تاريخ الزراعة في قلقيلية وفلسطين
اعتمد سكان قلقيلية في طعامهم على ما تنتجه أرضهم من مواد غذائية بصفة عامة، إضافة إلى منتجات حيواناتهم من حليب وألبان واجبان. وقد زرعوا المحاصيل التي يحتاجون إليها لتأمين غذائهم من الحبوب والبقول والزيتون والخضراوات والفاكهة. وكانت الزراعة مصدر الرزق الأساسي لهم، وكانوا يستخدمون الأساليب الزراعية التقليدية القديمة، مثل المحراث اليدوي الخشبي عند الحراثة، والمنجل عند الحصاد ولوح الدراس عند درس
المحصول، وقد شكلت الحياة الفلاحية أجمل صور الحياة الفلسطينية، وهي في حقيقتها كنعانية الأصل، لم تستطع عوادي الزمن محوها، لأن الإنسان الفلسطيني عاش من الأرض وللأرض على مر العصور وكرّ الدهور. فالحقول، والبيادر، والمقاثي، وكروم الزيتون والعنب والتين، وبساتين التفاح والبرتقال، والمراعي الخضراء، والآبار، تشكل في مجموعها مكونات الحياة الفلاحية الفلسطينية، التي تعكس شدة ارتباط الفلاح الفلسطيني بأرضه. وقد اعتنى الفلاح الفلسطيني بالزّرْع والضَّرْع، فقَرَّب الطير والماشية إلى حياته وقاسمها المعيشة في بيته، وعانى مثلها الحَرَ والقَرّ، والشّرد والبرد. وبنى بيته من الطين، وسَقَفَه بخشب أشجار الوعر، وجعل عماد بيته القمح والزيت، وهما سبعين يدافعان عن أهل البيت ضد الجوع والضنك.
وكان لاعتدال درجات الحرارة والكميات الجيدة من الأمطار، والتي تجاوز منسوبها في المتوسط ولمدة 40 سنة نسبة الـ 600 ملم، بأن تميزت قلقيلية بإنتاج أنواع متعددة من المحاصيل الزراعية من أهمها الحمضيات والحبوب والبقول والعنب وقصب السكر والخضار. وكانت الحمضيات المحصول الرئيسي في قلقيلية حتى عام 1967، حيث تم تصدير نحو 25 الف طن من الحمضيات الى الاردن والدول العربية عام 1966م.
أ). الزراعة قبل النكبة عام 1948م
قبل عام 1948م كان القسم الأكبر من أراضي قلقيلية الزراعية يقع في السهل الساحلي، الذي شكَل نحو 27 الف دونم، وكانت هذه الأراضي تمتد الى كفر سابا والى بيار عدس غربا، والى الطيرة وكوفيش والطيبة شمالا، والى جلجوليا وراس العين جنوبا، بينما شكل القسم الجبلي الشرقي نحو 11 آلاف دونم.
وقبل حفر اول بئر ارتوازي في قلقيلية، كانت الزراعة تعتمد بشكل رئيسي على الزراعة البعلية، حيث كانت تزرع الحبوب والبقول والخضار في فصل الشتاء وتقطف في فصل الصيف. كما كان يتم ري بعض المزروعات بمياه الأمطار التي كان يتم تجميعها في أبار تحفر بعمق 5-6 أمتار، وتأخذ شكل حبة الكمثرى (انجاصة)، ويتم نشل الماء منها بقربة من الجلد او بوعاء من الفخار. وكان من أهم المزروعات في تلك الفترة العنب والمشمش والخوخ والتفاح واللوز والتين والبطيخ وقصب السكر والخضار والحبوب والبقول، التي كانت تعتمد بشكل مباشر على مياه الأمطار. اما الخضروات فكانت تزرع بعلاً، مثل البندورة والخيار والفقوس.. وغيرها.
وكانت اراضي السهل الساحلي تزرع بمختلف أنواع الحبوب والبقول، خاصة القمح والشعير والذرة والسمسم والفول والحمص والعدس. وكان السمسم يصدّر الى اللد ويافا، حيث كان يعصر ليستخرج منه الزيت، ولصناعة الطحينية والحلاوة.
وكانت زراعة الحبوب والبقول هي الزراعة السائدة في قلقيلية، قبل اتجاه الفلاحين الى زراعة الأشجار المثمرة والحمضيات، ويعتبر القمح والشعير بالإضافة إلى الذرة من أهم المحاصيل الزراعية التي دأب الفلاحون في قلقيلية على زراعتها، لطبيعة الأرض السهلية وخصوبة تربتها، وملائمتها لهذا النوع من الزراعة، واعتماد الفلاح بشكل أساسي على مياه الأمطار. ويعود السبب في التركيز على هذه المحاصيل إلى حاجة الفلاح اليومية لهذه الحبوب، فكان يصنع خبزه من القمح ويطعم مواشيه ودوابه من القش والشعير والذرة. واحتلت المحاصيل الحقلية اكثر من ثلثي مساحة الأراضي المزروعة، ولم يكن يستورد أي نوع من المنتجات الزراعية من خارج قلقيلية.
وكان محصول القمح المحصول الزراعي الرئيسي لاهالي قلقيلية ولفلسطين عموما، نظرا لاهميته كعنصر غذائي رئيسي، تعتمد عليه حياة الناس. وعندما يؤمِّن الإنسان لقمة عيشه، يضمن له ذلك تحقيق الامن الغذائي والاستقرار المعيشي، وبالتالي استمرار الحياة، وظل القمح على الدوام رمز الخير والنعمة والعطاء والحياة..
ومن اشهر انواع بذور القمح التي كانت تزرع في قلقيلية: القمح الدبّي والقمح الفاشي. وفي فترة لاحقة قمح العنبر. وكانت سنابل قمح الدبّي تميل الى السُمرة، وحبتها ممتلئة.
وسيتم التطرق الى محصول القمح بشيء من التفصيل، لأنه المحصول الرئيس في عمل الفلاح واهتمامه، وما ينطبق على محصول القمح ينطبق بصورة كبيرة على سائر محاصيل الحبوب والبقول.ويشمل محصول القمح عدة عمليات زراعية، مثل: الحراثة والبذار والحصاد والدراس والتذراة، والكربلة والغربلة والتنقية والتخزين.
الحراثة:
قبل ظهور المعدات الزراعية الحديثة، كانت وسائل الحرث والزراعة في الماضي تعتمد بشكل كبير على الجهود الذاتية للمزارع- الذي يعد المحور الأساسي الذي تدور حوله العملية الزراعية- وعلى ما تيسر له من دواب تقوم بخدمة العملية الزراعية، وما يصنعه من أشجار بيئته ادواته الزراعية. فقد استخدم الإنسان الحيوانات في حراثة الأرض وزراعتها- كالثيران والخيول والبغال والحمير، التي شكّلت في ذلك الوقت الطاقة المحركة لمختلف الادوات الزراعية.
وعود الحراث هو الأداة التي كان يستخدمها الآباء والأجداد في حرث وزراعة الأرض لتأمين لقمة العيش. وكان الفلاح او نجار القرية يصنعه من أخشاب الأشجار المتوفرة في قريته، ويتكون العود من عدة قطع خشبية توصل وتركب مع بعضها البعض، لتفي بالغرض الذي صنعت من أجله، وهو حراثة الأرض من اجل زراعتها.
وتبدأ حراثة الأرض وبذرها خلال تشرين الثاني شهر من بداية الشهر الى نهايته على ابعد تقدير، ولا يجوز التبكير او التاخير عن هذا الموعد. ويتم ذلك في العادة بعد أول هطول مطري جيد، ويحرث الفلاح ارضه لاعدادها للزراعة، مستخدما لذلك المحراث اليدوي ويحرثها بعمق 15-20سم لشق قشرة الأرض، وتفتيت كل الكدر، والقطع الكبيرة والكتل المتماسكة.
وتهدف عملية الحراثة الى حفر وتقطيع وتفكيك وتفتيت وتقليب التربة وتهويتها، حتى تصلح للزراعة؛ كما تعمل على التقليل من صلابة الطبقة السطحية للتربة، مما يُسَهِّل عملية بذر الحبوب، تحقيق نسبة معقولة من المسامية وتبادل الغازات بين الجذور والتربة من جانب وبين التربة والغلاف الجوي من جانب آخر؛ التخلص من الأعشاب الضارة؛ خلط الأسمدة بالتربة وتجانس توزيع الأسمدة؛ التخلص من مخلفات المحاصيل السابقة؛ تعريض الجراثيم والحشرات لأشعة الشمس والقضاء عليها؛ وتزيد من تخلل الهواء داخل التربة، الذي يسهّل على جذور النباتات المزروعة تنفّس الهواء والارتواء بالماء، مما يؤدِّي إلى سرعة نموّها.
ويقول الحاج عبد الله ابو خديجة (82عام)، وهو مزارع متمرس ان قلة قليلة من الفلاحين كانوا يحرثون الارض قبل عملية البذار، بل ان معظم الفلاحين لم يكونوا يملكون عود الحراث، ولا حتى الدواب التي تجر عود الحراث، وكانوا يستأجرون حراثين متخصصين، يحصلون عند درس المحصول على خمس الغلة، وفيما بعد اصحبوا يتقاضون اجرا نقديا لا عينيا مقابل الحراثة. واكثر ما كانوا يقومون به قبل زراعة المحصول هو تفتيح الأرض اي شقها الى اتلام متباعدة قبل هطول المطر خاصة عندما تكون قطعة الارض جبلية مائلة ولا تحتفظ بالماء كالأرض المنبسطة، وذلك من خلال حرثها بخطوط متباعدة بالطول والعرض، لكي تحتفظ بأكبر قدر ممكن من مياه الامطار، ولأطول فترة ممكنة حتى تمتصها بشكل جيد.
وكان الفلاح يعفر البذور على الارض، وعليها بقايا الزرع من المحصول السابق من جذور وحشائش، ومن ثم يقوم الحراث بحراثة البقعة التي تم بذرها، لتغطية الحبوب وطمرها تحت سطح التربة، حيث الدفء والرطوبة، وحتى لا تلتقطها الطيور. وتعتبر بقايا المزروعات من الموسم السابق، سمادا جيدا للمحصول الجديد، حيث انه مع طمرها تحت التربة تتحلل مكوناتها العضوية وتتحول الى سماد للمحصول الجديد.
وقبل البدء بالحراثة يفحص الفلاح ملائمة الارض للحراثة بأخذ حفنة من التربة وضغطها بين راحتيّ يديه، فاذا كانت رطبة ومتماسكة كالعجينة (اي ملبصة) تترك لبضعة ايام حتى تجف قليلا، والا كان من الصعب حرثها، لان الطين سيتراكم على سكة المحراث، وتجرف امامها كتل كبيرة من الطين، وفي ذلك تعب واجهاد كبير للحرّاث.
وكان المحراث التقليدي في الاصل محراث خشبي بالكامل الذي تجرّه الدواب، ثم كان المحراث الخشبي ذو السكة الحديدية، وتطور هذا المحراث بعد ذلك لتصبح كل مكوناته من معدن الحديد.
ويشبه "المحراث الخشبي" نظيره المصنوع من الحديد في شكله وطريقة عمله، وكان هذا المحراث سائداً لعصور من الزمن والى سنين قليلة قبيل الاحتلال البريطاني لفلسطين، ويعتقد أن الأجزاء الحديدية في المحراث استُعملت منذ بداية الاحتلال البريطاني.
ويطلق على المحراث الذي تجره الدواب، إسم العود او عود الحراث، هو الآلة الوحيدة التي استعملت منذ التاريخ القديم حتى بداية الستينات من القرن الماضي، حين بدأت تدخل الى قلقيلية آلات الحراثة الميكانيكية كالتراكتور او الجرار. وتعتبر "سكة المحراث" القطعة الرئيسية في المحراث، وهي من الحديد ثقيلة الوزن، تكون على شكل سهم حاد الرأس، ولها طرفين على شكل اجنحة للتوازن. تعمل السكة على شق التربة وتقطيعها وتقليبها وتفتيتها حتى تصبح صالحة للزراعة، معتمدة في ذلك على وزنها وحدّة رأسها، وقوة ضغط الفلاح على مقبض المحراث، وقوة الدابة التي تجر المحراث.
ويساعد مقبض المحراث الفلاح في التحكم بشكل جيد في المحراث وتوجيهه بشكل جيد في المسار المطلوب، وامالته يمينا وشمالا، والى اعلى والى اسفل، ليتسنى لسكّة المحراث الغوص في التربة بالعمق المطلوب وشقها وتقليبها، والذي يعتمد بالطبع على نوع التربة، ودرجة الرطوبة، ونوع المحصول الزراعي.
استعمل المحراث قديما في حراثة الأرض وتنعيم التربة لإعدادها للزراعة. وهو بطول متر تقريبا وبارتفاع 60سم تقريبا، ويتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية: الأول، وهو الجزء الأمامي والأطول في المحراث يمتد بشكل مائل نحو الأمام ونهايته منحرفة قليلا الى الأعلى، تربط نهايته بحبل الى دابة او دابتين لجر المحراث، ويكون أطول للأمام من الجزء الأسفل، ويسمى الوصلة، والثاني، ويكون قصيرا ينتهي بذكر تثبت عليه سكة خشبية أو حديدية مدببة، لتستطيع النفاذ في التربة وشقها، والثالث، وهو عمود المحراث، ويسمى البرك، وهو الذي يرتكز على القاعدة، وينتهي بمقبض يمسك به الفلاح ويسمى كابوسة، يضغط عليه بقوة لتنغرز السكة في الأرض بشكل أكثر.
وفي حال الحرث على دابة واحدة يربط المحراث الى الدابة بواسطة الشرعة، وهي قطعة غليظة من الخشب بطول 60سم، وتثبت بشكل عرضي مع وصلة المحراث، يكون بطرفيها حلقتان يربط فيها حبلين يربطان الى الكردانة، المثبتة على رقبة الدابة يسميان ارياح. أما توجيه المحراث فيكون من خلال حبلين مربوطين إلى الدابتين، يستخدمها الفلاح في توجيه الدواب، للمحافظة على بقاء المحراث في خط مستقيم.
اما في حال الحرث على دابتين، يمتد حبل متين من وصلة المحراث الى النير الممتد أفقياً فوق عنقي الثورين.
ويحتاج عود الحراثة لجهد كبير وصبر أكبر، إلى جانب معرفة الفلاح كيفية مسك المحراث، وكيفية توجيهه، وكيفية المحافظة على استقامة خطوط الفلاحة وتوازيها. وبمقدار ما يكون الفلاح أكثر خبرة في التعامل مع المحراث، يكون عمله أسرع وأسهل وأكثر اتقانا. والفلاح المتمرس يحرث التربة جيداً، ويجعلها في خط مستقيم، وبعمق متساوي تقريبا، فلا يدع السكة تغور كثيرا في الأرض، ولا يتركها على سطح التربة، ولا يستعجل في الفلاحة ولا يبطئ، ولا يترك فيها اي بقعة صلبة غير محروثة.
وقبل دخول الآلة والمكننة الزراعية إلى الحقول، كان للحيوانات دور كبير وأساسي في اعمال الزراعة، حيث كانت تستخدم في حراثة الاراضي ونقل المحاصيل الى البيدر ودراس المحصود.. الخ.
اما الحيوانات التي كانت تستخدم للحراثة فهي البقر والحمير والبغال والخيول. وفي اليوم المعد للحراثة كان على الفلاح ان يستيقظ مبكرا،ً أي قبل أذان الفجر، وذلك لإطعام الدواب التي ستخرج للحراثة، لأنّه كان يأخذ إلى الحقل أكثر من دابة من أجل التبديل فيما بينها، ويحرث على كل دابة عدة ردات، والردة الواحدة عبارة عن حراثة ذهاب واياب في طول الارض او عرضها، اما التلم فهو حراثة ذهاب او اياب، اي شق واحد. ويتمّ إطعام الدابة من خلال كيس يوضع فيه علفها، ويعلق في عنقها، ويكون فم الدابة داخل الكيس، ويطلق عليه اسم مخلاة او معلفة. وبعد حرث عدة ردات على الدابة الاولى، يدعها تستريح، ويستبدلها بالدابة الثانية، ليكمل الحرث عليها،. وهكذا.
وقد يستخدم الفلاح في عملية الحراثة زوجاً من البقر او الثيران يسمى (فدان)، او ثوراً وحمار، او زوجاً من الحمير، ويكون لديه المحراث المناسب لها مع ادواته ولوازمه، وقد يحرث على راس واحد من الخيل او البغال، لانها اقوى الدواب على جرّ المحراث، وأكثرها صبراً وتحملاً للتعب. ويعتمد استخدام حيوان او اكثر في الحراثة على نوع الزراعة أكانت بعلية ام مروية، محاصيل ام اشتال، وطبيعة الأرض- جبلية صخرية وعرة ام سهلية، وكذلك نوع التربة.
وكان الحرّاث يبدأ يوم عمله في الحراثة من قبل شروق الشمس، ويبقى الى غروبها، إلا في حال نزول المطر المستمر والشديد.
وعلى الرغم من وجود الآت الحراثة الميكانيكية الحديثة، التي اختصرت الزمن والجهد ورفعت من حجم الإنتاجية، الا انها لم تستطع تنحية المحراث التقليدي نهائياً عن مسرح الحياة الزراعية، فهو لا يزال -وان قلّت اهميته- يستخدم عند بعض الفلاحين في قلقيلية، وينتشر استخدامه بشكل أكبر في القرى المجاورة، نظراً لطبيعتها الجبلية الصعبة، حيث الحقول الزراعية عبارة عن أراض كثيرة الوعورة، تتخللها عدّة بقع من الأراضي السهلية الصالحة للزراعة. كما أن صغر مساحة بعض الاراضي وعدم تناسقها في شكلها، وعدم وجود طرق لبعض الاراضي الزراعية، جعل من الصعب على المحراث الميكانيكي الوصول اليها وحراثتها، مما حفظ للمحراث الزراعي القديم مكانته، واستمر في القيام بما عجزت الآلة عن القيام به. فالمحراث اليدوي يمكّن الفلاح من الدخول إلى أصغر المساحات وأضيقها، وهذا يتيح له حراثة كل شبر من الأرض واستغلاله في الزراعة. كما ان ارتفاع تكلفة الحراثة الميكانيكية بالمقارانة مع الحراثة التقليدية، جعلت الفلاح يستمر في استخدام المحراث التقليدي.
البذار:
بعد تجهيز الأرض للزراعة، تبذر الحبوب خلال شهر تشرين ثاني/11. وينتظر الفلاح حتى تمطر السماء وتروى الأرض، وتنبت الأعشاب الطفيلية التي تسمى (الغريبة)، فيقوم ببذر حبوب القمح وفلاحة الأرض كي يطمر الحبوب، ويقضي على الأعشاب الضارة. واذا تاخر البذار الى ما بعد شهر تشرين ثاني/11، ادى ذلك الى انخفاض انتاج المحصول..
ويختار الفلاح الوقت المناسب لبذر الحبوب، من حيث اتجاه الرياح، ودرجة رطوبة الارض، ويجب ان تكون الارض رطبة الى عمق لا يقلّ عن 30 سم، أما إذا قلّ عن ذلك، يصبح احتمال نجاح المحصول ضئيلاً، خاصة اذا انحبس المطر لفترة طويلة.
ويقل الحاج عبد الله ابو خديجة ان الفلاح كان يحمل حبوب القمح بكيس يشبه المخلاه يعلقه في وسطه من الامام، ويقف على بعد خمسة امتار من طرف قطعة الارض ويبدأ بعفر الحبوب على الأرض من جهة اليمين، وعندما يصل الى نهاية الارض، يعود على نفس الخط الوهمي الذي بدأ منه، ويبذر الى يمينه ايضا، وعندما يصل الى النقطة التي انطلق منها يكون قد بذر عشرة امتار على طول الارض او عرضها. وهكذا يستمر ببذر الحبوب على الجزء من الأرض جيئة وذهابا، حتى ينتهي منه فينتقل الى جزء آخر، وكلما فرغ الكيس قام بتعبئته من جديد، وبهذه الطريقة يضمن الفلاح توزيع الحبوب على الأرض بشكل متساوي قدر الامكان
وقد يبذر الفلاح حبوب القمح في اتجاهين متناقضين، مرة على اليمين وأخرى على الشمال، حتى يصل الى نهاية الارض، ثم يعود على خط آخر وليس الخط الذي بدأ منه. والفلاح او البذار المتمرس، يجعل الحبوب متوزعة بشكل جيد، بحيث لا تكون متلاصقة كثيرا او متناثرة بعيدة عن بعضها.
ويقول الحاج محمد سعيد هلال (ابو بلال 87عام)، في هذا السياق ان البذّار الماهر كان يعرف من خلال وضع كف اليد على قطعة الارض التي تم بذرها، فاذا كان تحت الكف سبعة حبات من بذور القمح اعتبر ماهرا في البذار، واذا كانت اكثر او اقل من ذلك اعتبر غير ماهر.
وينثر الفلاح الحبوب على الارض وهو يقول: "بذرنا الحب وتوكلنا على الرب"، فموسمه الزراعي الذي ترتبط به حياته مرهون بكرم السماء، فإن أمطرت وكان مطرها كافياً يكون موسمه جيداً، ويكفي لتأمين حاجاته الغذائية، وإن شح المطر فأن آماله تطمر مع حبة القمح، وبين بذر حبة القمح وطمرها تحت التراب، وتناولها خبزاً في الفم رحلة طويلة من العناء والعرق والجهد والصبر والأمل والدعاء.
وبعد بذر الحبوب يقوم الفلاح بحراثة الأرض لطمرها تحت التربة، حيث الدفء والرطوبة والغذاء. وفي شهر نيسان يبدأ تعشيب المزروعات الشتوية، أي اقتلاع الأعشاب الضارة، وهي عملية بطيئة ومتعبة وعادة تقوم بها النساء. وكان التعشيب مسموحا به لمن شاء من أهل القرية، وليس مقتصرا على أصحاب الحقل، وذلك لاطعام حيواناتهم من العشب.
ويقول الحاج يوسف قزوح انه عندما كان يتأخر هطول المطر حتى نهاية شهر تشرين ثاني/11، او هطلت خلاله امطار قليلة، يقوم الفلاح بزراعة ارضه بطريقة (العفير)، وهي الزراعة المبكرة قبل هطول المطر، حيث يبذر الفلاح حبوب القمح على الأرض وهي جافة ثم يحرثها، على امل ان يكسب الهطولات المرجوة من أول شتوية، لكي تشق حبة القمح مشوارها الأول نحو الشمس. ولكن لهذه الطريقة مخاطرها، فإذا نبت القمح وانحبست الأمطار لمدة طويلة، فلا يكمل الزرع نموه ولا تعقد السنابل، ويخسر الفلاح موسمه، وفي هذه الحالة يجعله الفلاح طعاما للحيوانات، وهذا ما يعوض نسبياً من خسائر المزارع..
حصاد المحصول:
كان موسم الحصاد في شهر تموز من كل عام مهرجان للحياة، فهو مهرجان اقتصادي، اجتماعي، تراثي، لقد كان يمس حياة كل فرد في الأسرة تقريبًا وكل عائلة في البلدة، وكان له انعكاسات عامة وخاصة عند الكثيرين، وكان له آثار مباشرة وغير مباشرة على الكثيرين أيضًا بل على أغلب أهالي البلدة.
والحصاد هو عملية جني المحصول الزراعي، بعد ان ينضج ويصبح جاهزا للحصاد. والمحصول الزراعي هو أي نبات يزرع في مساحة حقلية ليحصد بعد نضجه، بهدف استخدامه كغذاء للإنسان أو كعلف للحيوانات والطيور، أو لاستخدامه في الانتاج الصناعي مثل القطن والكتان والذرة والزيتون والتبغ وقصب السكر والسمسم وزهرة عين الشمس. وكان الحصاد يتم قديمًا بآلات يدوية مثل المنجل. والمنجل قطعة من الحديد، معكوفة على شكل قوس "نصف دائرة"، ومسنّن من الداخل أسناناً حادة، وله يد من خشب، ويستخدم في حصد المحاصيل الزراعية، مثل القمح والشعير.
لم يكن الحصاد مجرد جني ثمرة تعب الموسم، بل كان عرساً لكل من يشارك به من أهل القرية، كانت ترافقه طقوس جميلة استمدت موروثها من عادات وتقاليد الآباء والأجداد، ومؤكدة على مدى حب الفلاحين للأرض التي كانت المورد الأساسي لحياتهم ومعيشتهم.
ويعتبر العمل في الحصاد واحداً من أصعب الأعمال وأكثرها مشقة وتتطلب التحضيرات والاستعدادات له تعاون أفراد الأسرة بشكل تسود فيه روح العمل الجماعي ويبعث الحماس في النفوس ويحفز على التنافس لإنجاز العمل في اقصر وقت ممكن .
فمع فجر كلِّ يومٍ يُعلن الآذان ساعة الاستيقاظ، وتعلن رائحة خبز الطابون ساعةَ الفطور، يصطحبون أطفالهم ونسائهم، ويغادرون منازلهم إلى أماكن الحصاد قبل شروق الشمس في مجموعات تكون أراضي أفرادها متقاربة، وعند وصولهم إلى الحقل تعلن رائحة الزرع الزكية ساعة البداية، ساعةَ العمل، ساعة الحصاد، إنه موسم الحصاد، موسم الخير، موسم العطاء، موسم الحب، موسم التعاون، وموسم الحياة.
وعندما يكون محصول القمح جيدا تشاهد سنابل القمح وهي تحني رأسها الى اسفل حتى تكاد تلامس الأرض، بسبب كثرة الحبوب في السنبلة، وامتلاء حبّة القمح الامتلاء المناسب، وكثرة عدد السنابل على السيقان، فتعجز عن حملها، لثقل وزنها.
اما عندما يكون المحصول غير جيّد تشاهَد سنابل القمح تتراقص وتتمايل مع نسمات الهواء العليل، لخفة وزنها، بسبب انخفاض عدد الحبوب في السنبلة، وضمور حبات القمح لعدم امتلائها الامتلاء المناسب، كما يقل عدد السنابل على الساق الواحد.
وعندما يستوي القمح على سوقه ويعجب الزراع نباته ثم يهيج ويصبح مصفرّا، تبدأ مرحلة حصاد المحصول. وأول ما يبدأ به الحصادون هو تحديد البقعة التي سيحصدونها، ويصطفون متقابلين في مواجهةِ الزرع وبخط مستقيم، ويحملون بأيديهم المناجل، التي يكونوا قد شحذوها جيداً قبل موسم الحصاد، لزيادة حدتها وجعلها قادرة على قطع سيقان القمح والشعير بسهولة، ويشرعون في وقت واحد بعملية الحصاد. يجمع الحصاد سيقان القمح بنصل المنجل ويمسكها بيده اليسرى، ثم يقطعها بالمنجل بيده اليمنى، ويلفها بمهارة بعدة سيقان من النبات تمنعها من البعثرة، ويرميها وراءه، وتسمىالقبضة من المحصود او ما يملأ الكف من نبات القمح عند حصده من الأرض "شمالة"، وجمعها شمائل او شمايل، ويقوم الغمّار وهو من يقوم بجمع شمايل الحصاد وراء الحصادين، ويجعلهاعلى شكلكومات تسمى أغمار، ومفردها غُمر، وهو حزمة كبيرة من القش، لكنها خفيفة الوزن، ويستطيـع الولد أن يحملها في حضنـه.
ومهما كان الحقل كبيرًا أو صغيرًا، فان مجموعة من الحصادين تكون في صف واحد، وخلف كل واحد منهم يقف رجل أو امرأة لجمع ونقل ما حُصد إلى الخلف الى مكان تجميع المحصود في عدة أكوام كبيرة في أماكن متفرقة من الحقل، وذلك لسهولة نقله إلى البيادر لاحقاً. وكلما انتهى الحصادون من بقعة واحدة ينتقلون إلى أخرى، وكلما مضى الوقت اتسعت المساحة المنجزة، بينما يظل أمامهم بحر من سهول القمح المنتظر حصادها.
والحصّاد يجب أن تكون لديه المهارة والقدرة، ويحصد اولا باول، ويجب ان لا يترك وراءه جزءًا غير محصود.
وبينما يقوم الرجال بالحصاد تقوم النساء والاطفال بجمع ما يحصده الرجال ويتعاون الجميع من رجال ونساء وأولاد على جمع السيقان ووضعها في مكان يسمى الغمر. وفي العادة يكون في الحقل الواحد عدة اغمار.
وكان يحرص الناس ان يقوموا قدر الامكان بعملية الحصاد في وقت واحد، يعملون بجد ونشاط وكأنهم في سباق، للانتهاء من حصاد محاصيلهم في نفس التوقيت مع جيرانهم، لئلا يلحق محاصيلهم ومزروعاتهم الضرر نتيجة رعي الحيوانات في الحقول المجاورة.
وكان للحصاد كما لسائر العمل الزراعي اخلاقياته وادبياته في الحياة الاجتماعية في القرية، التي كانت تسود فيها روح التعاون، والعمل الجماعي، فعندما ينتهي شخص ما من حصاد محصول أرضه مبكراً، بينما لا يزال شخص آخر يعمل في حقل مجاور له، كان يدفعه الواجب الاجتماعي الى مساعدته حتى نهاية النهار، وهكذا فإن بقي في الجوار أسرة واحدة لم تنه حصادها، هب جميع الحصادين المجاورين لمساعدته، حتى ينتهي الحصاد، وتسمى هذه بالعونة او الفزعة.
ورغم قساوة العمل كانت الناس تتمتع بروح المحبة والتآلف والتكاتف والتعاون، يحذوهم الامل الكبير في غدٍ مشرقٍ ومحصول وفير، ومستقبل أمن ومستقر
واعتاد الفلاحون الغناء أثناء الأعمال الشاقة كالبناء والعقد، وحمل الأحمال الثقيلة، وأثناء الجداد والحصاد ليروحوا عن أنفسهم ويشغلونها عن التفكير بالتعب والجهد وللتشجيع وبعث الهمم والنشاط في النفوس,
بعد الانتهاء من عملية الحصاد، يذهب الفقراء بعد ذلك الى الحقول لجمع ما تبقى من حبوب وسنابل وطعام للحيوانات، وتصبح الحقول المحصودة مرتعا للحيوانات البيتية، ويسمح للرعيان احضار قطعان البقر والغنم الى الحقول المحصودة، لتنال نصيبها مما تخلف من حبوب ونباتات مفيدة لتلك الحيوانات، والتي هي بالمقابل تعتبر فضلاتها "روثها" سمادا للأرض التي ترعى فيها. كما تاتي للطيور بمختلف انواعها لتنال نصيبها من خيرات الحقول.
ان عملية حصاد الشعير اصعب من حصاد القمح وتحتاج لجهد مضاعف من الفلاح لان ساق الشعير اقصر من القمح وبالتالي يضطر الفلاح عند حصاد محصول الشعير للزحف على رجليه.
وقد ظهرت بعد حلول الانتداب البريطاني على فلسطين آلآت الحصاد الميكانيكي، ذات الاطارات المعدنية، وكانت تجرها الخيول. ويقول الحاج يوسف قزوح نزال، انه كانت لديهم مثل هذه الحصادة، لكن المنجل ظل اداة الحصاد الرئيسية، حتى دخول الالات الميكانيكية المتطورة، والتي تعمل على وقود الديزل.
الرجادة والدراس والتذرية والغربلة:
1. الرجادة (رفع او شيل المحصول الى البيدر)
وتعني حمل الزرع بعد الحصاد ونقله إلى البيدر. فبعد انتهاء عملية الحصاد، يحزم الشيّالة سنابل القمح ويجعلونها أحمالاً، ويضعون كل حمل على شبكة، أو يربطون كل حمل بحبل طويل، ثم ينقولها على ظهور الجمال والحمير والبغال إلى البيدر، ويتم تكديسها على شكل كومة كبيرة من القش على ارض البيدر، تسمى "حلّـة". وتسنمر علمية النقل والتكديس حتى الانتهاء من نقل كامل المحصود، تمهيداً لعملية الدراس. وتسمى عملية النقل بـ "الرِّجادة"، والشخص الذي ينقل يسمى "رجّاد"، وجمعها رواجيد.
الحلّـة - كومة سنابل القمح على البيدر لدرسها
والبيدر هو المكان المخصص لجمع المحاصيل الزراعية من أجل درسها ونزع الحبوب منها قبل تخزينها. وتتراوح مساحة البيدر الواحدة بين 150-200 متر مربع، وهي مساحة كافيـة لمحصول واحد في الوقت الواحد على الأغلب، إذ نادراً ما يتجمع أكثر من محصول على البيدر في آن واحد. وقد يتجمع في منطقة واحدة عدة بيادر، تفصل فيما بينها بسناسل من الحجارة. كما أن بعض الفلاحين الذين لا يملكون بيادر خاصة بهم قد يستعملون الاراضي "المَشاع"، او يستأجرون قطعة ارض يقيمون عليها البيدر. وعند اختيار موقع البيادر يفترض أن تكون بشكل عام في أماكن مفتوحة للهواء، من أجل تسهيل أعمال التذرية، فلا تكون هناك حواجز طبيعية كالتلال، أو اصطناعية كالبيوت والحقول المُشجّرة. كما يجب الا تكون بعيدة عن مساكن القرية ليتيسّر للفلاح سرعة الوصول إلى البيت لقضاء الحاجة، كما يحقق القرب من مساكن القرية بعض الامان، لان الناس كانوا ينامون على البيدر لحراسة غلالهم خلال موسم الدراس، كما يمكّن اهليهم من احضار الاكل والشرب لهم بكل سهولة ويسر. وكان في قلقيلية بعد حرب عام 1948م بيدران، احدهما في الشمال في منطقة غياظة حي نزال، والآخر في الجنوب في منطقة الظهر.
تبدأ الأعمال المتعلقة بالبيدر بتهيئته لاستقبال المحصول، وذلك بتَعزيل البيدر وتنظيفه من الحجارة وطمر الحفر، والتخلص من النباتات الشوكية إن وجدت.
ومن أبرز المحاصيل التي تنقل من الحقل إلى البيدر لفصل الحبوب عن السيقان وباقي أجزاء النبتة هي القمح والشعير والقيطاني (الفول والعدس والبيقياء والكرسنة) والذرة والسمسم.
2. الدراس:
ويقصد بالدراسة او الدراس تفكيك الحبوب عن بقية أجزاء النباتات. ويبدأ عملية دراس المحصود من أواسط تموز وحتى أواسط آب.
يحضر الفلاح واولاده الى البيدر وهم يحملون الدقارين أو الشواعيب، ويقومون بنشل سنابل القمح من الكومة او الحِلّة وفرشها على ارض البيدر في مساحة دائرية يتراوح قطرها بين 10-15 مترا، وهي ما تسمى بـ "الطرحة". ويحدد اتساع الطرحة او ضيقها كمية المحصول وعدد الحيوانات المستعملة في الدّراس. ويستخدم الدقران او الشاعوب في عملية فرش المحصود. والدقران عبارة عن قطعة من الفولاذ على شكل أصابع اليد الواحدة، لكنها متساوية في الطول وطول كل منها 30 سم، وهي ليست مستوية، بل محدبة قليلاً، وتثبت على عصاً خشبية بطول يتراوح بين 100-120 سم. يستخدمه الفلاح لينقل القش من الكومة وفرشها على البيدر او لتقليب الطرحة.
بعد فرش سنابل القمح على البيدر، تساق الحيوانات (الثيران او الحمير او الخيول) إلى الطرحة، لتدوسها بأقدامها، حيث تبدأ بالدوران بشكل دائري ومستمر فوق طرحة القش، لتمزق بحوافرها القش وتنزع الحبوب من السنابل. وقبل المباشرة في عملية "الدراس" توضع كمّامات حول رؤوس الحيوانات، لمنعها من أكل السنابل والقش أثناء الدراسة. ولا بد للفلاح او أحـد اولاده من اللحـاق بهـا، أي يمشي وراءها على الطرحة حتى لا تخرج عنها، ولا تتوقف عن العمل. وقد يركب احد الاولاد على احدى الدواب، ويسوق وراءه باقي الحيوانات، التي تكون من الحمير او الثيران أو الخيول والبغال. ويقوم الفلاح بين الحين والآخر بتقليب الطرحة، الاعلى الى الاسفل، والاسفل الى الاعلى، حتى يظهر القش السفلي الذي لم تصله إقدام الدواب.
وعلى الفلاح أن يعيد ما تناثر من القش أو أجزائه بفعل حركة الحيوانات إلى الطرحة، لتظل على شكلها الدائري المنتظم، كما أن عليه أن يحافظ على الفتحة في مركز الطرحة وقطرها حوالي المتر ان تظل خالية من القش، لتعطي الحيوانات فرصة الانتظام والحركة، وبخاصة الحيوان الأقرب نحو المركز، وكلما طمرت هذه المساحة الصغيرة يتوجب على الفلاح أن يعيدها إلى حالهـا بواسطة الدقران وتسمى هذه العملية "قلب الطرحة".
وتستمر الدواب بالدوران على الطرحة حتى تهمد جيدا، وتصبح مهيأة ليوضع عليها لوح الدراس الذي تجره الدواب. ويتكون لوح الدراس من قطعتين مستطيلتين او اكثر من خشب البلوط الثقيل، عرض الواحدة منها نحو أربعين سم، وطولها نحو متر ونصف سم، وسمكها نحو 4سم، وتثبّت القطعتين مع بعضهما بعوارض خشبية، بحيث تصبحا لوحا خشبا واحدا. ويتم حفر ثقوب كثيرة في اللوح يكون قطرها في حدود 4سم، توضع فيها حجارة نارية صلبه وحجارة صوّان سوداء، وهي ذات حواف حادة، يتم تثبيتها في الثقوب من خلال الطرق عليها. وتكون مقدمة اللوح منحنية قليلا الى الاعلى من جهة الامام حتى يسهل انسياب اللوح وانزلاقه فوق القش دون أن يرتفع القش فوق اللوح، أو يندفع أمامه. وعندما يبدأ الحيوان بالدوران على الطرحة المفروشة على ارض البيدر، يكون وجه اللوح المثبتة عليه الحجارة الى الاسفل، بينما توضع على وجهه الاعلى اثقالاً من الحجارة، او يركب عليه الرجل الداروس ليضيف ثقلاً كافياً لسحق سنابل القمح وتنعيمها بمرور الحجارة النارية عليها، اثناء جرّ الدواب للوح الدراس. وإذا كان الدوران باتجاه عقارب الساعة، فيجب أن يتغير للاتجاه المعاكس، بين فترة وأخرى، لتوزيع الجهد على كتفي الحيوان.
وفي فترة لاحقة أيام الانتداب البريطاني استخدم الناس درّاسة حديدية لها دواليب مسننة تجرها الخيول، يثبت فوقها مقعد خشبي يجلس عليه الدرّاس او الأطفال، تسمى النورج. ويشبه النورج في شكله مقعد طلبة المدارس، لكن بدون طاولة أمامه، ومثبت فوقه مظلة من الخيش لتقي الراكب عليه من حرارة الشمس. ويسير النورج على عدة عجلات مسننة من الصاج السميك تسمى تروس، ويدور به الحصان او البغل الذي يجره على "الطرحة" المؤلفة من سنابل الحنطة المفروشة حول البيدر. وتقوم المسنّنات بفرم السنابل وتهشيمها خلال دورانها عليه.
وتدور الحيوانات بشكل دائري فوق الطرحة، وبعد أن تنتهي المرحلة الأولى من الدراس، يتم تقليب الطرحة بالدقران عدة مرات وفرشها في كل مرة تحت النورج، ليعاد درسها وتنعيمها من جديد. والتقليب هي استبدال السطح العلوي للطرحة بالسفلي منها باستخدام الدقران، الذي يجعل أسفلها عاليها، فيظهر الجزء الخشن الذي لم يدرس كالسطح العلوي. وهكذا تتكرر عملية الدراس والتقليب الى ان تصبح الطرحة بكاملها ناعمة، وتنتهي عملية الدراسة. وتشكل الطرحة خليطاً من الحبوب والتبن والقصل وعيدان القمح الثخينة، مخلوطة ببقايا الحصى والتراب والاشواك، التي تكون قد علقت بها من ارض البيدر، وهنا تأتي عملية التذرية لفصل الحبوب عن هذه الشوائب والعوالق. بعد ذلك يتم تجميعها في الطرف الغربي من البيدر على شكل كومة كبيرة وطولية على ارتفاع متر او اكثر، وممدودة من الشمال الى الجنوب، حيث المكان الذي ينطلق منه الفلاح ويبدأ بعملية التذرية.. والغرض من وضع الكومة في الطرف الغربي من البيدر، هو جعل مشتقات التذرية تتساقط في الاتجاه الشرقي من البيدر، ولا تطير خارجه.
ويستخدم في عملية التجميع الدقران، والمذراة، والكواشة، ومكنسية مصنوعة من نبات النتش الشوكي.
3. التذرية والغربلة:
كانت اعمال التذرية قبل وجود آلات التذرية الحديث تجري بطريقة بدائية عن طريق استغلال هبوب الرياح، حيث يختار الفلاح اليوم او ساعات اليوم التي تهبّ فيها الرياح اللطيفة، وتكون رياح غربية او شمالية شرقية، ويقف فلاح متمرس في طرف الكومة من الجهة الجنوبية، ويقوم بعملية التذرية لفصل القمح عن القش الناعم- التبن، باستخدام مذراة خشبية خفيفة الوزن، مصنوعة خصيصاً لهذا الغرض.
والمذراة عبارة عن عصاة خشبية غليظة بطول متر ونصف، تنتهي بخمسة اصابع خشبية بعرض قراطين لكل أصبع، حيث يبدأ الفلاح- وحسب قوّة الريح- برفع كمية مناسبة من خليط الدريس الناعم بالمذاراة، ويعفرها في الهواء بحركة منظمة وماهرة، فتسقط حبات القمح أمام "المذرّي"، لعجز الرياح عن حملها لثقل وزنها، والى جهة الشرق قليلاً حيث اتجاه الريح تسقط عقد القش- القصل، بينما يسقط التبن على بعد مترين او اكثر من كومة القصل، لخفة وزنه، والى الشرق منه تسقط ادق القطع وانعمها من الحصيد المدروس، وتسمّى الدُق. وبعد انتهاء التذرية يكون قد تشكلت اربعة اكوام على ارض البيدر، من الغرب الى الشّرق، وهي:
- - كومة الحب من قمح او شعير وتسمى الصّليبة
- - كومة القصل، وهي عقد القش التي تدفعها الريح إلى مسافة أبعد قليلاً من كومة القمح، لأنها أخف وزناًً منه"، ويستخدم في صناعة اللبن الطيني، لكي يجعل الطين أكثر تماسكاً، كما يستخدم وقودا للطابون
- - كومة التبن وهو الذي يطير إلى المسافة الأبعد، حيث يكون أكثر نعومة من باقي التبن، ويستخدم في تغذية الحيوانات
- - كومة الدّق - وهو التبن الناعم الذي لا يصلح طعاما للحيوانات، ويستخدم للفرش تحت الحيوانات في مكان مبيتها
ويستمر الفلاح في هذه العملية حتى ينتهي من الكومة كلها، ليضع بعد ذلك غيرها. وعادة ما كان الفلاح ينام على البيدر طيلة موسم دراس المحصود وتذريته، ليبقى حارساً لغلته.
ويقول العم ابو بلال (محمد سعيد هلال -87عام) ان عملية التذرية تتطلب مهارة كبيرة، ولا يستطيع كل فلاح القيام بها، وكان في قلقيلية أناس متخصصين في هذه المهنة، ويتلقون اجرهم عينا بعد الانتهاء من اعمال التذرية والغربلة.
بعد انتهاء الرجال من أعمال التذراية، تقوم النساء بعملية فصل جديدة لحبوب القمح عن التبن والقش والقصل والأوساخ والتراب والصرار والزوان واية شوائب اخرى، باستخدام الكربالة والمسرد والغربال.وهذه الأدوات يتكون كل منها من إطار خشبي يبلغ عرضه حوالي 10 سم وسماكته بين 8-10ملم، ملتف بشكل دائري ليشكل إطاراً قطره 60سم، ومزوداً من الأسفل بثقوب تمرر منها خيوط من أمعاء الحيوانات المجففة تنسج وتتقاطع داخل الإطار، لتشكل بتقاطعها مع بعضها العيون او الثقوب التي تكون أكثر اتساعاً في الكربالة، وأصغر في المسرد، ثم أصغر في الغربال.
تضع احدى النساء كمية مناسبة من القمح في الكربالة ذات الثقوب الواسعة، وتقوم بحركات اهتزازية دائرية ثم تحرك الغربال يميناً وشمالاً، فينزل من عيونه التراب، وحبوب القمح والحصى الصغيرة والتبن، بينما يبقى فوق الشبك الحصى الكبيرة والقش الثخين والقصل، وما يكبر حجمه عن فتحات عيون المقطف، وترميها جانباً.
ثم تأخذ امراة اخرى كمية مما تجمع من الحبوب بعد الغربلة الأولى، وتضعها في المسرد، وهو ذا ثقوب أضيق من الكربالة، وتهزه بقوة، فيسقط منه القمح والتبن والتراب والحصى الصغيرة والزوان، وتبقى فيه بعض الحصى الكبيرة والقصل.
وعندما تنتهي عملية تنقية الحبوب من الشوائب، تصبح كومة كبيرة من القمح جاهزة للتعبئة في الشوالات لنقلها الى البيت او لبيعها على البيدر، وتسمى هذا الكومة صليبة القمح.
وتقول الحاجة ظريفة سعيد موافي (78عام) ان عملية الغربلة كانت تتم في البيوت، ونادرا ما كانت تتم على البيدر.
وكانت المرأة تضع كمية من القمح في الغربال وتهزه بشدة، ليتساقط منه الزوان والقش الناعم والحصى الصغيرة وحبات القمح المتكسرة والضعيفة، وتبقى في الغربال حبات القمح الصافية مع بعض القش الخشن وبعض الحصى التي لم تنزل من الغربال. فتعاود المراة تقليب الغربال بين يديها يمينا وشمالا، وهي تهزه بخفة ورشاقة، وخلال هذه العملية تفصل حبات القمح عن الحصى والقصل، وتجعلها في جانب، بينما تجعل حبات القمح الصافي في جانب اخر على شبك الغربال، وتقوم بازالة الحصى والقصل والشوائب بيدها، وترميها جانبا، بينما تلقي بالقمح على قطعة كبيرة من الحصير الناعم المفروشة على الارض، ليتم بعد ذلك تعبئته في اكياس الخيش، او تخرينه في الخابية.
وقد تساعد المراة في عملية الغربلة بعض جاراتها او بناتها و زوجات ابنائها، ويستخدمن اكثر من غربال.
وتستمر عملية الغربلة إلى أن يتم الانتهاء من تخليص كامل كمية القمح من الشوائب. فما ينزل من الغربال يكون طعاما للدجاج والحمام، وما يتبقى فوق الغربال فهو القمح النقي، حيث يكون جزء منه لبذار السنة القادمة، وجزء آخر للطحن وعمل الخبز، وجزء ثالث للسلق وعمل البرغل.
ويقول الاستاذ يوسف قزوح نزال ان زراعة القمح في القطعة الواحدة يكون عاما بعد عام، فالحقل لا يزرع سنتين متتاليتين بالقمح، وانما يزرع سنة محصول شتوي، والتي تليها محصول صيفي.، وهذا يتيح الحصول على إنتاجية اكبر من المحصول.
توزيع ناتج الغلة على البيدر:
بعد فصل القمح عن التبن والشوائب الاخرى، يتم توزيع الغلال على أرض البيدر، ويؤدي المالك للحقل ما استحق عليه من دين للاخرين، والذي كان يتوزع على الأصناف التالية:
- 1- الحراث: الذي يقوم بحراثة الأرض ويؤخذ خمس الغلة. وكان يتوجب على الحراث (مقابل حصوله على خمس المحصول) أن يحرث الأرض، ويعشب ويحصد ويغمر. وقد يعمل في الحقل اكثر من حراث، لكن تكون حصتهم جميعا خمس المحصول، بغض النظر عن عددهم.
- 2- القطروز او القطروس: يعمل طوال العام عند الفلاح صاحب الارض، ومهامه متعددة، فهو يساعد في اعمال الحراثة ورعي الحيوانات، ويشارك في اعمال الحصاد والرجادة والدراس، وتعبئة الحبوب والتبن في اكياس ونقلها الى البيت. كما يقوم بكل أعمال الخدمة والمساعدة التي يطلبها منه صاحب الارض.. ويحصل القطروز بالمقابل على حصة محددة (عدداً من صاعات القمح)، بغض النظر عن حجم الغلة. ويبدأ عمل القطروز من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس، خاصة في ايام الصيف.
- 3- حصة الناطور، وهو حارس الحقول الذي يحميها من تعدي الإنسان والحيوان
- 4- حصة الحصاد والدراس والمذرّي .
- 5- حصة راعي العجال، وهو راعي أبقار الحراثة، التي تتوقف عن العمل من نهاية موسم الحرث حتى الموسم التالي، وتحدد حصة الراعي عن كل راس ثور.
وهناك أصناف أخرى تأخذ نصيبها بعد نقل الغلة الى البيت وليس على البيدر، مثل الحلاق والداية التي تساعد النساء في الولادة، وحصة لليتامى والأرامل وحصة الخطيب إمام المسجد، وذلك احتراماً لمكانته الدينية واستجلاباً للبركة.
كما تعطى للأطفال المتواجدين على البيدر كمية قليلة من الحب، ليبيعوها ويشتروا بثمنها السكاكر والحلوى والقضامة، وتسمى شروة.
بعد ذلك يتم تعبئة القمح في أكياس، بعد كيلها بمكيال يسمى المد، لبيعه او لنقله الى بيت الفلاح لتخزينه في الخابية.
اما القش الناعم او التبن فيعبأ في اكياس كبيرة من الخيش، حيث تحشى بالتبن بقدر ما يتسع مع ضغط التبن بالأيدي والأرجل كي تتسع "الخيشة" لأكبر قدر ممكن، وتبقى الخيشة على شكلها الأسطواني، وتوضع على الباب قطعة دائرية من الخيش، وتخاط على فم الخيشة بالمسلة وخيط من "المصيص"، لتكون جاهزة للبيع او للنقل على ظهور الدواب الى البيت لتخزينه في "التبّانة"، ليكون علفا للدواب، اما القصل وهو الخشن من التبن فكان يستخدم كوقود في الطابون.
ويخزن التبن في التبانة عن طريق فوهة مفتوحة في سطح التبانة تسمى"الرّوزنة"، وكلما أفرغت كمية من التبن، ينزل أحدهم من فتحة الروزنة لفرش التبن، وتوزيعه على زوايا التبانة، لغرض تخزين اكبر كمية ممكنة. وهذه الطريقة تتيح إملاء التبانة حتى السقف، ولا يبقي فيها أي جيوب خالية. وللتبانة باب صغير بحجم 50×50سم، وعند إطعام الحيوانات يتم سحب التبن من خلال الباب الصغير، الذي ما ان يفتح حتى يتدفق التبن للخارج. وتكون التبانة قريبة من زريبة الحيوانات. ويتم غربلة التبن قبل تقديمه طعاما للحيوانات، للتخلص من بقايا التراب والشوائب الاخرى..
هكذا كانت قلقيلية قديما، تعيش في حركة دئوبة لا تهدأ أبدا، فهي دائما في أعراس العطاء والخير والبركة، فمن الحراثة والبذار الى الحصاد والدراس والتخزين والتتبين، مواسمها كلها كد وتعب وجهد وشقاء، لكن الخير يعم جميع الكائنات - القمح للانسان، والتبن للحيوان، وبقايا الحبوب للطيور، وبقايا المحصول لرعي الدواب، والقصل للخبز في للطابون!
لقد كانت الاعمال الزراعية المختلفة تشغل الفلاح طيلة ايام السنة تقريباً، فدورة الحياة الزراعية التقليدية متداخلة في بعضها، وتدور دورتها الطبيعية كالدولاب، ليس لها بداية، ولا نهاية. فلا ياكد الفلاح ينتهي من زراعة وتعشيب وحصاد المحاصيل الشتوية، حتى يدخل من جديد في شقاء المحاصيل الصيفية، عدا عن العناية بالمواشي والدواجن، التي تشغله طوال العام. فحياة الفلاح كانت كلها حياة عمل ونشاط وحيوية وحراك دائم لا ينتهي.
تخزين الحبوب في الخابية والمطمورة:
كانت الحبوب تنقل من الحقل الى البيت ليتم تخزينها بعد تنقيتها في الخابية. والخابية عبارة عن مخزن للحبوب، ﻭﻟﻌﻝ ﺍﺳﻣﻬﺎ ﻗﺩ ﺟﺎء ﻣﻥ ﻛﻭﻧﻬﺎ ﺗﺳﺗﻌﻣﻝ ﻣﺧﺑﺄً ﻟﻠﻐﻼﻝ. تبنى الخابية على شكل مستطيل مجوّف، باستخدام الحجارة والطين (الحِوَّرْ) المخلوط بالتبن، ﻭتقام ﻓﻲ ﺃﺣﺩ ﺃﺭﻛﺎﻥ ﺍﻟﺑﻳﺕ البعيد عن الرطوبة، وقد تقام أكثر من خابية في نفس المكان.
وللخابية فتحتان- فتحة علوية تصب من خلالها الحبوب، وفتحة سفلية قرب القاعدة بقطر الرغيف الصغير، تسمى زرزورة، تغلق بقطعة من القماش او الخيش. وهي مخصصة لأخذ الحبوب منها عند الحاجة. وتكون قاعدة الخابية مرتفعة بنحو 40-50سم عن الأرض تجنباً الرطوبة. وفى العادة يكون في البيت أكثر من خابية.
والخابية على أحجام مختلفة- منها ﺍﻟﻛﺑﻳﺭﺓ ﺍﻟﺗﻲ ﺗﺗﺳﻊ ﻟﻌﺩة ﻘﻧﺎﻁﻳﺭ ﻣﻥ ﺍﻟقمح، ﻭﻣﻧﻬﺎ ﺍﻟﻣﺗﻭﺳﻁﺔ، ﻭﻣﻧﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺫﻟﻙ. ﻭﺗﻛﻣﻥ ﻓﺎﺋﺩﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻭﻥ ﺍﻟحبوب المخزنة فيها ﻻ ﺗﺳﻭﺱ ابدا، ﻷنها لا تتاثر بالحراة الخارجية، وتكون ﺫﺍﺕ ﺣﺭﺍﺭﺓ ﺛﺎﺑﺗﺔ تقريبا ﻓﻲ ﻓﺻﻠﻲ ﺍﻟﺷﺗﺎء ﻭﺍﻟﺻﻳﻑ، وخالية من اية رطوبة، وهذا عامل يساعد على حفظ المواد أو الحبوب وعدم تلفها.
ويقول الحاج انور عمر موافي (61عام) انه كان لديهم في البيت القديم قبل هدمه عام 1963م خابية كبيرة طولها 6 امتار، وعرضها 1.5م، وارتفاعها 2م، وكانت مقسمة الى ثلاث خوابي متساوية؛ ولكل خابية فتحة من الأعلى لإدخال الحبوب، وفتحة صغيرة من الاسفل بقطر 15سم، لتفريغ الحبوب عند الحاجة، وتغلق بقطعة من القماش، وترتفع هذه الفتحة عن الأرض بنحو 50سم.
كما استخدم بعض الفلاحين في قلقيلية "المطمورة" لتخزين الحبوب. وأصل المطمورة من طمر فى الأرض واستخفى، أى ستره حيث لا يرى. وهي عبارة عن بئر قليل الغور يحفر في "قاع البيت"،وتطلى جدرانه بطبقة من مزيج الطين والشيد، لتصبح مانعة للرطوبة، تستخدم كمخزن للحبوب تحت الأرض، ليخزَّن فيها القمح والشعير. وتتسع المطمورة في أسفلها وتضيق عند عنقها، فهي أشبه بالقارورة، ثم تغطى فوهتها بألواح الخشب والحصير ثم يردم عليها بالطين، ويحرصون ان تكون مغلقة إغلاقاً محكماً لعزلها عن الهواء. وتكون المغمورة بأعماق مختلفة، حسب كمية التخزين. وكلما ازداد عمق المطمورة كانت أفضل لتخزين الحبوب واقدر على الحفاظ على سلامتها من الإصابة، وذلك يرجع إلى انخفاض نسبة الطبقة السطحية من الحبوب، اذا ما قورنت بالحجم الكلي لكومة الحبوب، وهذه الطبقة السطحية هي التي يتركز فيها الإصابة بالحشرات والتعفن.
ويقول احد المعمرين ان سبب تخزين الحبوب تحت الارض في العهد التركي كان لغرض إخفاء الحبوب عن عيون السلطات العثمانية، الذين كانوا يجوبون القرى لتحصيل الضرائب من الفلاحين على محاصيلهم الزراعية.
طحن حبوب القمح:
يتم تفريغ كمية مناسبة من القمح من الخابية، والتي تناسب مع حجم العائلة، ليتم طحنها لصنع الخبز. وقبل طحن القمع، يتم تنقيته للمرة الاخيرة، لتخليصه من كل ما علق به من اتربة وشوائب، حيث تقوم المراة بوضع كمية مناسبة من القمح في الغربال، وتهزه يمينا وشمالا والى الامام والخلف، وتقذف بالحب الى الاعلى وتتلقاه بالغربال، بينما تنفخ عليه بقوة اثناء سقوطه، فيتطاير بعيدا ما علق به من اتربة وشوائب. وتنقِّب المرأة القمح بيديها، وتلتقط ما تبقى من صرار صغير وقش واية شوائب اخرى وترميها جانبا، ليصبح القمح بعد ذلك نظيفاً جاهزا للطحن والخبز.
وكانت حبوب القمح قديما تطحن في البيوت باستخدام الطاحونة او الرحى، وهي آلة الطحن التي تدار باليد، وهي عبارة عن طبقين مستديران من حجر البازلت او الجرانيت ينطبقان على بعضهما، وقطرهما نحو 50سم، وسمك الواحد منهما بين ثلاثة الى اربعة قراريط. تُستعمل الرحى لِجرش الحبوب وطحنها. يوضع احد الطبقين فوق الأخر- الطبق السفلي ثابت، والطبق العلوي، له يد خشبية مستديرة بارتفاع 20سم، مثبتة في فتحة صغيرة على طرفه، للامساك بها عند تدويره على الطبق السفلي. ويدور الطبق العلوي حول محور خشبيّ مستدير يسمى القُطُبْ، مثبَّت في قاعدة الطبق السفلي، ويشكل محورًا يدور عليه الطبق العلوي. ويتم عمل ثقب واسع في منتصف الحجر العلوي، بحيث يسمح للقطب الخشبي (القلب) المركب في الرحى السفلية بالدخول من خلاله، كما يسمح للحبوب بالدخول منه، ليتم سحقها بين الحجرين.
وقبل البدء بعملية الطحن تفرش المراة قطعة نظيفة من القماش تحت الرحى حتى لا يتساقط الدقيق على الارض. وتتناول بيدها كمية من الحبوب وتضعها في الفتحة الدائرية التي في وسط الرحى العلوية، وتدير اليد الخشبية من اليمين الى اليسار (بعكس حركة عقارب الساعة)، يدور الحجر العلوي فوق السفلي، فتنسحق قشور الحبوب وتتكسر الى انصاف، وتتساقط من بين شقيّ الرحى، وتكون خشنة غير ناعمة. تكرر المرأة العملية مرة اخرى، وتعيد وضع الحبوب الخشنة من جديد في الفتحة العلوية، وتدير يد الرحى، فتنسحق الحبوب حتى تصبح ناعمة. تقوم المراة بتنخيل الطحين، حتى اذا بقي في المنخل اجزاءً خشنة غير ناعمة من الحبوب، عاودت طحنها من جديد.
وفي بداية سنوات العشرينات من القرن الماضي قام المجلس المحلي بتركيب مطحنة اتوماتيكية عند البئر الرومية (مكان دائرة الصحة الجنوبية) وكانت تعمل بوقود الديزل (السولار)، ومنذ ذلك الوقت لم يعد أهالي قلقيلية يطحنون القمح في البيت، واقتصر استعمال الرَّحَى على جرش البرغل، وجرش حَبّ العدس الذي يتكسر لأنصاف، وحب الفول المقشر لعمل المدمس. ولم يكن لدى كل العائلات حجر الرحى، وكانت تستعيرها النساء من الجيران، او تجرش الحبوب عند من يملكون واحدة منها، مقابل اجر زهيد، او بدون اي مقابل.
ويقول الحاج محمد سعيد هلال- ابو بلال انه عندما كانت تتعطل المطحنة الاوتوماتيكية في قلقيلية، كان الناس يذهبون الى قرية جريشة الواقعة على نهر العوجا، القريبة من يافا، حيث مطحنة القمح التي تعمل بقوة ماء النهر، والتي كان يملكها الشيخ عبد القادر ابو رباح، او الى قرية الطيرة الواقعة شمال غرب قلقيلية، حيث كانت لديهم مطحنة تعمل بالديزل مثل مطحنة قلقيلية.
ومع ازدياد عدد سكان قلقيلية بعد نكبة عام 1948م، واقامة اكثر من ثلاثة آلاف مهاجر في قلقيلية، بادر الحاج يوسف عبد الله محمد صبري الى إقامة مطحنة ثانية للقمح على شارع نابلس عام 1954م، وكان يعمل عليها المرحوم سعيد ابو خديجة، وبقيت تعمل حتى أواسط السبعينات من القرن الماضي، حيث توفر الطحين الجاهز من مطاحن القمح الإسرائيلية.
هذه هي رحلة حبة القمح، من الحراثة والبذار، الى السنابل والحصيد والرجاد، الى البيادر والدراس، الى التذرية بالمذراة والفصل بالكربالة والمسرد والغربال، ثم الطحن والتنخيل والعجن في الباطية والخبز بالطابون، ليخرج رغيف خبزٍ ساخناً ًطرياً محمّراً مقمراً، ذي نكهة طيبة زكية، نشمُّ فيها عبق الماضي ورائحة عرق الأجداد، وهو ما يتميّز به خبز الطابون، عن غيره من أنواع الخبز الأخرى.
وكان أهالي قلقيلية يبيعون فائض منتوجاتهم في مدينة يافا، لقربها من قلقيلية ولسهولة الوصول اليها، لكونها المدينة التجارية الأولى في فلسطين في ذلك الوقت. وكانوا يشترون منها ما يحتاجونه من الأقمشة والألبسة والأواني المنزلية والشاي والقهوة، ولوازم الاضاءة والتدفئة، والمستلزمات الزراعية.. وغيرها.
كما كانوا يبيعون بعض المنتجات الحيوانية كالدجاج البلدي والبيض والزغاليل الى اليهود في التجمعات السكنية القريبة من قلقيلية، مثل مبلس (بيتح تكفا) وكانت تسمى "قبنية".
ويذكر الحاج زكي الشنطي ان اهالي قلقيلية كانوا قبل سنوات الاربعينات يذهبون الى نابلس على الدواب -الحمير والبغال- ويشترون لوازمهم واحتياجاتهم منها، كما كانوا يذهبون للعلاج. ويضيف الحاج زكي ان له اخوة كانوا يعملون في تجارة الاقمشة، يشترون القماش من يافا، ويبعونه في قلقيلية وطولكرم، وكانوا يتنقلون على الحمير.
وقد لعبت المرأة دورا كبيرا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء. فالى جانب دورها الطبيعي في الانجاب والعناية بالزوج والاطفال، والقيام بكل الأمور والشؤون المنزلية (من غسيل وكنس ومسح وطبخ، وخياطة وتطريز، وتخزين احتياجات فصل الشتاء من الجبنة، ورب الندورة والمربيات..وغيرها)، يلحقها العمل في الأرض مثلها مثل الرجل، فكان عليها ان تزرع، وتبذر، وتحصد، وتحتطب، وتجمع العشب والحشائش للدواب، وتطحن القمح، وتخبز في الطابون، وتنقل الماء من البئر على راسها بالجرار، وتحلب الغنم والبقر، وتصنع اللبن والجبنة والسمن، وما يفيض عن الحاجة تبيعه للآخرين، في حين ان عمل الرجل كان يقتصر فقط على الزراعة او الحراثة او الرعي.
ويقول الحاج محمد سعيد هلال (ابو بلال 87عام) ان المجتمع الفلسطيني قدّر المرأة العاملة، حيث ميز في المهور بينها بين المراة غير العاملة، وجعل مهرها اكثر من ضعفي مهر المرأة غير العاملة.وكانت تكنّى المرأة العاملة فلاحة، والمرأة غير العاملة- شيخة.
تربية الحيوانات في قلقيلية:
تشكل الحيوانات ركناً أساسياً في حياة الفلاح ومعيشته، اذ ان الخيول والبغال والحمير والجمال تشاطره العمل بالأرض، كالحراثة والدراس، ونقل الغلة والمحاصيل والحجارة والحطب، والركوب عليها والذهاب الى الحقول والكروم البعيدة، والتنقل عليها من وإلى القرية والمدينة والقرى المجاورة، وكذلك الاستفادة من روثها في تسميد الارض.
وبالاضافة الى مشاركتها الفلاح في كافة الأعمال الزراعية، فان للأبقار دور في عطائها الكبير من الحليب واللحوم والعجول والروث.
كما يربي الفلاح الأغنام، والماعز، والدواجن، والطيور للاستفادة من لحمها، ومنتجات ألبانها وبيضها، لذلك أهتم الفلاح بتربية هذه الحيوانات واقام لها مكانا او امكنة خاصة بها في بيته- حظيرة للدجاج والطيور والارانب، وزريبة او حظيرة للحيوانات.
وقد اشتهرت قلقيلية بثروة حيوانية كبيرة، شملت قطعان الأغنام والأبقار، نظراً لتوفر المراعي الخصبة وآبار المياه الجوفية التي كانوا يسقون منها قطعانهم. ووصل ما امتلكه أهالي قلقيلية من البهائم في بداية القرن الماضي الى نحو عشرة آلاف 10000 راس من الغنم والماعز، ولا يقل عن ألفي 2000 راس من البقر، ومن ضمنها الثيران التي كانت تستخدم للحراثة، وكان فيها من الخيل الأصيل ما يزيد عن مائة 100 فرس، وما لا يقل عن مائتي 200 جمل. أما الدواجن فلا تكاد تخلو من أي بيت، وكانت توفر البيض واللحم. كذلك الحال بالنسبة لفراخ طيور الحمام والأرانب.
وكان أصحاب الأراضي يحرثون أرضهم بأيديهم ويسرحون بالبقر والغنم في المراعي بأنفسهم. وكان بعض الفلاحين يستأجرون الرعيان لرعي البقر والغنم، فكانوا يوكلون بها راعياً يسرح بها في المراعي. وكان الراعي يأخذ أجره حبوباً من أصحاب البقر والغنم في موسم الحصاد. وكانت تلك المواشي تجد المرعى الخصب في الحقول بعد موسم الحصاد، ورض البيادر بعد دراس الحبوب، أراضي المزروعات بعد جنيها، كما كانت الحيوانات ترعى في الاراضي الوعر والاودية، حيث كانت تنمو الأعشاب البرية والنباتات التي كانت تشكل غذاءً جيداً لها، بالإضافة إلى ما يدخره الفلاحون من العلف، المؤلف من التبن والشعير والكرسنة والذرة البيضاء.
كما اعتمد نظام الرعي على تكليف راع واحد ليرعى لعدة عائلات، حيث يقوم برعي مواشيهم من ابقار وضأن وماعز طوال النهار، مقابل أجر يعطى له نقدا او عينا شهريا أو موسميا. فيمر على بيوتهم بعد صلاة الفجر الواحد تلو الاخر، ويخرجون له مواشيهم، وهكذا حتى يتجمع لديه قطيعا كبيرا يسرح به إلى مكان الرعي في الجبال والسفوح والوديان والأراضي الوعرة والحقول المحصودة، وفي المساء يعود بها الى بيوت اصحابها، حيث يقوم اهل البيت من النساء بحلب تلك المواشي، بعد أن تكون قد شبعت من الأعشاب الطرية أو من بواقي الحصاد والدراس من حبوب وقش وتبن .
وقد ربى فلاحي قلقيلية نوعين رئيسين من الحيوانات، لما لها من فوائد في حياتهم:
- - حيوانات لاستخدامها في حراثة الارض لزراعتها، والاستفادة منها في الركوب، ونقل الاحمال، ودراسة المحاصيل بعد جنيها (البقر العمّال، والخيول والبغال والحمير)
- - حيوانات للإفادة من لحومها، والحليب ومشتقاته: اللبن، اللبنة، الزبدة والسّمن، وبيع عجولها (الأبقار والأغنام والماعز).
وكان الفلاحين يستفيدون من صوف الغنم في صناعة فراشهم (فرشات لحف ومخدات)، وكذلك جلود الماعز والبقر والغنم.
كما استعملوا فضلات هذه الحيوانات (الروث) لتزبيل الطابون، وكسماد طبيعي لأراضيهم الزراعية، لزيادة إنتاجهم الزراعي.
وكان الإنتاج الحيواني يمثل نسبة جيدة من إجمالي الدخل الزراعي للفلاح، وهو عنصر مهم كما اشرنا لتحقيق الأمن الغذائي للفلاح، باعتباره مصدراً للحم والحليب ومشتقاته، وهي كذلك مصدرا للصوف والجلود والسماد.. وغيرها.
وتعتبر المواشي ذات احتياجات غذائية متواضعة، حيث يمكنها التغذية من المراعي الطبيعية، ومخلفات المحاصيل، وبعض مواد العلف الرخيصة، لذا فإن كفاءة إنتاجها كبيرة واقتصادية.
وكان الفلاح يبيع او يقايض الفائض عن حاجته، ليسد بها احتياجات اخرى لعائلته او لارضه ومواشيه.
زراعة الحمضيات في قلقيلية:
لقد اتبعت حكومة الانتداب البريطاني شتى الاساليب لضرب اشكال الانتاج الزراعي عند الفلاح الفلسطيني، لعله يتخلى عن ارضه ويبعها لليهود، بدءاً من تحديد اراضي المدن والقرى وافرازها بين الاهالي من اجل تسهيل عملية البيع، مروراً بضرب سعر قمح الفلاح في الاسواق المحلية عن طريق اغراقها بالطحين الاسترالي رخيص الثمن. فبعد أن كانت فلسطين بلداً منتجاً ومصدّراً للقمح والشعير قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الحبوب تصدّر منها إلى الدول الأوروبية ومصر وتركيا، تحولت خلال عهد الانتداب الى بلد مستورد للقمح والطحين!
لكن اهالي قلقيلية تخطوا مؤامرة ضرب سعر القمح، وذلك بالتنويع في الزراعة، حيث اقبل الناس بشكل اكبر على زراعة اشجار الحمضيات بمختلف انواعها (البرتقال- البلانسي والشّموطي وابو سُرّة والفرنسي- والكلمنتينا، والمندرينا، والكرفوت، والبوملي، والليمون)، والعنب والتين واللوز والجوافا -الشوّاطي والغباري، ومختلف اصناف الخضار، التي اعتبر العديد منها مزروعات بديلة لتجارة القمح، الذي كان المنتج الأساسي للبلدة، والذي اخذ الفلاح يزرعه لاستهلاكه الذاتي بالأساس.
وكان أول من نهض وفكر في زراعة الحمضيات في قلقيلية هما المرحومان حسن علي نصر الحسن، ومحمود بن مصطفى العلي، من عشيرة آل شريم، وقاما بحفر أول بئر ارتوازي عام 1881م في أراضي قلقيلية الساحلية، وباشرا بزراعة أول بيارة للحمضيات في قلقيلية. واهتم اهالي قلقيلية بشكل اكبر بزراعة الحمضيات بعد حلول الانتداب البريطاني عام 1918م، الذي شجع زراعة الحمضيات لتصديرها الى بريطانيا والدول الاوروبية الاخرى.
وبالتحول إلى زراعة الحمضيات على حساب زراعة القمح والحبوب الأخرى، تحول البساط الأخضر الذي كان يحيط بالسهل الساحلي من كل جهاتها، من خضرة حقول القمح والحبوب في الشتاء والربيع، إلى خضرة دائمة طوال العام لأشجار الحمضيات ومختلف أصناف الحمضيات.
وكانت الحمضيات تشحن بسيارات النقل إلى مدينة يافا، ومن هناك كان يتم تصديره الى دول اوروبا، بعد تعبئته وتغليفه من قبل شركات التعبئة العربية المحلية.
ويعتبر ساحل البحر المتوسط الموطن الأصلي لزراعة الحمضيات، ولذا فإن ثمارها هي الأجود والأطيب، على مستوى العالم.
ويذكر الشيخ محمد صالح الخطيب (صبري) في كتابه "قلقيلية حتى عام 1942م" ان مساحة اراضي قلقيلية كانت 38 ألف دونم، منها 28 ألف دونم مساحة اراضي قلقيلية و عشرة آلاف دونم امتلكها أهالي قلقيلية من اراضي القرى المجاورة.
وكان الكثير من أهالي قلقيلية يعملون في تربية وتجارة المواشي، نظرا لخصوبة المراعي واتساعها. وكان معظم الناس يملكون منها ما يلبي احتياجاتهم من الحليب والجبنة والسمن البلدي واللحوم، ويبيعون الفائض في سوق الجمعة للمتسوقين من القرى والمناطق المجاورة.
ومع مرور الوقت، وإقبال المزيد من الناس على الزراعة، اخذ أصحاب المواشي يبيعون مواشيهم وخيولهم، ويستبدلونها او يشترون باثمانها أراضي زراعية، حتى وصل الامر عام 1942م، انه لم يتوفر لدى القرية سوى ألفين راس من الغنم والماعز، والف راس من البقر، و200 راس من الخيول، وخمسين من البغال و200 راس من الثيران، و5 رؤوس من الخيول الاصايل.
ومن الجدير بالذكر ان مساحة الأراضي في السهل الساحلي التي كانت مزروعة في أواخر أيام الانتداب البريطاني وصلت الى نحو 25 الف دونم، موزعة كالآتي: 10 آلاف دونم حمضيات، 4 آلاف دونم حبوب، 5 آلاف دونم خضراوات، و 6 آلاف دونم فواكه متنوعة وزيتون، ولم يتجاوز عدد السكان الـ 6500 نسمة في تلك الفترة، كما لم يزد المسطح العمراني للبلدة عن 300 دونم.
ويُعْزى كبر المساحة المزروعة بالحمضيات، وهي 10 آلاف دونم الى ارتفاع الجدوى الاقتصادية لهذا النوع من الزراعة، حيث زاد الطلب المحلي على هذه المنتجات خاصة بعد تحسن وسائل النقل المواصلات، وشراء أهالي قلقيلية البعض منها، وكذلك إنشاء شركة "السبع وعاشور" في يافا عام 1930م، لتعبئة وتغليف الحمضيات، واعدادها للتصدير. وكانت الشركة تصدِّر الحمضيات الى الدول الأوروبية، وخاصة بريطانيا عن طريق ميناء حيفا.
وكان البرتقال القلقيلي يعتبر من أجود أنواع الحمضيات التي تنتج في فلسطين، لامتلاء ثماره الامتلاء المناسب، ولطعمه اللذيذ، ورائحته الزكية، وارتفاع نسبة السكر، وانخفاض نسبة الحموضة، وقلة البذور فيه. ومن أشهر اصنافه: البلانسي، والشموطي، وابو سُرَّة، والكلمنتينا، والمندرينا، والفرنسي. وكانت أراضي قلقيلية الزراعية تمتاز بارتفاع مستوى إنتاجيتها لخصب تربتها وتوفر مياه الآبار فيها، واحتراف أهاليها للزراعة.
كما انتشرت في تلك الفترة زراعة القمح والشعير والسمسم والذرة، والعدس والحمص والفول والبطيخ والشمام والبندورة والخيار والملوخية والبامية. كما اشتهرت بزراعة العنب والتين وقصب السكر. وكانت تستخدم الأسمدة العضوية، وكانت تتم الحراثة على الدواب – الجمال والحمير والبغال. وقد استطاع أهالي قلقيلية تأمين احتياجاتهم من المنتجات الزراعية، التي كانوا تحتاجون إليها من حبوب وخضار وثمار وألبان وجبن وبيض ولحوم، وحققوا فيها اكتفاء ذاتي.
وكان بعض الفلاحين، الذين لا يملكون الأراضي يقومون باستئجار أراضي لموسم واحد، او زراعة اراضي الغير مقابل تقسيم الناتج مناصفة بينهما، او على حصة محددة، وكان يُزرع البطيخ والخضار والخيار والبندورة.
اما زراعة الاشجار وتسمى "مزارعة"، فكانوا يقومون بزراعة الارض بالأشجار، ويقومون على رعايتها والعناية بها بالكامل، وعندما تنضج الثمار كانوا يتقاسمون الناتج بينهما، كما كان دارجا ان ياخذ الفلاح الذي زرع الاشجار جزءا من الارض عندما تنفض الشراكة.
وكان بعض التجار يقومون بضمان بيارات الحمضيات والجوافا، مقابل مبلغ يتحدد سلفا بالاتفاق بين صاحب الارض، والتاجر الضامن، ويقوم التاجر بقطف الثمار وتعبئتها وبيعها في الأسواق، وعليه رعاية الأشجار وريِّها طوال فترة القطف، وعند الانتهاء من قطف الثمار، يعيد تسليم الأرض الى صاحبها. وكان من العادة ان يقدم الضامن الى صحاب الارض جزءا من الثمار على شكل هدية، تسمى "طُعْمة"
ورغم إن قلقيلية كانت تتمتع بوفرة من المنتجات الزراعية، إلا انها تاثرت بشكل كبير بسلسلة الاحداث والتطورات التي جرت في فلسطين وفي العالم، والتي أربكت الحياة الاقتصادية، وأحدثت اختلالا كبيرا فيها.
لقد شهدت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصورة عامة تغيرات كثيرة خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث عملت حكومة الانتداب على تحسين الأوضاع الاقتصادية لعرب فلسطين، ومحاولة جعلها أفضل مما كانت عليه فترة الدولة العثمانية، وذلك بما ساهمت في تقديمه من تسهيلات لتحسين أحوال الزراعة، حيث توسع المزارعون في الزراعة بجميع أنواعها وبصورة خاصة الحمضيات التي أصبحت المحصول الرئيسي في صادرات قلقيلية الزراعية، إلا أن الزراعة كانت تتأثر كثيرا بالتوترات السياسية الناجمة عن تتابع موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والأحداث الناجمة عن الإضرابات والثورات التي كانت تشهدها فلسطين بين الحين والآخر.
وكانت موجات التوتر ترتفع وتنخفض تبعا لارتفاع الهجرة اليهودية وانخفاضها، وتوالت موجات التوتر منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، وبلغ التوتر أقصاه في أوائل الثلاثينات، حينما ازدادت هجرة اليهود لفلسطين من جميع أنحاء أوروبا، فكانت انتفاضة يافا عام 1933م، وثورة القسام عام 1935م، وإضراب عام 1936 الذي عم جميع مناطق فلسطين، وبلغت أوجها بين الاعوام 1936-1939م، وما رافقها من سلسلة من الاضطرابات العنيفة في كافة البلاد موجهة ضد حكومة الانتداب من جهة، وضد هجرة اليهود من جهة أخرى. والحرب العالمية من 1939-1945م. نجم عن ذلك أن أصبحت الحياة صعبة، والفقر كان يعم إنحاء البلاد كافة، وكانت في تلك الفترة أسعار المواد الغذائية مرتفعة بالنسبة للدخل الذي يجنيه الناس، فكانوا بالكاد يستطيعون شراء السلع الأساسية، وقد اضطر البعض الى بيع أراضيهم لتامين لقمة العيش.
فمنذ أن بدأ الانتداب البريطاني على فلسطين بدأت المصاعب تتوالى وتتراكم على المزارع الفلسطيني، واتبعت بريطانيا سياسات كانت تصب في خدمة مصالح الانتداب البريطاني، وتعمل على خنق المزارع الفلسطيني ببطء، لصالح دعم سياسات الاستيطان اليهودي في فلسطين، كما ان الظروف الدولية كالكساد الدولي والحرب العالمية الثانية ساهمت في تردي الوضع بشكل اكبر.
ومن السياسات التي اتبعتها ادارة الانتداب ضد الفلسطينيين ما يلي:
ويذكر الشهيد عبد الفتاح خدرج في مذكراته عن تلك الفترة، ان المنتج الأساسي في قلقيلية كان الحمضيات، فكان الانجليز يفرضون ضرائب باهظة وصارمة على كل من يحمل ثمار الحمضيات، اذا ازدادت عن الكمية المحددة.
ويقول الشهيد أيضا في مذكراته ان أسعار الحاجيات من جراء الحرب قد ارتفعت ارتفاعا كبيرا، فكانت الأسعار كما يلي:
قنطار القمح عشرين جنيهاً للقنطار. (القنطار=100 رطل)
الذرة من 12 الى 13 جنيهاً للقنطار.
الشعير من 12 الى 13 جنيهاً للقنطار.
العدس من 12 الى 13 جنيهاً للقنطار.
الزيت من 45 الى 65 قرش للرطل.
فمن هذه الأسعار الباهظة يصعب على كل شخص أن يشتري حاجاته، فيضطر إلى شراء بعض منها، أو يبع أرضه لكي يستطيع ان يعيش.
2. أعطت ادارة الانتداب المستوطنين اليهود الحق في استثمار أي أراضي تعود ملكيتها للدولة، وحرمت المزارع العربي من هذا الحق.
3.تبني ادارة الانتداب السياسات المالية التي كان من شأنها دعم فرص نمو الزراعة اليهودية، وتدمير الزراعة العربية، مثل إلغاء الرسوم الجمركية على القمح. وقد أدى إلغاء الرسوم الجمركية على القمح المستورد عندما أسس اليهود مطاحن الدقيق في حيفا إلى إغراق السوق الفلسطينية بالقمح المستورد، حيث ادى إغراق الأسواق المحلية بالمنتجات الزراعية الأجنبية إلى دخول الزراعة الفلسطينية في أزمة خانقة.
4. سنّت إدارة الانتداب في عام 1928 قانون ضريبة الأملاك في المدن، وأصدرت في النصف الأول من عام 1935 قانون ضريبة الأملاك في القرى، وهو يشبه بوجه عام القانون الأول. وقد خمنت الضريبة على المباني المستغلة في القرى على أساس قيمتها السنوية الصافية، وأما الأراضي القابلة للزراعة فقد قسمت إلى أصناف حسب تقدير درجة خصبها، وحدد معدل للضريبة على كل دونم بالنسبة إلى غلته السنوية الصافية المقدرة. كما كانت تجبى ضريبة نقدية على الحيوانات، تسمى ضريبة المواشي، وتحتسب كقيمة نقدية على كل رأس من المواشي.
ادى كل ذلك الى زيادة العبء الضريبي على المزارع الفلسطيني، الذي انخفض دخله وأصبح يعاني من العوز والحرمان
5. الضرائب غير المباشرة: تكونت هذه الضرائب من الرسوم الجمركية ورسوم المكوس ورسوم الرخص والخدمات ورسوم الطوابع. وأما الرُّخص ورسوم الخدمات فقد كانت مفروضة على رخص تعاطي المهن ورخص النقل على الطرقات وعلى رخص التجارة والصناعة وتربية الحيوانات، وشملت أيضاً رسوم الموانئ والمحاكم وتسجيل الأراضي والخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم.
وراحت سلطات الانتداب تغير من سياسات التدخل والترخيص والرسوم الجمركية تبعاً لما يخدم مصلحة الاستيطان الإسرائيلي. وكانت تقوم برفع الرسوم الجمركية على الواردات او تخفيضها او حتى إلغائها، وفق ما تطلبه المنظمات الصهيونية، وبما يخدم مصلحة المستوطنين اليهود.
6. اهتمت حكومة الانتداب البريطاني اهتماماً كبيراً بالحمضيات، وذلك لحاجة الأسواق البريطانية إلى الحمضيات، ومن جهة ثانية، من أجل تأمين موارد مالية عن طريق الضرائب، التي كانت تفرضها على المداخيل المتأتية من مختلف الأنشطة المترتبة على الإنتاج.
7. خضوع الاقتصاد الفلسطيني لتأثيرات الكساد العالمي ببن الأعوام 1929-1934م، في مطلع الثلاثينات وللآثار الحرب العالمية الثانية، وقد اشارت بعض المصادر الى ان انخفاض سعر القمح بفعل هذا الكساد من 11 جنيهاً للطن في عام 1929 إلى 7 جنيهات في عام 1931، وسعر الشعير انخفض من حوالي 8 جنيهات إلى 3 جنيهات خلال نفس المدة. كما تراجعت صادرات الحمضيات تراجعاً كبيراً .
8. كما عملت حكومة الانتداب على فك ارتباط الفلسطيني بارضه، ليسهل عليه بيعها لليهود، من خلال توفير فرص عمل لاهل البلد بانخراطهم في سلك البوليس، او العمل في كامب راس العين والتوسع في التوظيف في قطاعات كالصحة والتعليم.. وغيرها..
هذه السياسات والظروف الدولية اثقلت كاهل المزارع الفلسطيني، وقل دخله الى حد كبير، واتسمت هذه الفترة بحدوث بطالة مرتفعة وتراجع في النشاط التجاري والاستثماري.
ب). الزراعة في فترة العهد الأردني: 1948-1967
بعد نكبة عام 1948م ونتيجة اتفاقية "رودُس" الموقعة عام 1949م، ومرور خط الهدنة من الجهة الغربية، تم فصل قلقيلية البلد عن اراضيها السهلية الغربية، وفصلها عن الكيان الجديد خط سكة الحديد الذي كان يصل بين تركيا وسوريا وفلسطين ومصر، والذي كان يمر وسط بساتينها وبمحاذاة بيوتها السكنية. وأصبحت أراضيها الواقعة غرب السكة والمتداخلة مع أراضي كفار سابا وجلجولية ورأس العين والطيرة ورعنانا ورمات غان أراضٍ محتلة، وصارت جزءاً لا يتجزأ من أرض دولة اسرائيل! ولم يبق بحوزة أهالي قلقيلية التي غدت تمثل أقصى امتداد عمراني للأرض العربية غير المحتلة نحو الغرب سوى سبعة دونمات من أراضي السهل الساحلي، مزروعة بالبرتقال، وبئرا ارتوازية واحدة "بئر عبد السلام". وحدث تناقص كبير في الأراضي الزراعية التي كان يملكها أهالي قلقيلية، حيث فقدت بعد النكبة 27 ألف من اراضيها الزراعية الساحلية الخصبة. كما أن معظم ألأراضي الجبلية كانت اراضي موات غير صالحة للزراعة، باستثناء القليل من أشجار الزيتون الرومي. وتحولت قلقيلية الى محطة أساسية لاستقبال اللاجئين من أبناء كفر سابا، عرب ابو كشك، مسكة، بيار عدس، الشيخ مونس، الطيرة، وبسبب الهجرة الى قلقيلية وتزايد عدد السكان تناقص نصيب الفرد من الأرض الزراعية، وارتفعت الكثافة الزراعية من 162 نسمة/كم2 قبل عام 1948م، إلى حوالي 850 نسمة/كم2 بعد النكبة.
أمام هذا الواقع المؤلم وفقدان قلقيلية لأخصب أراضيها الزراعية لم يكن من خيار امامها سوى استغلال الاراضي المتبقية للزراعة، فزرعوا كل الأراضي الصالحة للزراعة، واستصلحوا ما امكنهم استصلاحه من أراض وعرة، قاموا بتعزيلها من الحجارة الصغيرة وتكسير الصخور الكبيرة، وتكويمها فوق بعضها في سلسلة تحيط بقطعة الارض، لتكون كحدود فاصلة بينه وبين جيرانه، وترتفع السلسلة أحيانا إلى ما يزيد عن المتر. فزادت مع مرور السنين مساحة ألاراضي الصالحة للزراعة، وزرعوها باشجار الحمضيات بشكل بارز، ثم زرعوا كافة أنواع الأشجار والفواكه والخضار، كما زرعوا كافة انواع الحبوب والبقول الضرورية لهم ولمواشيهم ودوابهم.
ورغم العمل بالأرض الا ان ذلك لم يحل مشكلة الفقر المدقع التي ألمَّت بأهالي قلقيلية. وكانت الحياة تزداد ضنكا، ومرت اشهر وسنين لم يجد فيها الناس ما يأكلونه، فأكلوا خبز الذرة البيضاء - الكراديش- لغلاء سعر القمح، حيث وصل سعر رطل القمح الواحد الي خمسة وثلاثون قرشا أردنيا في ذلك الوقت (تعادل باسعار اليوم اكثر من 35 دينار، لان أجرة البيت كانت دينار واحد فقط في الشهر!!!) كما أكلوا التمر الذي كانت ترسله العراق بالأطنان، كمساعدة منها للفلسطينيين. وقد سمِّي عام 1948 بسنة التمر، حيث ترك الفلسطينيون أراضيهم المزروعة بالحنطة تحت التهديد بالقتل من قبل العصابات اليهودية. وفي ذلك الوقت اتجهت أنظار الشباب الى العمل، وخاصة في الضفة الشرقية، حيث التحقوا بسلك التعليم وعملوا في جهاز الشرطة والجيش وفي مهنة التجارة، وسافر بعضهم الى الكويت بعد اكتشاف البترول للعمل فيها، رغم المخاطر التي كانت تعترضهم للوصول إليها. كما سافر في تلك الحقبة العديد من أبناء قلقيلية الى السعودية. وبعد ان يكتب الله لهم التوفيق بالعمل، كانوا يرسلون إلى أهاليهم ما تيسر من المال الذي ساعد في تحسين ألأحوال المعيشية في قلقيلية، وساعد على إكمال المئات من الشباب دراستهم الجامعية، وبادر آخرون الى استصلاح ما تبقى لهم من ارض جبلية، وزرعوا ما استصلحوا من مساحات بمختلف انواع الاشجار والخضروات. وباع كثيرون منهم حُليْ نسائهم وساهموا في مشاريع حفر الآبار الارتوازية، واشتروا المضخات والانابيب لري البساتين والبيارات الجديدة، واشتروا كذلك سيارات النقل والشحن التجاري، حيث استطاعوا خلال العهد الاردني وفي ظل الاستقرار الأمني النسبي من استصلاح 5036 دونم، زرع منها 2500 دونم بالحمضيات (بسبب المردود الاقتصادي الجيد، والذي كان يتعدى 200 دينار للدونم الواحد. في ذلك الوقت)، و500 دونم جوافا، و1000 دونم خضار مروية، و 500 دونم كروم عنب وتين وزيتون، و500 دونم محاصيل بعلية حقلية. وبسبب ازدياد الطلب على الأشتال لأغراض التشجير والتصدير الى الضفة الشرقية، والى بعض الدول العربية مثل السعودية، فقد انتشرت إقامة المشاتل في قلقيلية، حيث وصل عددها الى 15 مشتلا. وساهمت هذه المشاتل في إمداد البيارات بأشتال الشجر"المرقوعة".
وكانت الحمضيات تصدر إلى الأردن، ومن ثم الى دول الخليج العربي. ويذكر السيد وليد السبع -مدير الارشاد الزراعي الأسبق في قلقيلية- انه تم في عام 1966م تصدير نحو 25 الف طن من الحمضيات الى الاردن، شكل البرتقال بمختلف اصنافه اكثر من 90% من مجمل الصادرات.
اما بالنسبة للمياه، فقد وصل عدد الآبار الارتوازية التي تم حفرها في العهد الأردني (1948-1967) 36 بئرا في قلقيلية، في حين لم تسمح اسرائيل بحفر أي بئر ارتوازي طوال سنوات الاحتلال، وحتى بعد قيام السلطة الفلسطينية، بسبب فرض إسرائيل سيطرتها الكلية على مصادر المياه في الاراضي المحتلة.
***
ج). الزراعة بعد الاحتلال الاسرائيلي عام 1967م:
لقد حصل تراجع في الاستخدام الزراعي للارض في قلقيلية زمن الاحتلال الاسرائيلي، وذلك نتيجة لسياسة اسرائيلية منهجية ومنظمة لفك ارتباط الشعب الفلسطيني بالارض، من خلال استيعاب العمالة الزراعية والعاطلين عن العمل للعمل داخل الكيان الاسرائيلي، وتقاضيهم اجورا مضاعفة عما كانوا يحصلون عليه في الاقتصاد الفلسطيني. وقد نجم عن ذلك ربط الاقتصاد الفلسطيني بنظيره الاسرائيلي برباط التبعية والاعتماد الكامل على الاقتصاد الاسرائيلي.
وكان لارتفاع مستوى المعيشة بعد عام 1967م، اثر عكسي على الزراعة، حيث تناقصت مساحة الأراضي الزراعية في قلقيلية بسبب الزحف العمراني، الذى اتى على مساحات كبيرة من الاراضي الزراعية، حيث وصلت مساحة المسطح العمراني لقلقيلية عام 2011م الى نحو 4.2 كم2، بسبب الزيادة السكانية العالية، وغياب السياسات المشجعة على الامتداد الراسي العمودي بدلا من الامتداد الافقي، وارتفعت بذلك الكثافة الزراعية الى 6500 نسمة/كم2.
وأخذت زراعة الحمضيات تتراجع سنة بعد سنة حتى وصلت الى اقل من 100 دونم، وتضاعف بالمقابل مساحة الاراضي المزروعة بالخضروات، بالمقارنة بما كانت عليه قبل عام 1967م، بسبب تطور الزراعة في البيوت البلاستيكية، واستخدام اساليب الري الحديثة، مما ادى الى تلبية الطلب في السوق المحلي، وتصدير الفائض الى مدن الضفة الغربية. كما ازدادت اعداد المشاتل بعدة أضعاف ما كانت عليه ايام العهد الأردني، وبمستوى أعلى من الإنتاج.
ويعود السبب في تراجع زراعة الحمضيات الى قلة الجدوى الاقتصادية لهذه الزراعة لانخفاض أسعارها بشكل كبير في الأردن، بالاضافة الى معيقات التصدير التي كانت تفرضها سطات الاحتلال الاسرائيلي على الحدود، وكذلك الحماية الاغلاقية التي تفرضها اسرائيل على المنتجات الزراعية الفلسطينية، بمنع دخولها الى السوق الإسرائيلي، الا في أضيق الحدود، ومزاحمة المنتجات الإسرائيلية للمنتجات المحلية، وضعف القدرة التنافسية للمنتج المحلي، في ظل غياب أي سياسات داعمة ومشجعة للقطاع الزراعي.
كما ان ارتفاع مداخيل الناس العاملين في إسرائيل والدول العربية الخليجية ادى الى تقليص مساحة الأراضي الزراعية، لزيادة حركة البناء بشكل كبير، خاصة خلال سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، والامتداد الأفقي للمسطح العمراني، الذي أتى على أخصب الأراضي الزراعية، والذي ازداد من 600 دونم في نهاية العهد الأردني الى 4200 دونم في نهاية عام 2011م.
وبعد الانتفاضة الاولى عام 1987م، وانحسار مجال العمل في السوق الإسرائيلي، بسبب فرض اسرائيل تصاريح العمل على العمال الفلسطينيين، وازدياد نسبة البطالة بشكل كبير، مما دفع المواطنين للرجوع ثانية إلى الأرض الزراعية واعادة استثمارها من جديد.
وبعد قدوم السلطة الفلسطينية زادت المساحة المزروعة من الأراضي بسبب شعور المواطن بنوع من الأمان النسبي، وبسبب تطور اساليب الزراعة والري العصرية، وعدم حاجة الكثير من انواع الزراعة وخاصة الأشجار الى التفرغ الكامل لها، حيث وصلت الى نسبة 56.9% من المساحة الأرض القابلة للزراعة خارج المسطح العمراني، وشكلت الزراعة المحمية (الدفيئات البلاستيكية) مساحة 16% من الأراضي المزروعة، بسبب الجدوى الاقتصادية العالية لهذا النمط من الزراعة، والإنتاج على مدار العام، ولان الزراعة المكشوفة لا تستطيع وحدها تلبية الطلب المتزايد على المنتجات الزراعية، بسبب تنامي عدد سكان المدينة، وانحسار رقعة الأراضي الزراعية.
العودة الى زراعة أشجار الجوافا
مع بدء تراجع زراعة الحمضيات في قلقيلية منذ ثمانينات القرن الماضي، بسبب إغراق السوق المحلي بالمنتجات الاسرائيلية، وهبوط اسعار الحمضيات بشكل حاد في الأردن، زاد الطلب المحلي والخارجي على جوافا قلقيلية، فنشطت وبشكل مضطرد زراعة الجوافا في قلقيلية، خاصة في أواسط التسعينات، بعد إدخال صنف جديد من الجوافا، وهو الجوافا "المصرية"، والتي لاقت رواجا كبيرا لجودة ثمارها، وملائمة مناخ وتربة أراضي قلقيلية لهذا النوع من الثمار.
وشجرة الجوافا من الأشجار الاستوائية، التي تحتاج الى الرطوبة والحرارة العالية نسبيا، ولا تنجح زراعتها في المناطق الباردة.وتعتبر قلقيلية من المناطق الفلسطينية ذات المناخ المعتدل (من حيث الحرارة والرطوبة) والملائم لزراعة الجوافا.
كما تتوفر في قلقيلية مياه الري بشكل كبير، والاراضي الزراعية الخصبة، التي تناسب تربتها زراعة مثل هذا النوع من الثمار، بالإضافة الى خبرة المزارع القلقيلي في زراعة أشجار الجوافا وكيفية العناية بها، حيث تعايش معها منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي بدأ فيها ابناء قلقيلية (بعد ان فقدوا كل أراضي السهل الساحلي، والبالغة 28 الف دونم) استصلاح ما تبقى من الأراضي الجبلية، وحفر الآبار الارتوازية، وزراعة مختلف أصناف الحمضيات، وأشجار الجوافا. ويقدّر عدد أشجار الجوافا المزروعة في قلقيلية حتى عام 2013م، الى اكثر من سبعين ألف شجرة، تدرّ دخلاً لأصحابها يقترب من 12 مليون دولار سنوياً.
ومن ميزة شجرة الجوافا أنها سريعة الإنتاج، حيث تبدأ بالانتاج في السنة الثالثة من زراعتها. كما ان تكاليف انتاج الدونم الواحد خلال الموسم للأشجار المنتجة منخفضة مقارنة بباقي انواع الأشجار المثمرة، حيث يدر الدونم من الجوافا في الموسم الواحد دخلاً يعادل على اقل تقدير، عشرة أضعاف التكاليف.
وتزرع في قلقيلية ثلاثة أنواع من الجوافا:
1- الجوافا الغبرة: غزيرة الإنتاج وتنضج باكرا في شهر ايلول، وهي متوسطة الحلاوة، تناسب مرضى السكري.
2- الجوافا الشّوّاطي: تنضج بعد الجوافا الغبرة بشهر تقريبا، وحبتها كبيرة، ورائحتها طيبة، وطعمها حلوا. ويكون حجم الثمرة كبير، وشكلها اقرب إلى الهرمي، وبها تجعدات..
ولا تتحمل ثمار هذان الصنفان من الجوافا (الغبرة والشواطي) البقاء لفترة طويلة على الشجرة بعد نضوجها، فيتم قطفها قبل نضوجها التام، حتى يكون لديهم الوقت الكافي للتسويق.
3- الجوافا المصرية: وهي صنف جديد ومبكر في الانتاج، وتنضج في شهر ايلول، ومن ميزاتها انها حلوة وطعمها لذيذ، وتبقى صلبة عند نضوجها، ولا تسقط على الأرض (تحت امها) عندما تنضج، ولا يتغير لونها حتى بعد ايام من قطفها، كما يحصل في الجوافا الغبرة والشواطي. ولثمرة الجوافا المصرية ثلاثة أشكال- الشكل الاجاصي، الشكل الدائري، الشكل الطويل. وتكون الثمرة ملساء.
ويعتبر قطاع غزة ومحافظة قلقيلية اكثر المناطق المزروعة للجوافا في فلسطين، حيث بلغت المساحة المزروعة بالجوافا حسب تقديرات عام 2012م حوالي 5650 دونم (عزة 4000، قلقيلية 1500، طولكرم+الأغوار+طوباس 150 دونم).
وحسب بيانات وزارة الزراعة لعام 2015م، فقد تضاعفت مساحة الاراضي المزروعة بالجوافا في محافظة قلقيلية، ووصلت الى ثلاثة الاف دونم، نظرا للاقبال الشديد على زراعة الجوافا.
كما نشطت في قلقيلية زراعة انواع جديدة من الفواكه والمنتجات الاستوائية مثل: الافوكادو المانجا القشطة وغيرها.
ومن اجل دعم المزارعين وتشجيعهم على زراعة الجوافا، التي تلقى رواجا كبيرا في السوق المحلي والأردني، اقامت البلدية بالتعاون مع الغرفة التجارية ووزارة الزراعة، مهرجان الجوافا الثاني الذي اقيم على ارض منتزه وحديقة الحيوانات في قلقيلية بتاريخ 2013/9/18م، واستمر لمدة ثلاثة ايام، وحضره بعض المسؤولين الفلسطينيين، ووزير الزراعة الأردني السيد أحمد آل حطاب.
وعلى الرغم مما أصاب القطاع الزراعي من تدمير من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال العقود الماضية، ألا انه لا زال يملك مقومات عديدة وطاقات كامنة تؤهله للعب دور ريادي ومتميز في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في فلسطين.. فهو من القطاعات الريادية في الاقتصاد الوطني، حيث يتميز بوجود طلب غير مستغل، ومتجدد ويمكن تحقيقه، كما ويعتبر القطاع الزراعي من أكثر القطاعات الاقتصادية قدرة على خلق وتوفير فرص العمل لجيش العاطلين عن العمل، عندما تعجز بقية القطاعات الاقتصادية عن استيعابهم، حيث تساهم الزراعة بحوالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وتستوعب ما بين 20-25 % من القوى العاملة، بشكل دائم أو موسمي. فالقطاع الزراعي كان وما زال الملجأ الدائم للعاطلين عن العمل، حيث انه استوعب أعدادا كبيرة من العاطلين عن العمل بسبب الأحداث الحالية، والذين لجأوا إليه كبديل عن العمل في إسرائيل. وتعتمد محافظة قلقيلية على الزراعة الكثيفة في الدفيئات البلاستيكية، وتركزت فيها زراعة الاشتال، واتجه مزارعي قلقيلية منذ بداية التسعينات من القرن الماضي الى زراعة الحوافـا المصرية، والتي لاقت نجاحا كبيرا لملائمة نوع التربة في قلقيلية، لهذا النوع من الفواكه، كما حققت قلقيلية انتاجا غزيرا من البيض ولحوم الدجاج، وتطور مزارع تربية النحل، وتصدير العسل للخارج، وهذا منحها ميزة نسبية بين المدن الفلسطينية.
ويكفي الإنتاج المحلي من الألبان في محافظة قلقيلية لتغطية 50 % من الطلب المحلي، بينما يتم استيراد الكمية المتبقية من شركات فلسطينية واخرى اسرائيلية- شركة تنوفا وشتراوس.
والى جانب المزارع هناك القطاع المنزلي، الذي يتكون من الأغنام والماعز والأبقار، وهذا النوع من التربية يسمى بالاقتصاد المنزلي، وغالبا ما يُستخدم إنتاجه لأغراض الاستهلاك العائلي.
وتتمتع قلقيلية باكتفاء ذاتي في انتاج لحوم الدجاج والبيض، وتصّدر الكميات الفائضة منها الى باقي المحافظات والى إسرائيل.
ومما يؤسف له أن القسم الاعظم من احتياجات مدينة قلقيلية من اللحوم الحمراء يتم استيرادها من اسرائيل، حيث لا يكفي الانتاج المحلي في المحافظة تغطية 10% من الطلب على هذه اللحوم، نظراً لغياب السياسات المشجعة والداعمة لمثل هذه المشاريع الحيوية.
شكرا على المعلومات القيمة جدا
ردحذفممكن مراجع الموضوع
ردحذف