلك، أنه عندما اتهم جاد الله سلمان من أرطاس بسرقة صندوق حمدية أنكر جاد الله التهمة واستعد لإثبات براءته بأسلوب البشعة، وترددت حمدية في قبول العرض وطلبت العوض من الله بدلاً من الذهاب للمبشع، وعندما عادت حمدية تلوك شمعة جاد الله احتج أهله بشدة وطلبوا أن يثبتوا براءة العشيرة بأية طريقة تطلب منهم.
ولا يفترض في الحرامي أن يكون بلا أخلاق ونحن نجد في الراويات الشعبية إخباراً عن حرامبة يقدرون المرأة ويحترمون ضعفها، تقول المرويات: أن أحد الحرامية دخل على امرأة تطحن القمح وقد جلست إلى جوار طفلها ولم تجرؤ المرأة التي كانت وحيدة على أن تقوم بأي رد فعل حتى مجرد الصراخ فقد عجزت عنه، وهكذا نهب الحرامي ما شاء ووضعه في عباءته وشكّل "عقدة" كبيرة عجز عن حملها، وعندما رأت المرأة ما حصل قالت مخاطبة ابنها الصغير:
- قوم يما
- قوم يما خليني أحمل خالك!
- وهنا خجل الحرامي عندما سمع المرأة تصفه بأنه خال ابنها وترك ما نهبه وخرج وهو يقول "وانا خاله"
- وتقول حكاية أخرى: أن رجلاً عرف بأنه شريف ولم يتصل طوال حياته بامرأة غير زوجته، وكانت النساء تحضر منديله ليوضع على بطن المرأة الحامل التي تكون في حالة المخاض لتلد بكل سهولة ويسر. هذا الرجل كان من أبرز من يقومون بالغزو والحرمنة. وقد ذهب ذات مرة ليسرق صندوق صبية علم أن فيه ذهباً كثيراً، ولم يتمكن من الدخول إلى حيث يوجد الصندوق، فغيّر رأيه واتجه إلى مغارة ليبحث عن رأس من الغنم يسلبه ويذبحه ويأكله، وعندما اقترب من المغارة، سمع صوت صبية تصرخ وتستغيث، أسرع إلى داخل المغارة ليجد عبداً أسوداً يحاول اغتصاب فتاة في غاية الحسن والجمال، وهنا بادر الرجل فقتل العبد الأسود وأنقذ الفتاة التي أصبحت فيما بعد أخته بالمخاواة.
وتقول الحكاية: أن الحرامي استضيف في نفس البيت الذي كان من المقرر أن يسطو عليه، وشاءت التقادير أن تكون البنت التي أنقذها هي نفسها التي كان قد جاء لسرقة صندوقها، وشرح الحرامي لوالد وأخوة الصبية وهنا قالوا بأنهم سيعطون الصندوق والذهب للحرامي جزاء حمايته لعرض ابنتهم، ورفض الحرامي العرض وقال: بأنه أصبح أخاً للصبية، وبالفعل دامت إخوتهما وظل يزورها في المناسبات والأعياد كما يزور الأخ أخته.
- ومن خلال هاتين الحكايتين لا يبدو الحرامي رجلاً ساقطاً فاقداً للرجولة والنخوة والشهامة، بل على العكس هو رجل تتمثل فيه كل الصفات النبيلة. وفي الحكاية الأولى، نراه يترك المسروقات لمجرد أن سمع المرأة تصفه بأنه خال ابنها. وفي الحكاية الثانية، خاطر البطل بنفسه ليحمي عرض المرأة التي تستغيث بمن يغيثها. وأية سمعة أطيب من تلك التي حصل عليها بطل الحكاية الثانية من أنه رجل شريف ومنديله يساعد على تيسير الولادة؛ وتلك صفة تقربه من الأولياء والقديسين.
وبذلك نتصور الوجدان الشعبي وقد اعتبر الغزو والحرمنة أشبه برياضة قومية كانت سائدة في حينها ولا يمارسها غير الأبطال والشجعان، ويكفي أن نقول بأن الناس في الجيل الماضي كانوا يرفضون تزويج ابنتهم من شخص لا يقدر على الغزو خشية أن تموت ابنتهم جوعاً.
- الغزو من منظار العصر: كيف يمكن أن ننظر إلى الغزو بمنظار العصر؟ إن هذا السؤال يأتي بمعنى أنه كيف أثّرت عقلية الغزو والخلط بينهما وبين الحرب على مصيرنا الوطني؟ لقد تلاشى الغزو الآن بعد أن استتب الأمن ووصلت سيطرة الدولة إلى أبعد نقطة في البادية، لكن عقلية الغزو وتصور الحرب على أنها غزو، والغزو على أنه حرب له أثر كبير على تفكير الناس في الوسط الشعبي، وعندما بدأت الهجمة الاستيطانية الاستعمارية الإسرائيلية على أرض فلسطين تعاملنا معها على أنها نوع من الغزو، هدفه تحقيق الغنائم وسبي النساء، وبالتأكيد فإن المستشرقين والنثرولولوجييم اللذين سبقوا الجملة كانوا قد فهموا وجهة النظر الشعبية إزاء الغزو.
- ولذلك رأينا في الهجمة الصهيونية عام (48) فظائع مثل بقر بطون النساء والاعتداء عليهن، وقامت الصحافة العربية بسذاجة بالتطبيل والتزمير لأحداث دير ياسين وناصر الدين؛ ولذلك هرب الناس تاركين كل شيء ليحموا العرض، وكذلك تعامل الناس مع الغزو الإسرائيلي بعقلية الفزعات التي تجابه غزواً تقليدياً حتى الجيوش العربية تنادت لحرب (67) بعقلية "الفزاعة" أي المجموعات غير المرتبطة بتنسيق صحيح وهي مندفعة نحو ميدان المعركة دون روية، كما أن هذه الجيوش حاربت وكأنها مجموعات من الفزاعة تبدأ الحرب وتنسحب بمفردها، وبناء على تصورها للأمور؛ ولذلك كانت النتائج سلبية.
إن الجهل بذلك الحد الفاصل بين الغزو والحرب هو الذي جر إلى الكارثة، وكان العدو يعرف تلك العقلية "الشعبية" التي نتمتع بها. لقد سحق العدو القوات المصرية في سيناء، وقوات مصر الجوية في ساعة مبكرة من صباح 5 حزيران 67 قبل أن يصل "الفزيع" العراقي والسوري والأردني، وقام العدو بضرب الفزاعة في الطريق إلى أرض المعركة، وبعد أن استسلم جيش مصر على ضفاف القناة؛ انتقل الإسرائيليون ليحاربوا "الفزيع" على الجبهة الشرقية. إن العدو الإسرائيلي يفهم الأمور ويتصرف على أن الجبهات العربية هي مجرد تجمعات عسكرية أشبه بمجموع القبائل عند الغزو، وكل جمع من هذه الجموع ينطلق ويتوقف بناء على ظروف محلية صرفة، وليس بين هذه الجموع أدنى تنسيق بل على العكس، فإن هذه الجموع تنتقل من عقلية العداء فيما بينها ثم إلى التضامن ثم إلى العداء تماماً كما كانت تتصرف الزعامات المشيخية في البلاد العربية في عهد الإقطاع الذي مازلنا في أواخر أيامه.
- إن الحديث هنا عن الغزو من منظار العصر يؤكد الفكرة بأن "الفلكلور سلاح ذو حدين" إذ يكن استغلال المأثورات الشعبية لإحياء الشخصية الوطنية، ويمكن للعدوان أن يدرس تكوين شعبنا الثقافي ليستغل ما فيه من تخلف ليضربنا في الصميم.
هكذا يتم الغزو: لدينا صورة تحملها إلينا الأغاني الشعبية وتصور لنا الصورة العامة للغزو، كما يتغنى بها السامريون في هذا القالب اللحني الذي يسمى "رايحين نقول أريده".
وأنا راتع ورويتع ومظحي بروس القنية
والا الخيل بتهلهل من راس القرنة العلية
والا بطلة هالست يا لوجه منهم عليا
ثلاثة كتفوا ايديا وثلاثة قطوا الرعية
صرت أصبيح أنوح وأنش دموعي بيديا
وأخذوا مني هالبوش وراحوا ما ردوا عليا
يا قلبي يا بابور البر إن سافر تسمع دويه
ونرى في الصورة التي تحملها إلينا هذه الأغنية راعياً وقد رتع هو وغنمه في أعلى نقطة من قناة الماء وفجأة رأى الخيالة يجتاحون مملكته الصغيرة.
كانوا ستة من الفرسان: ثلاثة منهم عمدوا إلى الراعي فأوثقوا كتفيه وثلاثة أسرعوا بسوق "الحلال"، وماذا يستطيع الراعي المسكين أن يفعل سوى أن يصيح بين التلال طالباً النجدة فلا يسمع أحد صوته؟ وماذا يفعل أكثر من أن يبكي وينوح ويذرف الدموع وهو يرى الغزاة وقد أخذوا الماشية واختفوا إلى الأبد؟ أما قلبه المسكين فكان يخفق ويدوي كما يدوي "بابور البحر".
الحرمنة:
مشتقة من الحرام، ويعني هذا المصطلح الشعبي الحصول على أموال أو أمتعة أو حيوانات بطريقة محرمة أي بأسلوب السلب، الغزو، الخطف، السرقة.
ونبحث هنا: الحرمنة، القشط الطياحة، النشترة، السرسرة، العداية، والوساقة والغزو من زاوية، إن كل هذه الوسائل كانت تعتبر وسيلة من وسائل الحصول على الرزق في عهد فقد فيه الضابط الاجتماعي والأمني.
ولابد من التمييز أولاً بين الحرمنة كما كانت شائعة في الوسط الشعبي قبل عدة عقود من القرن العشرين، وبين السرقة بمفهومها القانوني الحديث، فالحرمنة توازي الغزو عند البدو وكلاهما وسيلة للحصول على الطعام. وترتبط الحرمنة – كما هو حال الغزو- بالجرأة والشجاعة.
يوصف الحرامي بأنه (دواس ظلما) أي ينشط للعمل في الليل والأماكن المهجورة والليالي المطيرة والطرق العامة البعيدة عن العمران.
وفي المأثور الشعبي:
أما مطر أما سيل
أما هذه الليل ليلة خيل
ذلك لأن أنسب الليالي للغزو وركوب الخيل هي الليالي المطيرة المعتمة التي يغيب فيها القمر ويصعب رؤية الأشخاص، وأصل هذا المأثور مرتبط بقصة ذلك الرجل الذي سرق فرساً وعاد بها إلى بيته في ليلة مطيرة معتمة، وقد تبعه أصحاب الفرس حتى وصلوا البيت فسمعوه يقول لزوجته وهو جالس بالقرب من موقد النار:
أما مطر وأما سيل
أما هذه ليلة خيل
وعند ذلك ردت عليه زوجته لتضلل الرجال الذين يتبعونه:
اسكت ما انتيش من ازلام الليل.
وهنا ظن الرجال الذين يقتفون أثر الحرامي بأن ذلك الرجل ما هو إلا نذل تنتهره زوجته. وتبعاً لذلك، فلا يمكن أن يكون هو الذي سرق فرسهم، فذهبوا لحال سبيلهم. وهذا الحرامي الذي قبل إهانة امرأته ليضلل الرجال الذين يقتفون أثره يمكن تسميته بالحرامي المخادع، وهو يختلف عن الحرامي الغازي الذي يسلب المواشي ويقتل من يعترض طريقه بسيفه وسيوف جماعته، وهذا النوع من الحرامية: حرامي القهقهة، الذي يسلب الناس وهم يسهرون ويسمرون ويقهقهون.
وأخطر أنواع الحرامية – المخادعين هو حرامي الدار الذي يعرف خفايا البيت بحكم معرفته للبيت وأهله ويقال عنه: (الباخن) و(المخِشْ). وفي الأقوال المأثورة ما يوحي بذلك (ميت صيحة وراء الذيب ما بتعيب). ويجوز لنا أن نتصور صعوبة الحياة في العهد العثماني، لدرجة أن الناس كانوا يبررون الحرمنة، وفوق ذلك فالذي لم يكن يغزو في تلك الأيام؛ يعتبر جباناً ولا يقبل أحد تزويجه ابنته لأنه يخشى أن تجوع تلك الابنة ما دامت في حمى ذلك الرجل الجبان.
وتحت عنوان (السرقات) وضع العارف في كتابه القضاء بين البدو الموضوعات التالية: السرقة، العداية، الوساقة.
وفي حالة السرقة، فإن رجال (خمسة السارق) مسؤولون عن إعادة الشيء المسروق.
ومن الإثباتات الواضحة لوقوع السرقة عند البدو أن يسرق البدوي دابة تحمل وسماً معروفاً لقبيلة أخرى، وبغير ذلك يجب إثبات الملكية بالشهود وبطرق الإثبات الأخرى.
وإذا شهد شاهد بأن زيداً من الناس سرق وأنكر هذا السرقة، فإن على المتهم أن يثبت براءته بالبشعة (أي لعق الحديد الساخن)، فإذا احترق لسانه، كان مذنباً، وإلا فلا. وتجري البشعة في هذه الحالة على المتهم والشاهد معاً.
وإذا وجد زيد من الناس مالاً سرق منه أو دابة هربت من بيته عند عمرو، فله أن يأتيه ويطلب منه ماله، فإن قال عمرو وجد هذا المال (داشراً) وحفظه لديه إلى أن يجد صاحبه وأثبت قوله هذا بشهادة الشهود فهو بريء من كل مسؤولية، وعلى زيد في هذه الحالة أن يدفع لعمرو "الحفاظة" أي |(الأرضية)، وهي ريال عن المدة كلها إذا كان الشخصان ينتميان إلى صعيدين مختلفين، و أما إذا كانا من صف واحد؛ فلا حفاظة. كما تجب النفقات التي تكبدها من وجد دابة على صاحبها، وإذا عثر صاحب المال المسروق على ماله، وجب عليه أن يعطي الرجل الذي دله مبلغاً يتراضيان عليه، وهذا المبلغ يسميه عربان بئر السبع أكال الشاهد وإذا امتنع الدليل عن القيام بمهمته حسب تعهده؛ فلصاحب المال المسروق أن يقاضيه وإذا أنكر فعليه أن يحلف اليمين بأنه لا يعلم شيئاً، إذا لم يحلف عدّ مسؤولاً، وطولب بتعويضه الشيء المسروق ولا يقبل يمين الرجل المتهم بالسرقة إلا إذا طلب صاحب المال المسروق منه ذلك.
القشط:
هو نوع من الحرمنة التي تتم في وضح النهار وهذا المصطلح مشتق من "قشط" بمعنى استلب كل ما وجده أمامه، وهذا النوع من اللصوص يقطعون الطرقات، بحيث يفاجئون المسافرين وينقضون عليهم فيأخذون كل ما معهم. ويختار قطاع الطرق هؤلاء الأماكن التي يتوجب على المسافرين اجتيازها عند خانق بين الجبال مثل موقع "عيون الحرامية " بين نابلس ورام الله.
ونجد في المأثورات الشعبية ما يجعل القشط مبرراً؛ فهذا محارب ذيب يقول في معرض حديثه عن – أبو كباري – (والرجل اللي بيقشط موش عيب، هذا كار الرجال والطمع في صدورها)، وهناك من كان يبرر الحرمنة ونجد في المأثورات الشعبية المسميات التالية:
الطياحة: مشتقة من طاح، بمعنى نزل إلى البيت بهدف سرقته من نافذة أو ثقب أو نحو ذلك، وكانت الطياحة تتضمن بعض معاني الرجولة والشجاعة، إذ أن الحرامي هنا يتسور البيت وينزل على أصحابه وهم نائمون، فيسرق ما تصل يده إليه باستعمال العتلة والقوة، وقد يطيح الحرامي على العروسين ليلة دخلتهما ليسرق المصاغ والنقوط.
النشترة: والفاعل نشتري، وربما كانت التسمية مشتقة من "نشل" أي سرق مستغلاً خفة اليد والحيلة والحذر، ونحن هنا أمام نوع من الحرمنة فيها نوع من التقدير للمهارة وخفة الحركة والشطارة. ووردت كلمة نشتري ونشتريه في ما رواه رزق عثمان من قرية أم صفاة بالقرب من بيرزيت – رام الله لكل من "شمدت" وكالة مؤلفي كتاب حكايات من بيرزيت ولم تتحدث الحكاية النشترية بمعنى النشالين ولكن بمعنى لصوص الليل .
العداية:
هي أن تعتدي أنت بنفسك أو ترسل من يعتدي على غنم جارك، أو غنم أي فرد من أفراد العشائر المجاورة إليك فتأخذ منها واحدة لتطعم ضيفك. ولا تجوز العداية إلا على الغنم، و أما البقر والجمال وباقي الدواب فلا تجوز العداية عليها، ولا تجوز العداية إلا من أجل الضيف الذي على الفراش، أي الضيف الذي حضر بالفعل، وليس الضيف الذي سيحضر بعد حين، و أما إذا قام المرء بالعداية على غنم غيره ليأكل هو أو ليطعم عياله أو للعرس أو للطهور، فإنه مؤاخذ على عمله، وعليه تعويض صاحبها بأربعة أمثالها.
إن العداية فعل مشروع في عرف العرب ولكن له شروط إذا لم ينظر إليها العادي بعين الاعتبار؛ عدّ عمله سرقة وجوزي عليه. وقد أجاز بعض العرب العداية من أجل تقديم (القود) لرجل أقام في بيته حفلة طهور، بشرط أن لا يكون لمن يريد تقديم القود له علم سابق بأن هناك حفلة بجانبها؛ ليتمكن من إكرام ضيفه، ولكنه في هذه الحالة عليه أخبار صاحب الغنم فوراً، وإلا عدّ عمله هذا سرقة، وبعض العربان لا يجيزون العداية على غنم إلا إذا كان صاحبها بجانبها. ولا تجوز العداية على غنم الرجل الغريب أو الطنيب.
- 1. الكبش
- 2. الشاة المعلق في رقبتها جرس أو حرز لأنها أحب الغنم لصاحبها.
- 3. ربيطة البيت
- 4. ابن البقرة
- 5. الشاة المنذورة
إن كل من يعدو (خلافاً للشروط المتقدمة) يؤخذ منه ما اعتدى عليه مربعاً. هذا فضلاً عن الرزقة التي يدفعها العادي إلى القاضي الذي يقضي بينه وبين خصمه. ولصاحب الغنم المعدو عليها الحق في أن يأتي بعد العداية بثلاثة أيام إلى الرجل الذي عدا على غنمه ويطلب منه أن يرجع إليه شاة عوضاً عن الشاة التي أخذها فيقول له: لزم شاتي، فيجيبه هذا: أنا لزيمها، وعليه في هذه الحالة أن يرجع لصاحبها مثلها، وذلك خلال أربعة عشر يوماً.
إذا ادعى الراعي أو صاحب الغنم أن كل الغنم أكباش؛ فإنهم يخصصون لكل خمسة وعشرين شاة كبشاً، وإذا كان الكبش صغيراً؛ فإنه يشهد على أنه لم يشتره لا للبيع ولا للذبح بل للنسل، بوعد أن يعدو الرجل على الشاة يأتي بها ويذبحها ثم يأتي برحمها إلى اثنين من أهل المحل، فإذا رأيا أنها حامل؛ عليه أن يردها كذلك، وإذا كان في رحمها سخل وجدي مثلاً فعليه أن يرد غيرها مع سخلة وجدي أيضاً أي المثل بالمثل.
وإذا اختلف الفريقان فيما إذا كانت الشاة المعطاة كعوض تقوم مقام الشاة المعدو عليها، فإنهما يتقاضيان لدى الضريبي أو لدى رجل من أصحاب الغنم. ولهذا الحق في أن يحكم بالذي يرتئيه، فإن حكم بقبولها قبلت وإلا ردت واستعيض عنها بغيرها، وإذا كان حكم الحاكم على صاحب الغنم بقبول الشاة المعروضة من قبل العادي واعتقد هذا أنه مظلوم؛ فإنه يحتفظ بنفس الشاة التي حكم بها الحكم.
وعندما يأتي إليه ضيف؛ فإنه يعدو على غنم الحكم ويأخذ منها واحدة، وعندما يطالبه هذا برد عوضها؛ يرد له الشاة التي حكم عليه هو قبلاً بقبولها من خصمه، وإذا لم يقم الرجل الذي عدا بالتعويض في بحر أربعة عشر يوماً (حسب شروط العداية المتقدم ذكرها). فإن صاحب الغنم المعدو عليها الذي عدا أو سبّه أو شتمه بين العربان، إذا انقضت مدة أربعة عشر يوماً ولم يرد العادي إلى صاحب الغنم شاة عوضاً عن الشاة التي عدا عليها وأتى وقت عشار الغنم؛ فلصاحب الشاة المعدو عليها الحق في أن يأخذ من غنم العادي شاة معشرة، وإذا انقضى هذا الدور دون أن يسترد صاحب الشاة المعدي عليها حقه وولدت غنم العادي، فله أن يطالب العادي بإعطائه شاة ولدت ومعها وليدها، إذا كان العادي عبد السيد أو خادماً عند رجل آخر؛ فإن سيده أو المستخدم لديه مسؤول عن تعويض صاحب الغنم بدلاً من الشاة التي عدا عليها، هذا إذا كان العبد أو الخادم ذبح الشاة في بيت السيد المخدوم.
ويعتبر الضيف الذي أكل من لحم العداية غير مسؤول، ولا يحق لصاحب الغنم المعدو عليها أن يطالبه بشيء.
يجري التقاضي من أجل العداية وما يتفرع عنها عن مشاكل لدى الزيود وقد يتفق الفريقان على التقاضي لدى أي رجل آخر من الرجال المعروفين بحسن السمعة واقتناء الغنم الكثيرة. وإذا مات العادي قبل أن يقوم بالتعويض عن الشاة التي عدا عليها، فالمسؤول عن التعويض حينئذ هو الرجل الذي أعانه على حمل الشاة المعدو عليها، وإذا مات هذا، فالذي يأكل منها من أهل العادي فالذي أتى بالقدر وإذا لم يكن ثمة واحد من هؤلاء، فالضيف الذي ذبحت الشاة من أجله.
الوساقة:
هي أن تضع يدك على مال رجل لك في ذمته حق، وأن تودع ذلك المال عند رجل آخر أمين إلى أن يرجع لك خصمك مالك الذي في ذمته أو يقاضيك لدى قاض وفق أصول العربان. والوساقة أمر مشروع عند العرب، ولكن لها شروطاً: إذا لم ينظر إليها الواسق بعين الاعتبار؛ عد عمله سرقة وجوزي من أجله ويشترط أن يكون المال الموسوق ملك الرجل المدين بالذات أو ملك واحد من خمسته، وأن يشهد الواسق على عمله أشخاصاً آخرين حتى إذا ما أرجع إليه خصمه ماله أو قاضاه، وكان حكم القاضي مصلحة خصمه، وجب عليه أن يرجع إليه المال الذي وسقه، وفي حالة الدين أو التجارة الاعتيادية يوسق مال المدين بالذات. و أما في مسائل الدم كالدية والسرقة والعداية فيجوز وسق مال أي كان من خمسة الرجال المطالب ويتقاضى الفريقان (الواسق وصاحب المال الموسوق) لدى الزيود أو أي قاضي من قضاة العرب يتفقان عليه، فيحكم هذا بمشروعية الوساقة التي حصلت أو بعدمها، وبالطريقة الواجب عليهما اتباعها لتسوية الخلاف.
- 1. الخيول الأصيلة.
- 2. السلاح.
- 3. الثياب الشخصية
- 4. الدابة التي ينقل المرء عليها الماء لبيته.
وإذا وسق المرء شيئاً من هذه الأشياء يغرم ويفقد حقه الأصلي.
ولا يجوز وسق مال الضعيف حتى ولو كان مديناً، وإذا وسق أحد مال ضعيف نازل وجب على مضيفه استرداد ما تم وسقه منه. ويغرم الواسق غرامة (تقطيع الوجه)، وفي حالة الوسق لا يجوز تغيير الوسم المرسوم على الدابة الموسوقة، وإذا غيّر الواسق الوسم، فإنه يغرم ويجوز في عرف البدو وسق الدواب والأموال المنقولة على الطريقة المتقدم ذكرها، غير إنه لا يجوز في نظرهم وسق البشر.
سرقة جثث الموتى:
أوردت جرانكفيست رواية عن عليا تقول فيها: أن جثة سالم العثمان من قرية أرطاس (بيت لحم) قد سرقت كما سرق الكفن وكل ما مع الميت، ومن المحتمل أن يقوم بسرقة الجثة أحد أعداء صاحبها، وذلك بهدف حرق الجثة؛ لأنه لا يريد أن يبقى مدفوناً بين الآخرين في مقبرة المسلمين. وكان الناس يسلبون كفن الميت لاستعماله ثوباً لهم، وذلك في أيام الفقر المدقع. ولدينا رواية عن امرأة سلبت ملابس رجل وجدته مقتولاً ومغطى بالحطب فأخذت الملابس وغسلتها وقدمتها لزوجها.
حرمنة المرأة:
من العيب على المرأة أن تسرق، وواجب رجلها أن يقوم بأي عمل أو يغزو ليطعمها، ومكانها في بيتها عند أولادها، ويخشى الناس على شرف المرأة من التلوث إذا قامت بمهمة السرقة أو شاركت في الغزو، فمن المحتمل أن يعتدي عليها أصحاب المال المسروق. وهكذا أصبح مفهوماً لدى الناس إن المرأة التي تسرق لا شرف لها، ومن الممكن أن تضحي بشرفها لتغطي على اشتراكها بجرم السرقة. ومثل ذلك الفهم وارد في حالة ارتكاب المرأة الكذب. إن الناس في الوسط الشعبي يصابون بصدمة شديدة عندما يعلمون أن امرأة سرقت أو كذبت، فذلك مؤشر ومقدمة للزنى.
وهناك قول مأثور مؤداه:
-لا بارك الله في المرأة اللقاية (التي تعثر على أشياء)، ولا بارك الله في الرجل الغدا (الذي يضيِّع)، فإذا وجدت المرأة شيئاً، قالوا أنها سرقته أو أخذته من عشيقها، وإذا ادعى الرجل أنه فقد شيئاً، قال ذووه بأنه ربما منح تلك الأشياء لعشيقته.
حرمنة الزعران: يقوم الزعران من الشباب بالسطو على أخمام الجاج بهدف سرقة فراخ الدجاجة والديوك ويذهبون بها إلى مكان ما خارج البلد فيشعلون النار ويذبحون الطيور التي نهبوها ويشوونها، ومن المحتمل أن يتفق مثل هؤلاء الزعران مع امرأة قليلة دين فتطبخ لهم لحم الطيور التي سرقوها وتأكل هي وأولادها معهم.
وقال "ذيب": إنه كان يلجأ هو وأصحابه إلى الطابون فيشوون فيه الدجاج الذي يسرقونه ويتركونه بعد الانتهاء منه مفتوحاً غير عابئين بالمشكلة التي يخلقونها لصاحبته التي لن تجد الوسيلة في اليوم التالي لصنع الخبز لأسرتها.
حرمنة المحاصيل الزراعية:
الحكايات الشعبية : غارات البدو
في ظل هذا الوضع الضعيف المتراخي من الدولة وكل رموزها الفرعية والمحلية، وفي ظل وضع اتجه كل فرد فيه إلى البحث عن المنفعة الذاتية واستغلال غيره أو على الأقل التقوقع حول نفسه؛ نشطت القبائل البدوية في شن هجماتها وغاراتها على الفلاحين في كل سوريا، فنشطت الدولة في الشمال، وبني صخر في الوسط والجنوب في غاراتهم على الفلاحين والقرى. ونجد أخباراً وإشارات لذلك في المراجع الوصفية التي كتبها الرحال والزوار في القرن التاسع عشر؛ ففي عام 1835 هاجم البدو السهول في الجليل وغور الأردن والساحل ينهبون المحاصيل الزراعية، ويحصلون على الخاوة في أوقات الحصاد ويسرقون المواشي، وبذلك كانوا يجردون الفلاح من محاصيله ومواشيه، ويتركونه نهباً للمجاعة وعرضه للعجز عن مواصلة الإنتاج بعد سرقة البذار والقطعان.
وهناك وصف مؤثر لتلك الغزوات على الرعاة والفلاحين فيما كتبه زوار الأراضي المقدسة الذين أبرزوا المظالم البشعة التي كانت تقع على الرعاة والفلاحين، من بينها وصف تومسون لذلك الراعي الذي يقاتل البدو حتى خر صريعاً بين الغنم التي ناضل من أجلها باعتبارها مصدر قوته، ولم يسترح الفلاحون الفلسطينيون من غارات البدو إلا في فترات قصيرة وهي استتباب الأمن خلال الحقبة الأولى من حكم إبراهيم باشا، في هذه الفترة تمكن الفلاحون من تحسين أوضاع قراهم ومزارعهم في السهول، وبعد خروج إبراهيم باشا اشتعلت الحروب القيسية اليمنية، وعاد الخراب إلى القرى، هناك شواهد كثيرة على خراب القرى؛ بسبب غارات البدو والحروب القيسية واليمنية. ففي عام 1835 شاهد تومسون قريتي العفولة والغولة في مرج بن عامر مزدهرتين، وفي عام 1859 كانتا خربتين، كما شاهد تومسون في حالة خراب كامل قرية المقيبلة وكما في منطقة جنين بسبب الحروب القيسية اليمنية كانت تحصل هجرات إلى البرية في الأردن أو داخل البلاد، وبسبب غارات البدو لجأ أهالي السهول الفلسطينية إلى الجبال، على اعتبار أنه من الممكن التحصن في المرتفعات ضد غارات البدو. وقد تجمع الفلاحون في قرى محيطة بالمدن من مثل القدس ونابلس والخليل، وكانت الاتصالات صعبة، بسبب عدم وجود الطرق السهلة ووعورتها ومن الأمثلة على خراب السهل هو ضآلة عدد القرى بين يافا وغزة، وبين يافا وحيفا وهناك شهادات حول هذه الندرة في وجود القرى وتضاؤل العدد السكاني في كتابات زوار الأراضي المقدسة.
إن الفلاحين الذين بقوا في السهول توجب عليهم دفع الخاوة للبدو، وتحمل غطرستهم وعدم القدرة على مجرد تحذيرهم للعبث بالمزروعات حتى عام 1879، كانت طبرية تدفع خاوة لأحد شيوخ بني صخر، كما كانت الجاعونة تدفع الخاوة لشيخ عرب الزنغرية .
وكان الرولة يغزون فلاحي قرية جب يوسف في الجليل الأعلى، كما كانت مدينة الناصرة معرضة لغزوات البدو، وقد خسرت هذه المدينة في غزوة بدوية واحدة عليها وعلى قراها 200 ألف قرش.
لقد كانت لتأثير غارات البدو نتائج أكثر عمقاً؛ فقد أدت هجرة الفلاحين من الساحل وتحصنهم بالحبال إغراء للبدو لاستيطان الساحل، فقد دخلت القبائل البدوية عبر الغزو وأخذت في البدء تستغل سهول الجليل والساحل كمراع لقطعانها ومواشيها، ومع الزمن بدأت تتوجه توجهاً خفيفاً نحو الزراعة وهكذا جاء عرب أبو كشك فقطنوا الأراضي المحيطة نهر العوجة.
واستولى عرب الحوارث والنفيعات على المنطقة من قيسارية لنهر الفالق، كما استوطنت عشائر أخرى في مرج بن عامر وسهل الجليل الأسفل. هذه القبائل كانت تقوم بدور سلبي في إعاقة العمل والإنتاج والاتصال من خلال قيامها بقطع الطرق بين الكرمل والساحل، وبين يافا والجنوب؛ فبالإضافة لعملها في الرعي وجزئياً في الزارعة، كان الكثير من أفرادها يعيقون أعمال الفلاحين من خلال السطو على ممتلكاتهم ونهب مزارعهم ومواشيهم، وكذلك القيام بقطع الطرق على المارة وسلبهم ونهبهم وأحيانا قتلهم.
لقد فرضت الأجواء العامة للغارات البدوية على الفلاحين تحولاً في أوضاع أولئك الساكنين في المناطق المتاخمة للصحراء؛ فقد اضطر هؤلاء إلى ترك الزراعة والتحول إلى الرعي؛ فذلك يعطيهم الفرصة في حركة أفضل للهرب من وجه الغزوات والتعايش مع البدو.
وفي الحالتين (حالة سكن البدو للسهول وتحول بعض الفلاحين إلى البداوة) تقهقرت الزراعة لصالح الرعي، وهذا بدوره عمل على تقليص عدد القرى وانخفاض عدد السكان؛ بسبب سوء الظروف الصحية والمعاشية.
النزعات المحلية:
لقد تركت النزعات المحلية أثاراً شديدة السوء على الوجود السكاني وزراعة الأراضي، وكانت تضطر الناس إلى الجلاء عن قراهم ومزارعهم؛ ما جعل التجمعات السكانية في حالة حركة دائمة. وبعد وقت ما كان السكان أو أحفادهم يعودون من جديد إلى بيوتهم. ومثل ذلك ما حصل لقرية أرطاس التي تعرضت لمأساتين دمرت فيهما القرية وهجرها سكانها.
وتفيدنا المأثورات الشفوية إن المأساتين نتجتا عن شجار وحرابات. ويقال أن رجالاً من أرطاس اغتصبوا نساء من أماكن أخرى، وقام أقارب تلك النساء بالانتقام. وفي المأساة الأولى قتل تسعون زوجاً من الأخوة، وبعد هذه المأساة زار ينبور المكان في آب من عام 1766؛ وفي المأساة الثانية جلا دار عودة (من عشيرة سعد) إلى وادي فوكين، وجلا الربايعة إلى قرية خنزيرة بالقرب من الكرك، وجلا آخرون إلى الخليل، كما جلا بعض من المشاني إلى بيت أمر، وجلا دار أبو حلاوة إلى عجور، أما عشيرة شاهين وأبو شحادة؛ فقد جلوا إلى سعير، وقد حصلت هذه الحركة في حدود الربع الأول من القرن التاسع عشر.
وفي عام 1838 زار روبنسون أرطاس، وقال: إن القرية كانت خربة ولكنها مأهولة بالسكان الذين يزرعون الأرض في النهار، ويبيتون الليل في قلعة تعود للعصور الوسطى، تقع مقابل برك سليمان على الطريق بين القدس والخليل، وظلت العشائر الرئيسية الأربعة في القرية تشغل كل واحدة منها برج من أبراج القلعة الأربعة.
كان الناس يحترمون السلطان كخليفة للمسلمين، لكنهم لم يكونوا ليهتموا للإمبراطورية التركية، ولا يحسون بالولاية لها. إنهم يسمونها "دولة العسملي" أو بلاد الترك. وعندما استولى إبراهيم باشا على البلاد قاوموه بضراوة؛ ليس عند مجرد احتلال عساكره للبلاد، بل أيضاً كلما سنحت الفرصة.
في جبل القدس تعيش عشائر بني حسن وبني زيد وبني كرة وبني سالم وبني مالك وبني حارث، وقد عاش الناس في ظل هذه التقسيمات المشيخية في القرن التاسع عشر كما لو كانوا يعيشون في ظل دول مستقلة متنافرة ومتعادية.
لقد أثر هذا الوضع على التكوين العام للشعب الواحد الذي يتكلم لغات مشتركة وتجمعه تقاليد مشتركة أيضاً، وأصبحت العزلة شعاراً للجميع بعد رحيل الجنود الفرنسيين عن فلسطين عام 1798، عاد الحكم المشيخي العشائري إلى البلاد وبدأت معه النزعات المحلية وعلى الأخص ذلك النزاع المستمر بين القيس واليمن، وكانت الحرابات تتم بناء على رغبة لأشياخ المقاطعات المختلفة والذين جعلوا البلاد تسير إلى هاوية المجاعة والفقر والخراب تحت ظل هذه الحروب أو الحرابات.
كانت الأرض تظل بدون زراعة، وعندما كانت قرية من القرى تسقط في يد فريق منتصر؛ كان يتم نهبها تماماً، ويصبح غنى اليوم فقيراً في اليوم التالي، ولذلك؛ كنت ترى الناس حفاة عراة في مناسبة ما. وعندما رغب شيخ بني حارث بمهاجمة بني حمار؛ كان واحد فقط من رجال الأربعمائة يلبس صندلاً بينما البقية حفاة .
انعكس الفقر العام في البلاد بسبب الحرابات التي أججها الأشياخ في ندرة النقد وتدني القوة الشرائية؛ فالأرض التي كانت تباع بألف قرش صارت من الممكن شراؤها بعشرين قرشاً فقط، ورطل الرز كان يكلف ثلاثين بارة، ورطلان ونصف من القمح بثلاثين بارة أيضاً، ورطل اللحم بست بارات، وجرة الزيت بخمسة وعشرين قرشاً.
وتعج كتب الرحالة بالحديث عن الحرابات التي كانت تقع بين القبائل والعشائر في القرن التاسع عشر، وهذه "مسز فن" تحدثنا عن "حرابة" شهدتها بعينها، والتي وقعت بين القرى الواقعة إلى الشمال الغربي من القدس، وتلك الواقعة إلى الجنوب الغربي من المدينة المقدسة تقول:
اشترك مئات الرجال في القتال عند كل طرف، ومع ذلك؛ كان هناك القليل من سفك الدماء، وخلال القتال تحدى أحد الرجال الشيخ علي شيخة لمبارزة فردية، وكانت الطريقة ذات ميزة فريدة من نوعها قال المتحدي:
تعال يا خيال القديش
بهذه الطريقة جاء التحدي يحمل إهانة الخيال، وإهانة الفرس وكان علي شيخه يعرف أنه يركب فرساً أصيلة، وهكذا أوقف هذا الفارس فرسه سلسلة ورد على الرجل الذي تحداه:
ولك على الأقل أنا مش ابن نوري.
وانطلق الخيالان، أسرع علي شيخة بفرسه يخترق الهواء بسرعة خيالية وحملته فرسه سالماً إلى الجهة المقابلة، في حين اخترقت طلقات بندقيته جسد متحديه.
كانت الحرابة تجري في الصباح الباكر وقبل الظهر، وبعد ذلك يذهب الرجال إلى مزارعهم، وفي المساء كان لهب النيران يرى في القرى لتكون تلك النيران بمثابة مشاعل تهدي الرجال إلى الغزاة القادمين. وكنا نسمع زغاريد النساء ومواواة الرجال في هدأة الليل.
وكانت النساء في القتال الصباحي تشجع الرجال بالأغاني والزغاريد وتعدد مناقبهم، وفي الحالات التي يتراجع فيها الرجال أو يجبنون؛ ينهال عليهم الناس بالشتائم اللاذعة فيسارعون إلى لهيب المعركة، وكانت النساء تحمل على روؤسها الذخيرة والطعام، وتقترب من المعركة لدرجة كبيرة. وفي كل الحالات تقوم المرأة بمراقبة كل ما يجري بعين القائمة بمهمة الاستخبارات؛ ترصد التحركات.
وهذه واحدة من أغاني التشجيع:
راحت مرت البطل توصيه
خليك مع الفايتات
إن متت يوم ظرب النبل
صيتك بنومس بناتي
راحت مرت النذل توصيه
خليك مع العاقبات
إن متت يوم ظرب النبل
بخاف تيتم بناتي
وأثناء القتال لا يجوز الاعتداء على المرأة أو إطلاق النار عليها. وللمرأة الحق في حماية الرجل وإنقاذ حياته، ويعتبر المقاتل الذي يقتل خصمه بحضور المرأة جباناً .
إن المبارزة الفردية بين فارس و آخر شائعة، وكثيراً ما كان يعتمد عليها مصير النزاع. وهذا طبيعي تماماً في مجتمع قبلي يحتل فيه مركز الشيخ مكاناً مرموقاً في تحديد أمور كثيرة، ويستمد ذلك وجوده من الحضارة العربية نفسها، التي تعتمد فيها مصائر الجماعات على الزعامات المشيخية، وكانت الثقافة السائدة تؤكد هذه المسألة؛ ففي السير الشعبية تدور الأحداث حول زعيم، ويتحدد مصير الجماعة كثيراً بنتيجة مصير هذا الزعيم.
وكان الجمع المنتصر يعود إلى القرية مع زحوف النساء في موكب يغنى للأبطال العائدين ويزغرد لهم، وكانت النسوة تصفق وترفرف بأردانها فوق رؤوس العائدين الذين يأخذون في إطلاق النار في الهواء.
وكانت التقاليد لا تسمح بأخذ الأسرى بل كان يتم ذبح هؤلاء في نهاية المعركة. وكان الرجل الشهم يأبى على نفسه أن يطلب الرحمة. وفي الحالات التي تهيج فيها العواطف؛ كان الناس يجتمعون في نهاية المعركة، ويعقد مجلس يتوسط الأشياخ وكان يعقد هذا المجلس لتحديد غرامة حربية، وكان يتم احتجاز الأسرى إلى حين جمع الغرامة.
وكانت تحسب الغرامة على أساس القتلى والجرحى، وكان من المتفق عليه ألا تصوب البنادق على المشايخ وبنتيجة القتال نفسه؛ كان يسقط عدد من القتلى أقل بكثير مما يمكن أن يتوقع، ويدفن القتلى في أرض المعركة.
ومثل هذه الحوادث يتم فيها التمثيل بالقتلى، مثل: تقطيع الجسد، ومنع الدفن، وترك القتلى تتناوشها جوارح الجو والبرية.
وبصورة عامة؛ كان القتلى ينقلون إلى قراهم ليتم دفنهم باحتفالات مناسبة.
الفساد:
يقصد بمصطلح الفساد، ذلك الخلاف التقليدي الذي ينشأ بين العشائر أو مجموعات القرى؛ بسبب حادثة قتل أو اعتداء على عرض أو مجرد وشاية تتطور لتصبح فتنة كبيرة، ويتطور الخلاف هذا ليصبح دافعاً للاحتكاك بين أفراد العشيرتين "المفسودتين"، وتتجدد أحداث الصدامات يوما بعد يوم وسنة بعد سنة. ويقول الرواة: أن سبب الفساد أثناء الانتداب البريطاني هو أن البريطانيين كانوا يعينون مختارين في كل قرية؛ لبث الشقاق بين الناس ولتغذية الأحقاد القبلية القديمة.
ويستفاد من أقوال الرواة ممن لا ينتمون للحمائل الكبيرة، أن الأفراد الثانويين وأبناء الأسرة الصغيرة (الخطف المسلح) كانوا يغذون الفساد بانتمائهم إلى إحدى العشائر الكبيرة المفسودة، وتغذيتهم بهدف القيام بدور إثبات الوجود، ويعبر الواحد من أولئك الأفراد الثانويين عن انتمائه لعشيرة من العشائر عن طريق السهر في مضافتها، وحضور الاجتماعات الحاشدة في المناسبات المختلفة التي تقيمها تلك العشيرة، كما يقوم مثل أولئك الأفراد ببث الأخبار ونقل الشائعات؛ فيستمر الشر وتتطور الأحداث التي تعبر عن نفسها بالطوشات.
تسجيل موقف شعبي:
إنه موقف شعبي جماعي رافض ومندد، عندما قتل إبراهيم أبو قالوش بتحريض من الجزار. وكان إبراهيم أبو قالوش ملتجئاً في قلعة الحصن، وفي حمى بني موسى "مشايخ وحكام بلاد الحصن"، ولما تولى أحمد باشا الجزار ايالة الورام؛ أوعز إلى بني موسى بالقبض على إبراهيم أو قتله. وأخذ هؤلاء يراقبون إبراهيم إلى أن ساروا معه إلى الصيد في وادي روايل؛ فغدروا به وقتلوه وأرسلوا رأسه إلى الجزار، مع إنه كان في حماهم وذمتهم، جالبين العار على أنفسهم، وبعد ذلك تغنى الشعب بهذه الكلمات مسجلاً موقفه من خيانة بني الموسى:
دوسي يا بنت دوسي
ع لحية حنا الموسي
يحرق حنا وجدوده
اللي سلم قالوشي
شكرا على المعلومات القيمة جدا
ردحذف