الشيخ عبد الله القلقيلي
يُعد الشيخ عبد الله بن عبد الله بن محمد الحاج مصطفى عبد العزيز نزال القلقيلي (1899–1969) أحد أبرز علماء الدين في فلسطين والأردن خلال القرن العشرين، ورمزًا من رموز العلم والفقه الإسلامي المعاصر. وُلد في مدينة قلقيلية، ونشأ يتيمًا بعد وفاة والده، لكنه كرس حياته للعلم والدين، فنهل من مصادر المعرفة الإسلامية في صغره، ثم تتلمذ في الأزهر الشريف بمصر، وأكمل دراسته في كلية الآداب، ما جعله مؤهلاً للقيام برسالة علمية ودعوية متميزة.
امتزج في شخصية القلقيلي العلم بالعمل، والمعرفة بالخلق، فجمع بين التفوق العلمي، والالتزام الديني، والانتماء الوطني، ليصبح مثالًا للعالم الذي يخدم مجتمعه وأمته بلا كلل أو ملل. وقد جسد حياته نموذجًا للعالم الذي يمزج بين الفكر المعتدل، والتطبيق العملي للعلم، مع الانخراط في الحياة الوطنية والاجتماعية في فلسطين والأردن، فكان مفتي شرعي وداعية، ومربياً، ومفتيًا، وصحفيًا، ومؤلفًا، محققًا رسالة العلم والدين في أبهى صورها.
كان الصحفي والمفتي الشيخ عبد الله القلقيلي صاحب جريدة الصراط المستقيم هو أول من تكلم عن نشوء نظام الفصل العنصري في غزة برعاية إنجليزية، وكان ذلك في سنة 1931م وحذر منه.
الميلاد والنشأة
وُلد الشيخ عبد الله بن عبد الله بن محمد الحاج مصطفى عبد العزيز نزال عام 1899م في مدينة قلقيلية بفلسطين، في عائلة تنتمي إلى حامولة آل نزال، إحدى العائلات العريقة في المدينة. توفي والده قبل ولادته بأشهر قليلة، فتربّى يتيمًا في كنف أخواله الذين أحسنوا رعايته وتعليمه.
وقد جرت العادة في قلقيلية أن يُسمّى المولود باسم والده إذا توفي قبل ولادته، تكريمًا لذكراه، فحمل الشيخ اسم والده “عبد الله”.
أما لقب القلقيلي الذي اشتهر به، فهو نسبة إلى مدينته قلقيلية، وقد أطلقه عليه زملاؤه أثناء دراسته في الأزهر الشريف في القاهرة، فأصبح هذا الاسم ملازمًا له طيلة حياته، حتى صار جزءًا من هويته العلمية والدينية والرسمية فيما بعد.
المسيرة التعليمية
تلقى الشيخ عبد الله القلقيلي علومه الأولى في المدرسة الأميرية في قلقيلية، وكانت آنذاك تقع في غرفة صغيرة ملاصقة للمسجد القديم في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، وتولى التدريس فيها الشيخ محمد العورتاني، الذي عُرف بعلمه وتقواه وزهده، وكان له أثر كبير في توجيه الطالب اليافع نحو طلب العلم الشرعي.
وفي عام 1912م، وكان في الثالثة عشرة من عمره، شدّ الشيخ عبد الله الرحال إلى مصر لطلب العلم، فالتحق بـ الأزهر الشريف، حيث أمضى ست سنواتٍ ينهل من علوم الشريعة واللغة والفقه، حتى نال الشهادة الأزهرية.
بعد ذلك، التحق بـ كلية الآداب في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة لاحقًا)، ومكث فيها عامين، ظهرت خلالهما ميوله الأدبية والصحفية، فكتب العديد من المقالات في جريدة الكوكب المصرية، التي كان يصدرها ويرأس تحريرها أحد أبناء مدينته الشيخ محمد القلقيلي.
لقد كانت سنوات الدراسة في القاهرة مرحلة تأسيس فكري وثقافي مهمة في حياته، انفتحت فيها مداركه على الفكر العربي الحديث، واكتسب خلالها مكانة علمية جعلته لاحقًا من أبرز علماء فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين.
المسيرة العملية
عاد الشيخ عبد الله القلقيلي إلى فلسطين عام 1919م، وكانت البلاد آنذاك قد وقعت تحت الانتداب البريطاني، فوجد الأوضاع السياسية والفكرية مضطربة لا تتيح له تحقيق طموحاته الأدبية والصحفية التي نماها في مصر. قرر العودة إلى القاهرة لمتابعة نشاطه الفكري، غير أن الأقدار ساقته إلى زيارة المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة في القدس، وهناك التقى بالمفتي الحاج أمين الحسيني، وبالعالم الجليل كامل الحسيني، اللذين شجعاه على البقاء في فلسطين وخدمة العلم والدين فيها.
وفي تلك الأثناء، عرض عليه المربي الكبير أحمد سامح الخالدي العمل في ميدان التعليم، فاستجاب للدعوة، وعُيِّن مدرسًا للغة العربية والدين الإسلامي في مدرسة العامرية الثانوية في القدس، فكان من أوائل من جمعوا بين التعليم والدعوة والإصلاح الاجتماعي.
أظهر خلال عمله نشاطًا واسعًا في نشر الثقافة الإسلامية بين طلابه، كما شارك في الحياة الثقافية بالقدس من خلال الخطب والمحاضرات والكتابات الفكرية التي تناولت قضايا الأمة وهمومها.
لقد كانت القدس بالنسبة للشيخ القلقيلي محطة التحول الكبرى في حياته، حيث بدأت شخصيته العلمية والدينية تتبلور في طريقها نحو مكانة الإفتاء والمرجعية الشرعية في فلسطين والأردن لاحقًا.
النشاط الصحفي والفكري
تميّز الشيخ عبد الله القلقيلي بميوله الأدبية والفكرية المبكرة، فقد امتلك قلماً سيّالاً وذوقًا لغويًا رفيعًا، جعلاه واحدًا من الأصوات الفكرية البارزة في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني. وبعد استقراره في القدس، واصل نشاطه الثقافي، فشارك في الصحف والمجلات العربية ببحوث ومقالات تناولت قضايا الفكر والدين والأخلاق.
وفي عام 1925م، أصدر في مدينة يافا جريدة «الصراط المستقيم»، التي اتخذت من الكلمة الحرة وسيلةً للدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وكانت منبرًا للفكر الإسلامي المستنير. وقد صدر العدد الأول منها في الثاني من أيلول (سبتمبر) 1925م، واتخذت الجريدة خطًا وطنيًا إصلاحيًا معتدلًا، وجعلت من راغب النشاشيبي راعيًا وداعمًا لحركتها الصحفية، فكانت تُعدّ لسان حال الاتجاه المعارض لسياسات الانتداب البريطاني والهيمنة الصهيونية.
واستمرت الجريدة في الصدور حتى عام 1948م، وقد كانت من أبرز المنابر الإعلامية التي عبّرت عن وعي الفلسطينيين السياسي والفكري في تلك المرحلة. كما كتب الشيخ القلقيلي خلال هذه السنوات في عدد من الصحف العربية، منها جريدة «الكوكب» في القاهرة و«ألف باء» في دمشق، فجمع بين الفكر الديني والنهضة الأدبية، وأسهم في بلورة الخطاب الإسلامي الوطني الحديث في المشرق العربي.
![]() |
| فضيلة المفتي العام للمملكة الاردنية الهاشمية الشيخ عبد الله القلقيلي |
مفتي المملكة الأردنية الهاشمية
مع نكبة عام 1948م وما رافقها من تهجير واسع للشعب الفلسطيني، اضطر الشيخ عبد الله القلقيلي إلى مغادرة القدس أسوةً بآلاف العلماء والمثقفين الفلسطينيين الذين شُرّدوا قسرًا. فانتقل إلى دمشق، حيث واصل رسالته التعليمية، فعمل مدرسًا للغة العربية والتربية الإسلامية في ثانوية درعا ثم في ثانوية دمشق، واستمر في نشاطه الفكري والكتابي، مشاركًا بمقالات في الصحف السورية والعربية، من أبرزها جريدة “ألف باء” التي أسسها الفلسطيني يوسف العيسى.
وفي أوائل الخمسينيات، انتقل الشيخ القلقيلي إلى المملكة الأردنية الهاشمية، التي كانت قد احتضنت عددًا كبيرًا من العلماء الفلسطينيين. وفي السابع عشر من يناير (كانون الثاني) عام 1955م، أصدر الملك الحسين بن طلال مرسومًا ملكيًا بتعيينه مفتيًا عامًا للمملكة الأردنية الهاشمية، خلفًا للشيخ عبد الله غوشة.
وقد عُرف القلقيلي منذ توليه المنصب بحكمته واتزانه وعلمه الغزير، فكان مرجعًا في الفقه والفتوى، وذا مكانة علمية مرموقة في العالمين العربي والإسلامي.
وفي 24 أيلول (سبتمبر) 1957م صدر القرار الملكي السامي بتأليف هيئة من العلماء من أصحاب السماحة والفضيلة، وكان الشيخ عبد الله القلقيلي والشيخ سعيد عبد الله صبري من قلقيلية من بين العلماء الثمانية الأفاضل الذين تم اختيارهم لعضوية هذه الهيئة المرموقة.
ظلّ الشيخ القلقيلي يشغل منصبه مفتيًا عامًا للمملكة الأردنية الهاشمية حتى عام 1967م، حين أُحيل إلى التقاعد بسبب المرض، وهو في الثامنة والستين من عمره، بعد أن قدّم خلال سنوات عمله عطاءً علميًا وفقهيًا كبيرًا.
كتب ومؤلفات الشيخ عبد الله القلقيلي
ومن أبرز مؤلفاته التي تركت أثرًا في الفكر الإسلامي والفقه الحديث:
- • «أبحاث علمية إسلامية وفتوى في مسائل حديثة شرعية» (1954م).
- • «فتاوى علماء الدين في موضوع قانون الوعظ والمرشدين» (1955م).
- • «من وحي رمضان» (1956م).
- • «الفتاوى الأردنية» (1969م)، الذي تضمن خلاصة الفتاوى التي أصدرها خلال عمله مفتياً عامًا.
وفي عام 1969م، انتقل الشيخ عبد الله القلقيلي إلى رحمة الله تعالى في عمّان، عن عمر ناهز السبعين عامًا، بعد حياة حافلة بالعلم والعمل والدعوة والإصلاح، تاركًا إرثًا علميًا وروحيًا خالداً في الذاكرة الدينية والوطنية للأردن وفلسطين.
شخصيته وإرثه العلمي والفكري
تميّز الشيخ عبد الله القلقيلي بشخصيةٍ فريدة جمعت بين العلم الراسخ، والخلق الرفيع، والجرأة في قول الحق، مع تواضعٍ ودماثةٍ جعلت منه قريبًا من الناس، محبوبًا بين تلامذته ومعاصريه.
عُرف بزهده وابتعاده عن مظاهر الدنيا، وحرصه على خدمة الإسلام والعلم، فكان عالمًا عاملًا، يُطبّق ما يقول، ويُعلّم الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.
جمع القلقيلي في فكره بين الأصالة والمعاصرة، فكان من أوائل العلماء الذين تناولوا القضايا المستجدّة بروحٍ منفتحة تستند إلى أصول الفقه والاجتهاد الرشيد. لم يكن الفقه عنده حبيس النصوص، بل كان وسيلةً لفهم الواقع وتوجيه الناس نحو الخير والصواب.
وفي خطبه ودروسه، ركّز على القيم الأخلاقية والاجتماعية، وعلى تعزيز الوحدة الإسلامية، ونبذ الفرقة والتعصّب، مؤمنًا بأن الدين رسالة إصلاح قبل أن يكون طقوسًا أو شعائر.
أما في عطائه الفكري، فقد ترك الشيخ القلقيلي مؤلفاتٍ ودراساتٍ مهمة في الفقه والفكر الإسلامي، تُظهر سعة علمه وعمق نظره، لا سيّما في معالجة القضايا المعاصرة التي واجهها المجتمع الإسلامي في منتصف القرن العشرين. وقد كانت فتاواه تتّسم بالاتزان والدقة، مما جعله مرجعًا علميًا موثوقًا للعلماء والقضاة وطلاب العلم في الأردن وفلسطين وسائر العالم العربي.
رحل الشيخ عبد الله القلقيلي جسدًا، لكنه بقي حيًّا في ذاكرة طلابه ومحبّيه، وفي إرثه العلمي والفقهي الذي ما زال يُشكّل مرجعًا مهمًا للباحثين في الفقه الحديث.
فقد مثّل نموذج العالم الفلسطيني والعربي الذي جمع بين نور العلم، وشرف الدعوة، وصدق الانتماء لوطنه وأمّته، فكان بحقّ من أعلام قلقيلية وفلسطين والأردن، ومن الروّاد الذين أسّسوا لمرحلة جديدة في الفكر والفتوى والعمل الديني في المشرق العربي
صحيفة الصراط المستفيم
صحيفة الصراط الفلسطينية هي صحيفة يومية إخبارية سياسية دينية أسسها الشيخ عبد الله القلقيلي (قلقيلية، 1899–1969)، الذي تخرّج من جامعة الأزهر بعد دراسة علوم الدين الإسلامي وحصل على دراسات في اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة. بعد انخراطه في القضايا السياسية في مصر والانضمام إلى جماعات سرية، عاد القلقيلي إلى فلسطين عام 1919، حيث عمل في التدريس بمدارس القدس ويافا.
في عام 1925، أطلق الشيخ عبد الله القلقيلي صحيفة الصراط / الصراط المستقيم، التي خصصت مساحة للخطاب الإسلامي، بالإضافة إلى تغطية الأحداث السياسية المحلية والدولية، ودعت إلى مقاومة المشروع الصهيوني ومعارضة سلطات الانتداب البريطاني. كما احتوت الصحيفة على مقالات علمية وأدبية، ما جعلها منبرًا جامعًا بين الدين والسياسة والثقافة.
صدر العدد الأول من الصحيفة في 2 سبتمبر 1925، واشتملت أعدادها المبكرة على آيات قرآنية، حيث تم استبدال الآية الأولى في العدد 13 بآية من سورة الأنعام: «وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السُبل فتفرق بكم»، لتؤكد خط الصحيفة المستقيم في التوجيه الديني والسياسي.
على الرغم من خلفيتها الدينية، أصبح الطابع الإخباري والسياسي للصحيفة في الأربعينات واضحًا، حيث غطت الأحداث المحلية والعالمية بشكل بارز، مع الحفاظ على مواقفها الثابتة من مواجهة سلطات الانتداب والمشروع الصهيوني.
بعد عام 1948، استقر الشيخ القلقيلي في سوريا، وواصل العمل الصحفي والتدريس، ثم انتقل للاستقرار في الأردن، حيث أصبح مفتي المملكة (1955–1967)، وأصدر سنة 1956 مجلة دينية باسم هدى الإسلام، مواصلاً مسيرته الصحفية والدعوية التي جمعت بين الدين والسياسة والوطنية.
بدايات الفصل العنصري في غزة
كان الشيخ عبد الله القلقيلي، الصحفي والمفتي صاحب جريدة الصراط المستقيم، أول من نبه إلى نشوء نظام الفصل العنصري في غزة تحت الرعاية البريطانية، وذلك في عام 1931م. فقد لاحظ الشيخ القلقيلي أن بلدية غزة تقدمت بطلب إلى الحكومة البريطانية للحصول على 3 آلاف جنيه لإنشاء مشروع توزيع المياه، إلا أن الحكومة رفضت الطلب بينما كانت تمنح بلدية تل أبيب الأموال بسخاء، ما أعطى إشارة واضحة إلى التحيز لصالح المشروع الصهيوني.
في مقال نشره في جريدته الصراط المستقيم، كتب القلقيلي:
“إن النفوذ الصهيوني قد تغلغل في الأوساط الحكومية في لندن وفلسطين لإضباع مطامعهم ونوال أمانيهم في تأسيس الوطن القومي اليهودي، أيتها الصحافة .. هل أتاكِ حديث بلدية غزة ورفض الحكومة إعطاءها 3 آلاف جنيه وهي تكيل الأموال جزافًا لبلدية تل أبيب، هل عَنَّ لكِ أن تناضلي عن حقوق البلديات العربية وتفهمي العالم عسف السلطة المنتدبة وتحيزها الشائن؟”
وقد تصاعدت مظاهر الفصل العنصري اقتصاديًا في غزة بحلول عام 1946م، حين حاولت الحكومة البريطانية إصدار قوانين تحد من قدرة مجلس بلدية غزة على التصرف في أموالها، مثل تقييد الصرف بأكثر من 200 جنيه دون موافقة الحاكم الإنجليزي للواء غزة. وبعد مفاوضات، سمح الحاكم بصرف 3 آلاف جنيه فقط لتمهيد الطرق رغم أن قيمة المشروع كانت تبلغ 7 آلاف جنيه، مع شرط أن يساهم الملاك المحليون بنصف المبلغ.
![]() |
| المقال كما ورد في الصحيفة المطبوعة عام 1931 |
من خلال هذه المقالات والتحليلات، كان الشيخ عبد الله القلقيلي أول من كشف عن التمييز المنهجي والتحيز الاستعماري ضد الفلسطينيين، مسلطًا الضوء على الظلم المالي والسياسي الذي مورس ضد غزة، ومدافعًا عن حقوق البلديات العربية ووعي المواطنين بالقضية الوطنية.



تعليقات
إرسال تعليق