القائمة الرئيسية

الصفحات

يوميات صومالي في قلقيلية

يوميات صومالي في قلقيلية 

بقلم: الكاتب والباحث الميداني
أ. محمد توفيق زهران


يوميات صومالي في قلقيلية


اليوم الأول:

بعد عودتي من المهجر الكندي إلى عمّان عاصمة العرب، شدني الحنين إلى الماضي الجميل. فقمت بزيارة إلى مسقط رأسي كمواطن كندي للمرة الثانية، لأرى الحقيقة المرة بعيني هذه المرة، ولأتعَرَّفَ على الأجيال التي ولدت في غياب الرعيل الثاني والثالث من أبناء قلقيلية، الذين خرجوا للعمل في دول الخليج ولم يتمكنوا من العودة إلى قلقيلية بسبب الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967م.


بعد إتمام إجراءات الدخول إلى الضفة الغربية من خلال جسر العودة المحتل "اللنبي"، توجهت بالسيارة إلى قلقيلية، وعند وصولي إلى هضبة صوفين، لفت نظري جامع]السلطان محمد الفاتح[  شيد على غرار قبة الصخرة المشرفة في القدس، غاية في الفن المعماري، وأمامه شجرة زيتون تعود إلى ما قبل الميلاد، وقبيل وصولي إلى بيتي، طلبت من قائد السيارة التوقف أمام مطعم أبي فلاش المشهور بالمشاوي في قلقيلية، دخلت المطعم و تعرفت عليه، وهو من الرعيل الثالث الذي لم يغترب للعمل في الخليج، رجع أبو فلاش بذاكرته إلى أيام الصِّبا وبعد هُنيهة تذكرني فكاد أن يبكي على الأجيال التي خرجت للعمل ولم تعد بسبب الاحتلال. اجلَسَنِي ابنه ناصر على طاولة الجنرال شارون الذي شرَّد أجيالاً قبيل وبعد حرب عام 1967م حيث كان قد تناول وجبة الغداء في مطعم أبي فلاش تحت الحراسة التي كانت ترافقه قبيل غزو لبنان عام 1982م([2])كما أعلمني بذلك أبو فلاش، فنهضت عن طاولة القاتل الذي فشل باحتلال شمال قلقيلية عام 1956 م وجلستُ على طاولة أخرى.

وعادت بي الذاكرة إلى مقال الصحفي الألماني بيتر هانز الذي كتبه بعد ارتكاب مذابح اليهود في بيروت ضد العُزّل تحت عنوان: ] تحرّرنا من عقدة الذنب، وقد فعل اليهود بالعرب في لبنان أكثر ممّا فعله النازي بهم![. وبعد أن تناولت وجبة الغداء، خرجت أجرُّ هزيمتي النفسية إلي بيتي، مشياً على الأقدام، لكي أتذكر في طريقي البيوت العربية التي تركتها قبيل هجرتي، فلم أجد أمامي سوى طوابق سكنيه من الإسمنت، فقد أزيلت البيوت القديمة بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي توسيع حدود بلدية قلقيلية! وكذلك لم أشاهد أحداً يرتدي هدماً أو قمبازاً اللّذين كانا سائدين بين الرعيل الأول قبيل هجرتي المشؤومة.

وصلت إلى بيت والدي، رحمه الله، فوجدته من الخارج كما هو منذ هجرتي الأولى يوم الخميس11/5/1961م. وكذلك حجر الزاوية لبيت جارنا العم الحاج إبراهيم أبو علبه، رحمه الله، كما هو أيضا، وكذلك بعض البيوت من الأقرباء في حي زهران الذين هاجروا عام 1967م إلى الأردن، وجدتها تنعق فيها الغربان وتسكنها الأشباح، فتذكرت قول جميل بثينة:

[ ألا يــا غُــرابَ البيــن، فيــمَ تَصيــحُ؟

                     فَصــوتــُكَ مَشـنِـيٌ إلـيَّ قَبيحُ ]


جلست على عتبة دار عمي عبد الحفيظ زهران، رحمه الله، المُكنّى بأبي علي (الذي هاجر مع عائلته إلى مدينة الزرقاء - الأردن) أبكي حزناً في داخلي على غيابه، إذ كان العين الساهرة على بني قومي في ذلك الوقت، وتذكرت أيضاً مآثر عمّتي الآنسة هند بنت عبد الغافر زهران التي أهدتني قرآناً في طفولتي –عليها الرحمة-. فحضرني مقطع من قصيدة "لن ابكي" للشاعرة فدوى طوقان التي قالتها في مدينة يافا:

وقـال القـَلـبُ: مـا فَعــَلـت بِــكِ الأيــامُ يــا دارُ؟

وَأيــن القـاطــِنــُونَ هُنــا، هُنــا كـَانـوا، هُنــا حَلـِمـوا

هُـنــا رَسَــمــُوا، مــشــاريــعَ الغــَدِ الآتـــي،

فأيــنَ الحُــلــمُ والآتــي وأيــنَ هُـمــو، وأيـن هُـمـو؟

ولـم يَـنـطـُـق حـُطـامُ الــدارِ،

وَلَـم يَــنـطُــق هُـنــاكَ سِــوى غِـيـابِـهـمــو

وَصـَمـتُ الصَّـمـتِ، والـهِــجــرانُ

وكـانَ هُـنــاكَ جَـمعُ البــومِ والأشــبـاحِ

وانتبهت لجمهرة أبناء الحي ينظرون إليَّ نظرة تعجب! حتى تكلم معي فتى وقال: هل أنت عابر سبيل يا عم في حي آل زهران؟ قلت: أنا من هذا الحي يا بني، ورددت له قول الشاعر أبو ماضي:

[ وَطــنُ النّجــوم ِأنــا هُنــا

                   حَــدِّق أَتـذكُــرُ مــن أنــا

أنــا ذلِـكَ الـوَلَــدُ الــذي

                                           دُنيــاهُ كـانَـت ههُنــا ]

فأنكرني الفتى، مَعَ أنه من أبناء عمومتي كما علمت بعد ذلك وعندها، خرجت أختي، الحاجّة عزية زهران، من بيتها وهي في العقد التاسع من عمرها، بعد ما سمعت ضجيج الناس في الشارع، فشاهدتني جالساً على عتبة دار عمي عبد الحفيظ. فقالت وهي قادمة لمقابلتي: ماذا تفعل على عتبة دار عمي يا أبا توفيق؟ قلت: أتذكر الماضي الجميل الذي ذهب ولن يعود.

قالت: (عَدَوَّات عليك([3])!!) وعلى أجيالك الذين خرجوا للعمل لمدة عامين في الخليج، وبقوا هناك يلهثون وراء السراب الخادع ولم يعودوا إلى قلقيلية التي كانت العين الساهرة على فلسطين! ادخل إلى بيتك وتذكر الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية من أبطال آل زهران الذين ضحوا بأنفسهم من أجل أن تتربع أشبال السلطة الفلسطينية على الكراسي ليكونوا مقابل ذلك حراساً لبني إسرائيل! وأردفت قائلةً: ]كم من شبلٍ نافق أسدا ...وأضمر له غلاً وحسدا[ كما قال المعرّي في رسالة الغفران.

قلت: في نفسي أمنية يا أختاه. قالت: ماهيَ؟ قلت: إني أعترف أمامك بهزيمتي كمغترب، وإن دماء شهداء الثورة الفلسطينية، بمن فيهم أخي  نصر توفيق زهران (ناصر الفداء) الذي استشهد مع رفاقه في عملية نهاريا البحرية يوم 7/9/1972 تحت قيادة حركة فتح، قد ذهبت هباءً منثورا بعد اتفاقية أوسلو! قالت: أعلم ذلك فالمهزوم من ]أبوات[ السلطة يجب عليه أن يعطي فرصة لغيره من الشباب.

قلت: إذا تكلمت الامتيازات عند بعض ]أبوات[ السلطة: ألفوا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفوا الانقياد ولو إلى المهالك، كما قال: عبد الرحمن الكواكبي، رحمه الله، في كتابه طبائع الاستبداد. قالت: فأين قوات العاصفة من هؤلاء الأوتاد؟ قلت: دخلت مقبرة التاريخ، بعد استشهاد الرعيل الأول من أسود الثورة الفلسطينية والعوض بسلامتك، يا أختاه! قالت لقد قال الشاعر العربي أبو تمام:

                                   [ إذا لــَم تَـخــشَ عــاقـبـةَ الليــالــي

   ولــم تَـسـتـَحِ فـافـعـَل مــا تَـشــاءُ ]

وهذا القول ينطبق أيضاً على الأجيال المهجّنة فكرياً التي تكاثرت بعد غياب الجيل الثاني والثالث عن قلقيلية! والتي لا تحترم كبيراً ولا صغيراً ولا فكراً ولا أدباً، فيا ليتني رحلت عن هذه الدنيا مع الرعيل الأول من الآباء، حتى لا أرى جشع وثقافة هذه الأجيال التي لا تشبع ولا تقنع، كما كنتم يا أبناء قلقيلية في الماضي، وبعد دخولي إلى بيتي لم أجد إلاّ ذكرى أبي وأمي في انتظاري ولم أجد بني قومي يفتحون لي باب الديوان لاستقبالي كما كانوا في الماضي يفعلون. فسألت نفسي أين هم؟ قالت: ابكِ عليهم كما بكت جدران الدواوين على غيابهم، فبكيت في داخلي ندما على غربتي مردداً بألمٍ وحسرة مع شاعر المهجر البرازيلي القرويّ بعد عودته إلى بيته في لبنان قائلاً:

[ رَجَعــتُ والأشـواقُ تَكـوي الضُلـوع

          فَلَم يُخَفِف من حَنيني الرُّجوع

                                     أحــِسُ فـي البُعـدِ والقُــربِ جُــوع

                  أيــن إِذَن أَهلــي وأيـنَ الرُّبــوع؟]

وعندما سألت أختي عن جاراتها من أمهات الحيّ بدأت تبكي عليهن بصمتٍ وقالت: لم يبقَ غيري من الجيل الثاني على قيد الحياة إلا ما ندر حتى النسوة من الجيل الثالث قد رَحَلنَّ عن قلقيلية من ذلِّ الاحتلال اليهودي للعرب! وأردفت قائلة: إنّ العرب قد سادوا في عهد المعتصم وبادو في عهد أمراء النفط! فذكرتني بالشاعر الأموي الأخطل الكبير عندما قال:


 ] قَــومٌ إذا اسـتـنـبَــحَ الأضـيــافُ كَـلـبَـهُـمُ

قـالــوا: لِأُمِّـهِــمُ بُـولــي عَـلــى الـنَّــارِ [

وقبيل الغروب خرجتُ أتفقدُ بيوت جيراني ثمَّ وقفتُ أمام بيت أول مقاوم من قلقيلية ضد الأتراك وهو القائد عبدالحميد زهران الذي خرجَ ولم يعد إلى قلقيلية.

وقلت في نفسي: لقد خسر المغترب الأهل والوطن، كالفدائي الذي ضحى بنفسه من أجل الآخرين، وتذكرت قصته مع جمعية العهد..! التي تشكلت في اسطنبول يوم 28/10/1913م وهي جمعية عسكرية سرية أنشئت قبل الحرب العالمية الأولى، وكان مؤسسها البكباشي (العقيد) عزيز علي، ومن أعضائها من فلسطين الدكتور/علي النشاشيبي من مدينة القدس، التحق بها أبناء فلسطين الذين كانوا يخدمون في الجيش التركي وذلك لمقاومة التتريك في بلاد العرب ومنهم عبد الحميد (مصطفى) زهران الذي عين قائداً على منطقة يافا وحكمت عليه المحكمة العسكرية التركية بالإعدام غيابياً وأصبح زهران مطارداً وكان في العشرينات من العمر وبعد تنفيذ حكم الإعدام على الدكتور/علي النشاشيبي ورفاقه في ساحة المرجه في دمشق عام 1916م هرّبه رفاقه لخارج فلسطين عن طريق ميناء يافا إلى باريس، وهناك التحق بالفيلق العربي تحت قيادة الجيش الفرنسي مع بداية الحرب العالمية الأولى وبعد انتهاء الحرب عاد إلى فرنسا وحصل على الجنسية الفرنسية كغيره من المقاتلين العرب المهاجرين من ظلم الأتراك في ذلك الوقت

بعد ذلك تزوج من إحدى بنات المغرب العربي في فرنسا وأنجب منها ولداً أسماه مصطفى وبعد وفاته في باريس تزوج ابنه مصطفى وأنجب ولداً أسماه ادوارد زهران وعندما اشتد ساعد ادوارد هاجر إلى أمريكا وتعرف هناك عن طريق الصدفة على أحد طلبة أهالي قلقيلية وكان ذلك عام 1982وقد زوده ذلك الطالب بعنوان معروف زهران حيث بدأ إدوارد بمراسلته وقد كشف عن سر جده / عبد الحميد ] مصطفى [ زهران في رسالته إلى معروف، واجتمع معروف مع كبار السن في ديوان آل زهران وقرأ عليهم مضمون الرسالة فتذكره الحاج علي أبو علبه وقال: إنَّهُ كان مطاردا من قبل الأتراك ثم اختفى في بلاد الله الواسعة ولم نعلم عنه شيئا منذ ذلك الوقت وقد أعلمني بهذه القصة معروف زهران خلال زيارتي إلى قلقيلية عام 1986 وبعد البحث تبين أن العم عبد الحميد ] مصطفى [بن أحمد بن مصطفى زهران وهو الأخ الأكبر للعم مجاهد زهران المكنى بأبي العلا ووالدتهم ثريا نزال أم مصطفى.

ويقول الكاتب الانجليزي G.M.N GESRAZ في كتابه المترجم بواسطة أحمد خليل الحاج إلى اللغة العربية (فلسطين إليكم الحقيقة) كان عبد الحميد زهران من بلدة قلقيلية متمردا وعصيا على الحكم التركي وكان هاربا من حكم الإعدام في عهد جمال باشا الحاكم العسكري التركي في بلاد الشام– عليه الرحمة -.



ثم وقفتُ أتذكر طفولتي أمام دار خالي عبد الله ابن الحاج أحمد عبد القادر زهران المُكنّى بأبي تحسين الذي هاجر مع عائلته إلى العراق. في بداية الخمسينات من القرن الماضي وسكن في حي تل محمد في بغداد، بواسطة اللواء عبد الكريم قاسم قائد الجيش العراقي في منطقة قلقيلية عام 1948م والمعروف لدى أهالي قلقيلية في ذلك الوقت. ثم عاد مع عائلته إلى مسقط رأسه قبيل منتصف الستينات، وبعد العودة بقليل توفيت زوجته أم تحسين ودفنت في قلقيلية عليها الرحمة.

عبد الله زهران قلقيلية 1965م

وخلال حرب 1967م هاجر من قلقيلية مع أبنائه بقوة الإرهاب الإسرائيلي إلى عمّان وسكن في قرية ]ناعور[. وفي عام 1969م قام بزيارة سريعة لبعض الأقارب في الكويت وبعد الزيارة غادرها إلى عمّان عن طريق العراق براً. لم يصل خالي/ عبد الله زهران إلى بيته في الأردن كما أعلمتني والدتي بواسطة الرسائل. وعلى الفور قمت بزيارة البصرة والبحث عن اسمه من بين أسماء المسافرين من البصرة إلى بغداد ومع الأسف لم أجد له اسماً مدوناً من بين المسافرين، ثم عرجت إلى الحدود العراقية الإيرانية للتأكد من صحة الأنباء التي وصلت إلى والدتي بأنه قد سافر إلى الإمارات عن طريق إيران بحراً ولم أنجح أيضاً بذلك.


أبلغت والدتي بالنتائج السلبية فقامت على أخيها النوادب في عمّان وقلقيلية وهي تردّد قول المعرّي:

[وَقَــــامَــت عَلــَى أَهــلِ الــرَّشـــادِ نـــَوادِبٌ

 وَغَـــصَّــت بِــأهـــلِ المُــنــدياتِ نــَوادي]

ومنذ ذلك التاريخ الأسود اختفى خالي/عبد الله زهران من الوجود – عليه الرحمة -.

والمعروف عن أبي تحسين ثقافته الواسعة بين أجياله في ذلك الوقت ولم يحالفه الحظ في الثلاثينات بالالتحاق  في جامعة الأزهر مع زملائه من أبناء قلقيلية كما أعلمني بذلك بسبب التسلط الأعمى عليه من أحد أقربائه حيث أبلغه أنه بحاجة لمن يحمل السيف وليس القلم! فردّ عليه خالي بقوله المشهور في ديوان آل زهران:

] إن القلم أقوى من السيف [

عقود آل زهران في قلقيلية 1987 – 1816

اليوم الثاني : 

وقفت أتذكر طفولتي في ساحة العقود (التي أزيلت عقودها) وهي التي بناها جدي الحاج محمد بن طه بن عبدالله بن زهران المكنى بأبي القاسم عام1816م هذه العقود التي أزيلت بقرار من المجلس البلدي المعين من قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1987م بحجة أن العقود آيلة للسقوطّ وتشكل خطراً على المارة والحقيقة فإنّ هدفهم كان إزالة تراث أهالي قلقيلية من الوجود!. وقد أبلغني علي الداوود في غربتي بأن أكثر من أربع عشرة شاحنةً كبيرة نقلت الحجارة إلى خارج قلقيلية! وفي صمت المكان تذكرت قول أبي تمام:

                                  [كــم مـنـزلٍ فـي الأرض يـألَفُـهُ الفَـتـى

                                                        وحَـنـيـنـُهُ أَبــداً لأَولِ مَـنـزِلِ]

وكانت عقود ال زهران تستعمل كملاجئ لحمايه النساء والأطفال من القصف الإسرائيلي المستمر على الأحياء الشمالية  والغربية من قلقيلية بعد عام 1948م حتى الخمسينات من القرن الماضي، وذلك لدب الرعب في قلوب الأهالي، كما أوصى ميكافللي المحتل وذلك في كتابه (الأمير).وللتاريخ  ذكر لي العم/محمد أمين عناية المكنى بأبي رشيد ([4])، في مقابلة مسجلة خلال زيارتي إلى قلقيلية عام 1986م، أنه: في عام1898 م زار الامبراطور الألماني وليم الثاني مدينة القدس وفي طريقه من أراضي العين بوسية او السلطانية الواقعة غرب قلقيلية قادماً من حيفا شاهد عقود آل زهران (المشيدَّة كالقلاع) والمكونة من ثلاث غرف كبيرة وديوان ومرابط للخيول وبئر ماء ومخبز (طابون) ومطلع درج يصل الى السطح للمراقبة ومحصن بأسوار ثلاثة وساحة سماوية مبلطة بالحجارة على النظام الكنعاني في القدس القديمة والمدخل الرئيسي للعقود من البوابة الشمالية التي يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار وتقع هذه العقود شمال غرب المسجد القديم مباشرة وكانت المنطقة في ذلك الوقت غير مأهولة بالسكان وبعد عودته من القدس أمر الإمبراطور الألماني حراس مركبته التي كانت تجرها ستة خيول مزينة بالقماش الأحمر بالتوجه الى قلقيلية. وقد سبقه رسوله ليبلغ جدي قاسم الحاج صاحب العقود بالزيارة فرحب بذلك وتوقف موكب الامبراطور أمام البوابة الشمالية فكان في استقباله جَدي مع حشود من أهالي قلقيلية الكرام بالحفاوة والترحيب.


وكما ذكر لي أبو رشيد بأن والدتهُ قد رفعته على كتفيها حتى يشاهد الامبراطور الألماني وهو خارج من ديوان آل زهران. وبعد الغداء ... طلب الضيف من جَدي قاسم بواسطة ضابط تركي كان يرافقه، أن تكون العقود مركزاً لتمويل الجيش الألماني في قلقيلية، فلبى له طلبه إكراماً للسلطان عبد الحميد الثاني.

ثم أردف أبو رشيد قائلاً: وبعد تسليم العقود للجيش الألماني هاجر جدي قاسم  مع أبنائه محمد وحامد إلى قرية فلامية ونزلواضيوفاً على آل أبي الظاهر الكرام فصاهرهم بولده محمد بعد خدمته في الجيش التركي من آمنة المنصور التي أصبحت مختارة على قرية فلامية بعد وفاة والدها عام 1903م.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استرجع أبناؤه العقود بعد وفاة والدهم وبقي جَدي محمد في فلامية ومن أعقابه قاسم وتوفيق وعاد جدي حامد إلى قلقيلية ومن أعقابه سعيد عليه الرحمة ومحمود الذي أنجب محمداً (الملقب بالأشوح) والشيخ أحمد وعبد الرحيم المكنى بأبي مثقال.

وبعد وقوفي على ذكريات الآباء والأجداد والعقود التي أزيلت بقرار من المجلس البلدي المعين  تذكرت قول أبي الهيثم عبد الواحد المعري الحريص على الآثار الإنسانية في عصره حيث قال:

[أمُتـلـِفُـهـا شُــلَّـت يَـمـيـنـُكَ خَـلِّهـا

                    لِـمـعُـتـَبِـرٍ أو زائــرٍ أو سَـائــلِ

مـَنـازِلُ قَــومٍ حَدَّثَـتنــا حَــديـثَــهُــمُ

                               فَـلَـم أرَ أجـلــى مــِن حَــديــثِ المـَنـازِلِ]


رواد ديوان آل زهران في قلقيلية عام 1994

ثم قمت بزيارة إلى شارع الدواوين، كما يسمى في قلقيلية القديمة،والذي يقع خلف بيتي، وقد تفاجأتُ بإزالة تراث دواوين آل زهران وآل جُعيدي وآل نوفل القديمة التي تأسست قبل عام 1945م وقد تحولت الدواوين إلى صالات واسعة كأنها صالات للرقص بعد أن كانت في الماضي ملتقى الحكماء!فقلت في نفسي: إن الفجوة الثقافية بين الجيل الماضي والحاضر قد اتسعت للأسوأ.

فالأجيال قد تبدلت بفعل الاحتلال الاسرائيلي يا أبا توفيق، إنه تدمير للمجتمع الفلسطيني من الداخل وقد نجح الاحتلال بترويض]أبوات[ السلطة فأصبحوا وكأنهم موظفون في وزارة الدفاع الإسرائلية!، بعدما شاهدت بنفسي انسحاب الشرطة الفلسطينية من الشوارع لتفسح المجال لدخول قوات المحتل إلى قلقيلية لإلقاء القبض على فدائي مطلوب سابقاً لإسرائيل، وهذا ما توقعه المفكر الفلسطيني ناجي علوش في بيروت.

وأمام هذا المشهد قلت لمرافقي: ألم يقرأ أحد من أزلام السلطة ما قاله الشاعر الصهيوني ] إفرايم تسيدون [في قصيدته البغضاء ضد الفدائيين عندما قال([5]):



]لَو تَخلى الفدائيونَ عن اسلحتهم وعقيدتهم

وأرسلوا بِطَاقَاتِ التَهنئةِ لِكُلِّ بيتٍ يهودي،

حتى لو شَاركتنا ]المنظمةُ[

في بناءِ المستوطناتِ للمهاجرينَ الجُدُد

حتى لو أعلنوا أمامَ الملأ:

بأنَّ الضَّفةَ الغربية هي أرضٌ يهوديةٌ

حتى لو قامت (فتح)

بِنَسجِ قُبَعاتِ الصُّوفِ ليهودِإسرائيل،

حتى لو استقبلَ أهالي الضَّفة

جَماعاتِ (غُوش أمونيم) بالأغاني والزَّغاريدِ

وحتى لو اعترفوا بالدولَةِ اليهوديَةِ

ورفعوا راياتِ الهزيمَةِأياماً، وليالي،

وحتى لو تحولت سيوفهم إلى أقلام، ومساطرَ

لن نُجالسهم ابداً

ولن نتحاورَ معهم [



أما دواوين قلقيلية التي كانت عامرة بالحكماء من الرعيل الأول قبيل هجرتي، حيث لم يبقَ أحدٌ منهم على قيد الحياة بحكم الزمن لهم الرحمة، وفي ديوان آل الجعيدي وجدت علي أحمد الداوود وهو من الرعيل الرابع يستضيف وليد النوفل وقصي عناية الذي دعاني لزيارته في المساء، أما ديوان آل زهران فهو مغلق، وكذلك ديوان آل نوفل، فقد أصبحت الدواوين اليوم تفتح للأعراس، أو لقبول التعازي، لمدة يومين للمتوفي المقيم، أما عزاء المغترب،إذا كان له أقرباء من الدرجة الاولى، فعزاؤهُ كعزاء المرأة، يبدأ من بعد صلاة العصر إلى قبيل الغروب، والعوض بسلامة المغترب في الخارج! وذلك لرفع العتب أمام الأخرين، والأخرون يعتبرون المتوفى في الخارج كأنه هباء! فالموت حسب تعبير المعرّي:                 

[ ضَــجــعـَةُ المَــوتِ، رَقــدَةٌ يَـسـتَــريــحُ

                                                الـجِـســمُ فـيــهــا، والعَـيـشُ مِـثــلُ السُّــهــادِ ]



لذلك .. أوصيت أبا نصر زهران، عندما يأتيك نبأ رحيلي عن هذه الدنيا الغادرة في غربتي، لا تنع خالك المكنى بأبي توفيق في قلقيلية، وذلك احتجاجاً على إزالة ديوان آل زهران القديم! والمتسبب في ذلك له لعنة الأباء والأجداد من أجداثهم إلى يوم الدين.

هذا وقد قمت بزيارة سريعة إلى ديوان آل عناية في المساء بناءً على دعوة سابقة، وأمام باب الديوان الذي تأسس في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، استقبلني الناشط الاجتماعي قصي عناية بالحفاوة والترحيب، ثمّ اجلسني في صدر الديوان على فراش ومساند مصنوعة من الصوف البلدي، وهذه عادة العرب في إكرام الضيف إن كان مقيماً أو مغترباً، حيث أعادني إلى الماضي الجميل، فوضع امامي منقل النار وقدم لي القهوة العربية وكتيباً قديماً عن أسماء شُهداء قلقيلية الذين دافعوا عن الخط الدفاع الأول عن العرب منذ عام 1948-1965م، بقلم/ والده المؤرخ مصطفى عناية عضو المجلس البلدي المنتخب في قلقيلية من عام 1951- 1972م وكان آخر الشهداء في الكتيب الشهيد البطل/ محمود زهران ]الأشوح[ الذي استشهد في ليلة 13 أيلول عام 1965م. ([6])

وبعد هُنيهة وصل الدكتور/ إبراهيم عويضة المتخصص في الشريعة الإسلامية، برفقة الجيل الرابع من أهالي قلقيلية وهم: الحاج إبراهيم عبد الرحمن، إحسان عودة، وليد القشمر، علي داوود، وغيرهم من الأجيال التي ولدت في غيابي.

 وبعد التعارف دار الحديث حول أدب المعريّ وتحولت الجلسة إلى ندوة أدبية على غرار ]صالون الكاتبة والأديبة ميّ زيادة في القاهرة المولودة في الناصرة عام 1886م من أب لبناني من عينطورة وأمّ فلسطينية من الناصرة[ والتي قالت قُبيل رحيلها ]عن عالمِ ما هو إلّا الغدر والجهلُ[ عام 1941م في حي المعادي بالقاهرة: أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراستي.. وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس.

هذا وقد دار النقاش ]العلائيُّ[([7]) بيني وبين الدكتور/ عويضة حول نقد أبي العلاء لأصحاب العمائم في قوله:

                        ] يــدٌ بِـخَـمْـسِ مِــىءٍ مِـــنْ عَـسـجــدٍ فُــديــت

          مــا بـالُـهــا قُــطِّـعــتْ فــي رُبــعِ دِيـــنـــارِ[

قلت: هذا كان ردّ المعريّ على أصحاب العمائم الذين حددوا في جلساتهم قيمة السرقة في الإسلام، وهذا يتنافى مع قول الرسول r:  (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688) .

قال: صدق رسول الله r في قوله، ولكن المعري كان قاسياً أيضاً على علماء الكلام في بغداد عندما غزاهم في قوله:

                        ]يُـخَــبّــرونَـــكَ عـــن رَبّ العُــلـى كــذِبـــاً

 ومــا دَرى بشــؤونِ اللَّهِ إنســـانُ[

قلت: كان المعريّ صادقاً في قوله فليس هناك إنسانٌ يعلم بشؤون الله إلّا إذا جاء في القرآن الكريم، وعن الأنبياء -عليهم السلام- والدليل على ذلك بعد وفاته عام 449 هجري وقف على قبره ثمانون شاعراً وَقُرىءْ عليه القرآن الكريم من قبل رجال الدين من ذوي العقول النيرة لقوله:

 ]وَشَاهِدٌ خَالقي أنَّ الصّلاةَ لُـــهُ

        أَجَـــلُّ عندي مـــــن دُرّي وياقـوتي[

 فلا يحق لأحد أن يكفر أحداً فالخالق هو الذي يعلم ما في الصدور وليس المخلوق، قال: صدقت بما تقول.

وبعد حواري مع الدكتور/ عويضة الذي كان ساخطاً على أدب المعريّ، اقتنع أخيراً عندما سمع لأول مرة بهذا البيت الجميل لأبي العلاء المعريّ الذي دلَّ على إيمانه المطلق بالخالق وليس بالمخلوق، فالمخلوق عند المعريّ له شأنٌ آخر في ديوانه لزوم مالا يلزم.

وقبيل انصرافي سألني أحد الحضور الكرام عن الحرب الأهلية في سوريا وكان يخشى أن تتحول إلى حروب طائفية.

قلت: إن الشرق الدافئ يتسع للجميع، ولكن فيه خزان مليءٌ بالأعراق والمذاهب والطوائف والأديان ومع الأسف قابل للانفجار في أي لحظة إذا أرادت الأيدي الخفية لذلك وأتوقع في الأيام القادمة أن ينفجر الشرق في وجه الأقلية التي تتحكم بالأكثرية بقوة المال والنار فالأقلية الدينية، أو المذهبية عليها أن تحترم الأكثرية إذا أرادت أن تعيش بسلام في الشرق الدافئ، لقد حمى الله الشعب الثنائيّ من شرّ تعدّد المذاهب في الضفتين.

استأذنت من الحضور الكرام بالانصراف لزيارة الحاج/ عبد القبعة وذلك لضيق الوقت لزيارتي إلى قلقيلية.

فقام قصي عناية المكنى بأبي مصطفى بتوديعي إلى باب الديوان مثل ما استقبلني، وهو من الجيل الرابع والناشط الاجتماعي في قلقيلية الذي ورث الكرم، وحب العلم، والمعرفة عن ابيه العم/ مصطفى اليوسف العناية الذي توفاه الله عام 1981م في قلقيلية – عليه الرحمة -.

وبعد ذلك قمت بزيارة خاطفة إلى الحاج عبد القبعة المكنى بأبي كمال (في الزاوية المشهورة في قلقيلية التي تأسست في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي للفرق الصوفيه)، وهو ممن بقي على قيد الحياة من الجيل الثاني، وبعد اللقاء به قال: ما رأي أبي التوفيق في أجيال قلقيلية اليوم؟. قلت: كما جزم المعري في قوله:

                                 ]ما فيهُمُ بَرُّ ولا صَالحٌ

                                                إلّا إلى نَفْعٍ لَهُ يُجلَبُ [

قال: أتمنى من الله إصلاح هذا الجيل المهجن الذي ظهر في ظل الاحتلال الاسرائيلي،  والبعيدين كل البعد عن مواقف العزّ والاحترام كما كان أباؤنا وأجدادنا في الماضي.

قلت لأبي كمال قبيل انصرافي: هذا من نتائج الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية منذ عم 1967م حتى الآن.


اليوم الثالث: 

قمت بزيارة إلى ضريح جدتي آمنة المنصور، رحمها الله، في قرية فلامية.وكانت جدتي المذكورة مختارة القرية بعد رحيل والدها، جدي منصور، مختار القرية، رحمه الله، عام 1903.

وقد اعترض عمها على استلام ابنة أخيه المخترة ، فقام بتقديم شكوى ضدها أمام القائم مقام التركي في مدينة طولكرم، تفاجأ الحاكم التركي ومساعدوه بهذه الشكوى فقاموا بزيارة القرية لمقابلة آمنة المنصور للتأكد من قوة شخصية المختارة، وعند وصولهم إلى القرية، استقبلتهم جدتي آمنة في ساحة القرية وقالت لخادمها (بشير): أكرم الضيوف وبعد الغداء سألها القائم مقام التركي، لماذا لم تعط ختم المخترة إلى عمك يا آمنة ؟ قالت: سل عمي ... هل يحفظ القرآن حتى يتسلم المخترة؟

فقال عمها أمام الحضور: لم أحفظ القرآن ولكن .. المخترة للذكور من آل الظاهر.

فقال القائم مقام: مبروك عليك المخترة يا أم قاسم.

وبعد أسبوع أصدر الحاكم التركي لمدينة طولكرم مرسوماً بتعيين آمنة المنصور مختارة لقرية فلامية عام 1321هـ الموافق 1903م. وبهذا كانت جدّتي أول امرأة تتبوأ المخترة في الدولة العثمانية! كما هو واضح من التاريخ على ختم جدتي آمنة وشعارها غصن الزيتون، والختم في حوزتي منذ عام 1986م. وقد حصلت عليه من الفتى سهيل أبو ظاهر في ذلك الوقت وكان قد عثر عليه بين اطلال بيت جدي محمد القاسم بن زهران، رحمه الله، في قرية فلاميه.

وفي عام 1918م بعد احتلال القوات البريطانية لفلسطين، قامت فرقة الفرسان البريطانية بتبليغ القرى النائية بهزيمة الدولة العثمانية، منها قرية فلامية، وقبل وصول الفرسان إلى القرية، قام أهالي القرية بإبلاغ المختارة (الحديدية كما كانت تسمى في ذلك الوقت من قبل القرى المجاورة) عن مشاهدة غبار لفرسان قادمين من الغرب إلى قرية فلامية.

ارتدت جدتي العمامة البيضاء وطلبت من (بشير) تجهيز الحصان الأبيض لمقابلة الفرسان في ساحة القرية ومن حولها أهالي القرية، بمن فيهم الراوي نمر العيسى، ينتظرون وصول فرقة الفرسان وبعد وصولهم التفوا حول المختارة على شكل حذوة الحصان وبدأ قائد الفرسان البريطاني يقرأ بياناً باللغة العربية أمام المختارة الحديدية عن هزيمة الجيش التركي أمام القوات البريطانية في فلسطين، وطلب من المختارة التوقيع على وثيقة استسلام القرية أو الموت!رفضت مختارة فلامية التوقيع على الوثيقة وقالت: لا أوافق على تبديل دولة كافرة بدولة مسلمه، ثم أنشدت قول الصحابي خَبّاب بن الأرت:

[ وَلَســتُ أُبـالـي حـيـنَ أُقتَـلُ مُـسـلِمــاً

     عــلـى أيِّ جَـنـب ٍ كــانَ فـي اللّهِ مَـصــرَعــي ]

فأشار قائد الفرقة بأصبعه إلى أحد الفرسان، وهو من السيخ، لإطلاق النار عليها فوراً. فسحبت المختارة بندقيتها من جرابها حتى تقاوم الغزاة، ولكن الجندي الهندي البريطاني كان أسرع منها في إطلاق النار فسقطت عن جوادها على الأرض مضرجة بالدماء، وأمام هذا المشهد الدموي بدأ التكبير من أهالي القرية وهاجموا فرقة الفرسان بالحجارة حتى انسحبوا من القرية، وقد حضر أهالي القرى المجاورة مراسم الدفن وصلّوا على الشهيدة امنه المنصور في مسجد القرية، وبعد ذلك دفنت بجانب الشباك الجنوبي من بيتها، حيث كانت تجلس لحل مشاكل القرية والقرى المجاورة، وقد بايع أهالي فلامية ابنها البكر، عمي قاسم، مختاراً على قرية فلامية عام 1918م وبقيّ في منصبه حتى استشهاده في معركة فلامية([8]) والتي جرت ليلة29/1/1953م.

وقد روى لي هذه القصة المسجله عام 1986م العم نمر العيسى الذي ولد في نهاية القرن التاسع عشر ميلادي وما يزال على قيد الحياة في قرية فلامية.

وبعد جولتي في القرية قمتُ بجولة في داخل بيت جدّي محمد في فلامية أبحث عن آثارهم فوجدته خراباً ينعق فيه الغراب بفعل مرور الزمن عليه وبدأت استنشق آثار جَدّي وجَدّتي، وعمّي ووالدي الذين ترعرعوا في هذا البيت العامر في بداية القرن العشرين فلم أجد أمامي إلا ذكراهم هنا وهناك.

ثم جلست أمام مدخل الطابون الواقع في الجهة الغربية للبيت أتذكر الماضي الجميل لعائلتي وكذلك خبز الطابون الذي كانت تصنعه الزوجة الثانية لعمي قاسم، الفاضلة/ عائشة الحمد وهي من قرية كفر جمّال.

وسألت نفسي: أين جَدّي محمد الذي كان هنا من عام 1898م حتى رحيله عن هذه الدنيا الفانية وجَدّتي آمنة التي أنجبت عمّي قاسم ووالدي توفيق اللّذين ترعرعا في هذا البيت ؟

لم أجد جواباً على سؤالي من أحدٍ إلا قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:



] أمـوالُـنــا لِــذوي الـمـيـــراثِ نَـجـمَعُــهــا

وَبُـيـوتُـنــا لِـخَــرابِ الـدَّهـــرِ نَـبـنِـيـهـــا [


هذا ما رأيته أمامي في بيت جَدّي محمد في زيارتي لقرية فلامية عام 1986م ]الميراث والخراب[ ومع الأسف جاءَ أحد العاقين من الورثة في غيابي وأزال تراث جَدّي من الوجود بدلاً من ترميمه للأجيال القادمة من الورثة!



معروف زهران  رئيـس بلديــة قلقيليــة

1995– 2005

أمام النصُب التذكاري

اليوم الرابع :قمت بزيارة للنّصب التذكاري في هضبة صوفين، المشرفة على قلقيلية، والذي شُيِّد في عهد السيد معروف زهران، رئيس بلدية قلقيلية عام 1998م، تخليداً لذكرى الشهداء من أهالي قلقيلية والجيش العراقي الذين سقطوا في ساحات المعارك ضد الصهيونية عام 1948م، ولأبطال معركة قلقيلية عام 1956م من الجيش العربي الأردني والحرس الوطني ولصقور الثورة الفلسطينية من أهالي قلقيلية الذين استشهدوا في عمليات الداخل والخارج بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1967م ومن ضمنهم أخي نصر، ترجلت من السيارة فوضعت باقة ورد على النصب التذكاري تقديراً للذين ضحوا بأرواحهم النفيسة من اجل عروبة فلسطين، ثم وقفت دقيقة صمت أمام عظمة هؤلاء الشهداء الذين وضعوا حداً لأطماعِ الصهيونية في بلاد العرب، والجدار القائم في أراضي قلقيلية شاهد على حدود إسرائيل التي كانت في الماضي من الفرات إلى النيل، كما تمنيت على المجلس البلدي لو كتب على النصب التذكاري قول القائد العربي أبو فراس الحمداني:

 [ أتَدعُــو كــَريماً مَــن يَــجــودُ بـِمـالِــهِ

وَمــَن جـادَ بالنَّـفــسِ النَّـفـيـســَةِ أكــرَمُ]



بعد ذلك نظرت إلى مرابع طفولتي الحزينة في (معتقل قلقيلية)، من الجهات الثلاث، والتي كانت في الماضي خط الدفاع الأول عن الوطن العربي منذ عام 1948وحتى عام 1967م والمطوقة الآن بالمستعمرات والجدار الأسمنتي، الذي يصل ارتفاعه، حسب المناطق إلى أكثر من ستة أمتار عن سطح الأرض. بالإضافة إلى أبراج المراقبة المجهزة بالكاميرات من جهة الغرب، وفي الشمال والجنوب تم حفر خنادق في أراضي قلقيلية بعمق ثلاثة أمتار وبعرض مترين وبجانب الخنادق من الجهتين أسلاك شائكة وأخرى الكترونية مكهربة، بالإضافة إلى المراقبة  الجوية يومياً والدوريات المحمولة للجيش الإسرائيلي على مدار الساعة، كما هو واضح للزائر!لقد أصبحت قلقيلية كعنق الزجاجة لها مخرج واحد من الشرق وساكنوهاكالسجناء لدى الظالمين لا يستنشقون الهواء إلا على مساحة 4,2 كم مربع داخل الجدار. إنها صورة طبق الأصل عن معتقلات اليهود في ألمانيا النازية! وخاصة عندما تشاهد (معبر الذل) الذي يقع في شمال قلقيلية ويستقبل عشرات الألوف من مناطق الضفة الغربية للعمل في فلسطين المحتلة حيثُ تشاهد طابور العمال هناك كالمواشي يدخلون الممرات الحديدية بانتظام إلى مسالخ العمل في الأرض المحتلة من الساعة الثالثة حتى الساعة السابعة صباحاً ثم يغلق المعبر!، وقد أطلق الشهيد القائد رائد موسى نزال على هذا المعبر اسم (معبر الذل) وقال: لن أكونَ عبداً للمرحلة ولن أقبل، وعلى الملأ بهذا الموقف المذل، لأنني لن أعيش سوى مرةً واحدة وسوف أعيشُها بشرف. وحمل رائد السلاح لمقاومة المحتل فالتحق بقافلة الشهداء بشرف يوم 26/4/2002 في قلقيلية– عليه الرحمة -.

وبعيد صلاة العصر اصطحبني يوسف الحماد بسيارته الخاصة لزيارة أبي زهير البرهم، الراقد في مستشفى الوكالة في قلقيلية، وبعد الاطمئنان على صحته، خرجت أتفقد المستشفى الذي كان في ذاكرتي مكوناً من غرفتين وحديقة جميلة، تفاجأت بتوسعة المستشفى إلى أقسام متعددة، وكان المستشفى في الماضي حديقة تابعة للمدرسة السعدية، وقد تحولت إلى مستشفى خلال حرب عام 1948 من قبل الجيش العراقي، وكان مدير المستشفى في ذلك الوقت الأستاذ محمود عبد الفتاح الحسن، المكنى بأبي ثابت ]كما أعلمني بذلك بنفسه في الكويت[.وخلال تجوالي تذكرت المشهد الدموي لشهداء معركة قلقيلية في ساحة المستشفى يوم 10/10/1956 بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من المعركة مهزوماً بفعل المقاومة.

وقد تم نقل الشهداء إلى المستشفى بواسطة الجيش الأردني وأهالي قلقيلية من الخنادق الأمامية، ]حيث كانت أصابع الشهداء والأيدي على الزناد كما رأيت بأمّ عيني [وقد بقي هذا المشهد الدموي في ذاكرتي منذ ذلك الوقت، وخاصة مشهد الأخوين الشهيدين (أحمد وحسن) من أبناء خال والدتي أمين القواس، وقد رأيت خالي الأمين يجلس بين ولديه، يبكي حزناً ويبتسم فرحاً على نيلهما الشهادة،وكان خالي الأمين قد قدم من أبنائه الأربعة الشهيدين (محمد وعبد الله) في حرب عام 1948 وفي معركة قلقيلية الشهيدين (أحمد وحسن) ويقول المؤرخ اليوناني بيرتو:

]في زمن السلام يَدفِنُ الأَبناءُ آبائَهُمُ، وفي زمَنِ الحَربِ يَدفِن ُالآبَاءُ أبنَائَهُمُ[، وهذا ما حصل مع خالي أمين القواس،وكان الشهيد حسن قد كلف والدتي بالبحث له عن عروس قبيل المعركة، ولكنه اختار الشهادة في الخنادق الأمامية بدلاً من الزواج.

حقاً إنه فتى قلقيلية الأول المدافع عن طفولة أجيالي، وخلال زيارة الشاعر المناضل محمد العمد الى الخنادق الأمامية، سجل المواقف البطولية لأهالي قلقيلية بقوله:

]أرضَ الخُلــودِ ومَــوئِــلَ الأحــرارِ

                                        مــاذا لديــكِ اليــومَ مــن أخبــارِ

                         أغـــدوتِ مــرمــىً للعــدوِ ونــارهِ

وبَنُــوكِ حَــولــكِ أمـنــعُ الأســوارِ

                        قلقـيـليــةُ، لا تَــرهَـبــي نـيـرانَــهُــمُ

                                        المـــوتَ أهـــونُ مــن حــيــاةِ العـــارِ[



إن أبناء خالي أمين القواس ( الأربعة ) قد سطّروا بالدم تاريخ التضحية العربية على أَسوار فلسطين ، إنهم من صقور قلقيلية الأوائل الذين دافعوا عن كرامة العرب في خط الدفاع الأول في ذلك الوقت.

 رحمهم الله جميعاً.


اليوم الخامس: 

قمت بجولة تفقدية لسوق الخضار الجديد، المشيد على رفات([9]) أجداد أهالي قلقيلية الذين أسسوا قلقيلية عام 1813 بعد نزولهم من قرية صوفين، رحمهم الله، وخلال التجوال توقفتُ عند دكان بائع الدخان العربي، وبعد السؤال عن الأسعار قال البائع: من أين أنت يا عم؟ قلت: من قلقيلية.

قال: أنت غريب الوجه واللسان، فأنا ابن السوق لم أرَ هذا الوجه من قبل، قل الحقيقة ولا تخجل من أصولك فكلنا أبناءادم ياعم؟.

قلت للبائع: هل تراني صومالياً جاء يبحثُ عن اللجوء السياسي في قلقيلية كما فعل الفلسطيني في بلاد الاغتراب بعد الاحتلال الإسرائيلي لوطنه حتى تسأل عن أصولي؟! ردد معي قول الشاعر عروة بن الورد:

 [ لا تَـقُــل أَصــلـي وَفَـصـلي أَبَــدا

                                        إِنَمـا أَصــلُ الفَــتــى مــا قَــد حَـصــَل[



فأنا يا فتى ابن قلقيلية وقلقيلية جرحي الدامي في غربتي، ولساني لم يتغير منذ هجرتي! لم يقتنع البائع  المولود في قلقيلية من طبقة أبناء المسرات " المستثمرين" من جوابي فانصرفت أجر هزيمتي مرة أخرى.

وفي السوق لم أعرف أحداً من الباعة ولم يعرفني أحد، فقلت في نفسي: هل المغترب (إن كان صومالياً أو فلسطينياً) يصبحُ مهاجراً في مسقط رأسه بعد غياب نصف قرن عن وطنه في بلاد الاغتراب؟ الواقع يقول نعم، فالغربة لها ثمن غال على النفس البشرية عندما يعود المرء إلى موطنه ولا يجد أحداً من أجياله يلقي عليه السلام، فقد تغير كل شيء في مسقط رأسي حتى الإنسان والحجر.

فالعائد إلى قلقيلية في نظر الأجيال الجديدة كأنه (إِبلاسي أو يحيى المُرّ رحمهما الله) اللذان عاشا في قلقيلية بعد عام 1948م بلا مأوى ولا هويةً.

وأتوقع لمن تبقى من عائلات قلقيلية، خلال هذا القرن أن يتحولوا إلى عبيد عند أصحاب المال والنفوذ  وسوف يذكرهم التاريخ تحت عنوان: عائلات قلقيلية سادت في الماضي ... ثم بادت في عصر العولمة وتبقى الدواوين شاهدة على آثارهم! كما جرى لعائلات القدس في القرن الماضي!. فقد قال المعرّي يوماً:                       

                                      [ كُــن مَــن تَـشـاءُ، مُـهـَجَـنــاً أو خـالِـصــاً

                                                فــإذا رُزِقـــتَ غِـنــىً فـأنــتَ السّــيِــدُ[



ثم.. توقفت مبهوراً أمام مطاعم الوجبات السريعة المنتشرة في أسواق قلقيلية خاصة عندما شاهدت فتيانها يتناولون الوجبات السريعة والتليفون المحمول بين أيديهم بلا اكتراثٍ بأحد! وبدأت أقارن بين جيلي الذي كان لا يملك ثمن سندويشة الفلافل في ذلك الزمن المهزوم وبين هؤلاء الفتيان المتوفر لهم كل شيء فوجدت الفرق بين الماضي والحاضر شاسعاً!

وبعد خروجي من السوق قمت بزيارة سريعة للمناضل عثمان محمد داوود رئيس بلدية قلقيلية وهو الذي قضى زهرة شبابه في النضال والسجون الإسرائيلية في القرن الماضي وذلك في مكتبه. ويعتبر أبو داوود امتداداً لديمومة الثورة بعد غياب الرعيل الأول من فدائيي أهالي قلقيلية، رحمهم الله، ويستحق هذا المناضل الذي هو الآن العين الساهرة على قلقيلية، الدعم والمبايعة منا ومن أسر الشهداء والمعتقلين لمواقفه البطولية وليكون ممثلنا للإعتذار للمناضل وجيه القواس الرئيس السابق للبلدية على ما اقترفه أحد الموظفين من ذنب بحقه أثناء مراجعته لأحد أقسام البلدية. وبعد انتهاء زيارتي خرجت من مكتب ابي داوود مودعا.

وفي الطريق التقيتُ محمد المحمود زهران، المُكنّى بأبي محمود، وسألته: هل قال فيكَ الأستاذ منيف البرهم شعراً في المدرسة عام 1958م، كما أعلمني بذلك الباحث تميم نوفل المكنى بأبي فادي؟

قال: نعم. قلت: ما سبب ذلك؟ قال: أعطاني الأستاذ منيف عدة أسئلة لحلها في الصف، ثم خاطبني بلهجة التهديد والوعيد، وهو صديق مخلص لوالدي، قائلاً:





]أمُـحَمَّــدُ المَـحــمــودُ يا بــنَ الأشــوَحِ

                                        حُــلَّ المَــسائــلَ عــاجِــلاً أو تُـذبَــح[



قلت: هل مازلت تحلُّ المسائِل؟ قال: نعم، ثم مضى إلى عمله وهو يبتسم قائلاً، هذه من طرائف الأستاذ منيف مع الطلبة! رحمه الله. وبعد ذلك جال في خاطري الشاعر الراحل منيف البرهم صاحب ديوان "أزهار وعناقيد" والذي حصلت عليه من مكتبة أحد علماء الأنساب في الضفتين الأستاذ وليد عورتاني في عمان.



وبدأت أقرأه بعقلي، من مقدمة الدكتور كامل الولويل، المبدع في مقالاته "شيء من اللغة"، إلى أن وصلت إلى قصيدة قلقيلية التي توقفت عندها، وكأني وجدت جوهرتي المفقودة التي كنت أبحث عنها منذ عودتي من المهجر الكندي، وبدأتُ أترنم بكلماتها الشجية، حتى استجابت نفسي للبكاء، فبكيت، مع إنسانية الشاعر منيف، إذ عبر فيها عما يدور في خاطري بقوله:



تَــركـتُــكِ .. لِّــمَّــتـي ([10]) سَــوداءُ كالليــلِ

وعـــودي يانِــعٌ نــاضِــر

رَكِـبـتُ زَوابــعَ الهَــولِ

علــى ألَــمِ النَّـــوى صَــابِــر

وقِـنـديــلــي مَـلــيءٌ زَيـتَ زَيـتـونِ

أضَـأتُ بِــهِ دَيـاجـيـراً إلـى حـيــنِ

وَلَــمّــا ابـيـضَّ مــا اســـودَّا

وَجَـــفَّ العـــودُ واربَـــدَّا([11])

واضـحـى زَيـتِـيَّ القُـدسِــيُّ بَـعــدَ نَـفـــادِهِ رَدَّا ([12])

رَجَعـتُ إليـكِ مُلتــاعــاً وَذلُّ الأســرِ يُشجينــي

دَخَلتُــكِ راعشــاً خَجِــلاً لِمــا تَلقيــنَ مِــن هَــونِ

فَحَيَتنـــي نُسَيــمــاتٌ بــهــا أرَجُ الرَيـاحـيـــنِ

وَجُـبـتُ شَــوارِعَـــاً ضَـجَّــت بـأخــلاطٍ ([13]) مـجــانيـِــنِ

وجـــوهٌ صِــرتُ أُنــكـِرُهــا

وَأَزيــــاءٌ أُحَــقِّــــرُها

فَصِـــرتُ بـِهــا غَـرَيـــبَ الوَجــهِ والــدّيــنِ

وَصَــارَت قَرَيـتـي المُـعـطــاءُ فــي سِــرٍّ تُـنــاجـيـنــي

تُــحَـدِثُـنــي شَــوارِعُــها مَــآذِنُـهــا تُـنـاديـنــي

تُـوَســـوِسُ لــي غُــصــونُ اللّــوزِ و التـيــنِ([14])

وتـبـكــي .. فُــرقَــةَ الأَحـبــابِ جُــدرانُ الــدَّواويــنِ



ويعتبر شاعرُ الغُربةِ الأستاذ منيف إبراهيم البرهم، وهو من الجيل الثاني الذي هاجر من قلقيلية الى الخليج العربي في بداية ستينات القرن الماضي، من الأجيال التي خسرتها قلقيلية.

فقد ابدع في وصف معاناة المغترب في قصيدته " قلقيلية " وتعتبر هذه القصيدة من روائع الأدب العربي، التي تشفي غليل المغترب من أوجاعه المزمنة!والحقيقة يجب أن تقال: بعد مطالعتي للأدب العربي في المهجر الكندي، لم أجد له مثيلا بين شعراء المهجر، إلا الشاعر القروي([15])الذي اخذته الحيرة قبيل السفر الى المهجر البرازيلي حيث خاطب نفسه بقوله:

                           [ نَـصَــحــتُــكِ يــا نَـفـسُ لا تَــطــمَــعي

وَقُــلتُ: حَــذارِ فَــلــَم تَــســمَعـــي ]

إلى أن قال:

                      [سَــأَقــضــي بِــنَــفــسـي حُــقــوقَ العٌــلــى

وارجَــعُ، فــانــتــظِــري  مَــرجَــعــي ]

ولم يرجع القروي إلى مسقط رأسه، إلا بعد نفاد زيته من القنديل وأصبح ردّاً! حسب تعبير شاعر الغُربةِ رحمهما الله.


اليوم السادس: قمت بزيارة إلى مدرسة السّرايا الابتدائية التي تأسست عام 1941م في قلقيلية والتي أصبحت تحمل اسم مدرسة المرابطين في الستينات من القرن الماضي، وبعد إلقاء نظرة على صفوف المدرسة من الخارج والتغيرات التي طرأت عليها، وقفت في ساحة المدرسة أتذكر طفولتي المقموعة من قبل الإدارة السَّيئة في المدرسة من المدير إلى مساعديه من عرفاء الصفوف إلى المعلمين الذين كانوا يحملون العصي في أيديهم لجلد الطلبة في الصفوف إذا لم يحفظوا دروسهم!، ففي طابور الصباح كان الطالب يُجلد إذا لم يحمل منديلاً أو لم يقلم أظافره، فتباً لهذه الإدارة التي كانت في زمني متخلفة تربوياً، والتي لم تستوعب ظروف الطالب الذي كان يأتي إلى المدرسة حافيَ القدمين، رث الثياب، بالإضافة إلى معدته الخاوية من الطعام، بسبب الظروف الاقتصادية في ذلك الزمن!

طفولة محمد توفيق زهران وهو يرتدي معطفاً واسعاً عليه من صاحب أستوديو تفاحة في نابلس عام 1955

نتج عن هذا التخلف التربوي، هروب الكثير من الطلبة من المدرسة منهم كاتب هذه السطور، حتى فصلت من الصف الرابع الابتدائي في منتصف الخمسينات من القرن الماضي لكثرة غيابي وقلة المال، وبقيت ناقماً على إدارة المدرسة حتى التقيت مع أحدهم في الكويت، والذي لا يستحق أن أذكر اسمه في يومياتي، وقد اعترف أمامي بجهله التربوي، قلت له: الذي منحك رخصة التعليم في ذلك الزمن، قد ظلمني! ولكن، لماذا لم تتعلم أسلوب التدريس من أساتذتي: جواد السعيد، صادق الموافي، فاروق السبع، فهمي العبد الكريم، عبد الرحيم عبد الرحمن، يحيى هلال، سمير العورتاني الذين كانوا يعاملون الطلبة بالعقل، وأنت ومديرك تعاملوننا بالقساوة السادية كأننا أعداؤكم؟ قال: لأننا نشأنا على ذلك! وذكرته بقول المعرّي:      

[ ويـنـشــأُ نـاشِــئُ الفِـتـيــانِ مِـنَّـــا

عــلــى مــا كــان عـــوَّدَهُ أبـــوهُ![



ثم.. انتبهت إلى مدرس الرياضة في الساحة يرحب بزيارتي إلى المدرسة، وبعد التعارف قلتُ: أرغب بالتعرف على آثار الحكم التركي في قلقيلية الذين حكمونا أربعة قرون من التخلف باسم الدين! رحب بذلك واصطحبني من الساحة إلى داخل ]مركز الدرك التركي[ وقبيل دخولي نظرتُ إلى شعار الدولة العثمانية بتمعن والموضوع فوق المدخل الرئيسي والمنحوت بدقةٍ متناهيةٍ وتحت الشعار تبين لي بوضوح تاريخ إنشاء ]المنزل[ كما يسمى في قلقيلية عام 1330 هـ [1915] م.

تعرفتُ في الداخل على الأستاذ باسم الحسن مدير المدرسة والأستاذ/ أمين صَوان سكرتير المدرسة وعلى بعض الإداريين هناك، وبعد التعارف بدأت أتجول في باحة المنزل أتذكرُ طفولتي المقموعة من الإدارة المدرسية المتخلفة في ذلك الوقت. فالمنزل مكون من طابقين: الطابق الأول فيه أربع غرف ومدخل درج والشكل الداخلي مبني على نظام العقود وفي أعلى السقف حلقة من الحديد لشنق الثوار العرب الثائرين على قانون التتريك في ذلك الزمن.

والغرفة التي تقع على يمين المدخل كانت لمدير إدارة الدرك ]الشرطة[ والغرفة الثانية لتعليق البنادق على الجدران وهي مازالت قائمة وبحالة جيدة، وفي صدر المنزل خزانة حديدية لحفظ الأسلحة. وفي المقابل باب السجن الحديدي مطلي بالأسود والذي مازال قائماً، وبئر ماء بعمق 5–7م بعدما نضب الماء منه والذي تحول إلى سجن، كان الثائر العربي على الحكم التركي ينزل إلى قاع البئر مقيداً بالسلاسل الحديدية بواسطة سلم ثمَّ يغلق عليه البئر بشبك من الحديد له فتحة لتقديم الطعام للسجين منها، حسب رواية الباحث/ تميم نوفل.

]وقد ردم البئر في الخمسينات من القرن الماضي وتحولت الغرفة التي بها ذلك البئر إلى مطبخ لصناعة القهوة والشاي[.

أما الغرفة الواسعة فكانت لرسم الخطط العسكرية لمطاردة الثوار في منطقة قلقيلية منهم الثائر على قانون التتريك عبدالحميد ]مصطفى[ زهران الذي حكم عليه بالإعدام عام 1916م غيابياً، كما جاء ذكره في يومياتي.

أما الطابق الثاني فَمُكوّن من أربع غرف نوم للدرك التركي. وبعد خروجي مع الأستاذ/ فيصل حسن عبدالله الأقرع ]السّفيري[ مدرس الرياضة اتجهنا إلى المقر الرسمي للسَّرايا التابعة للحكومة العثمانية في قلقيلية والتي تبعد أمتاراً عن المنزل والتي تأسست عام 1331]ه1916 -م [ وهذا التاريخ منحوتاً تحت شعار الدولة العثمانية فوق مدخل السَّرايا، ]وكلمة السَّرايا: تعني قصر الحكومة العثمانية[ وهي مكونة من أربع غرف وصالة واسعة بين الغرف لإدارة الحاكم التركي لمنطقة قلقيلية ]وهي تابعة إدارياً إلى ولاية بيروت[ والذي كان يأمر بجلب فتيان قلقيلية والقرى المجاورة في ذلك الزمن إلى السَّرايا ومن ثمَّ يتم ترحليهم إلى معسكرات التدريب في بعلبك لبنان وبعد التدريب يزجّونهم في حروب البلقان.

كما أعلمني بذلك سكرتير المجلس البلدي العم/ محمد أمين عنايه عام 1986م والمولود في قلقيلية عام 1890م. وقد وصف المفكر السوري أمين الريحاني حالة سكان بلاد الشام في ذلك الوقت بقوله:

]يدفعون الخراج ويأكلون الكرباج ويعاملون معاملة النعاج ثمَّ يساقون إلى الجهاد[. وهذا ما حصل مع الأخوين علي وأحمد حسن قبعة اللذين خرجا إلى حرب البلقان. الأول كان متأهلاً من سيدة قلقيلية الأولى/ صفية الحسنين التي كانت تعمل ] قابلة [ في قلقيلية وأنجبت منه طفلتين/ مسعودة وخديجة. والثاني: أعزب جُلِبَ من حقلهِ كما أعلمني بذلك عن قصتيهما الإنسانية صديق الطفولة/ علي اليوسف القبعة في عمّان.

وكذلك عن التحاق عمّيه بالجيش التركي في نهاية القرن التاسع عشر بقوة قانون التجنيد الإجباري في بلاد الشام وتم زَجُهما في ] حرب البَلقان [ كما سمعها من والديه ولم يعودا إلى قلقيلية أبدا ومثلهم كثر من أبناء منطقة قلقيلية – عليهم الرحمة -.



هذا وقد وصف الشاعر والناقد الأدبي/ نسيب عريضة فيما بعد حرب البلقان في قصيدته المشهورة بين الجالية السورية في نيويورك في ذلك الوقت قائلاً:

] فـــإذا بِـــصِـــبـــيـــانِ الـجَــرائــــدِ صُـــرَّخٌ

خَــبَـــرٌ أتــــى... الـحَـــربُ فــــي الـبَــلــقـــانِ

الانــجــلــيـــزُ تُــــريـــدُ سُـــورِيّــا لَــها

وكَـــذا فَــرنــســا أَعــلَــنَـــت فـــي الــطــانِ([16])

وَشُــعـــوبُ سُـــورِيّـــا سُـــكـــوتٌ كُــلُــهُـــم

بِـــهِــــمُ الــهَـــوانُ يُــجـــيـــبُ بالإذعـــانِ

أَتُـــهِـــمُّـــهُـــم حُـــرِيـــةٌ لَـــم يُـــدرِكـــوا

مَـــعـــنــىً لَــهــا، مِــــن أَقـــــدَمِ الأزمـــانِ؟ [



]وهذا ما هو حاصل لهم الآن! بعد مرور أكثر من مائة عام على قول المفكر السوري/ نسيب عريضة أحد فرسان الرابطة القلمية في المهجر – عليه الرحمة –[.



وفي عام 1902م تزوج العم/ أحمد أبو علبة المُكنّى بأبي فارس من أرملة الشهيد/ علي القبعة الأول وهي السيدة/ صفية الحسنين.

وفي عام1903م أنجبت منه ولداً سمّاهُ محموداً. ومن أعقابه من الزوجة الأولى السيدة/ مريم الصالح من الذكور، محمد: من مواليد عام 1934م. وخالد: من مواليد عام 1936م. ومن الزوجة الثانية السيدة/ حكمت النوفل، وليد: من مواليد عام 1945م.

وفي عام 1953م توفي/ محمود أحمد أبو علبة خلال خدمته في الديوان الملكي الأردني العامر/ قسم التشريفات كما يبدو في الصورة التي زودني بها مشكوراً حفيده/ محمود خالد أبو علبة وكذلك عن تاريخ ميلاده ووفاته حسب وثيقة حصر الإرث في قلقيلية.

محمود أحمد أبو علبة 1903 - 1953

كنت أشاهده في طفولتي وهو يرتدي اللباس الرسمي عندما كان يعود إلى بيته من عمَّان في الإجازات لزيارة ذويه في حي آل زهران في قلقيلية – عليه الرحمة -. وفي عام 1966م توفيت الحاجة/ صفية عن عمرٍ يناهز الثمانين عاماً في قلقيلية وكانت المرحومة ] أُم محمود [ قد اشتهرت بتوليد نساء قلقيلية والقرى المجاورة في النصف الأول من القرن العشرين ومنهم كاتب هذه السطور عن حياتها وحياة أنجالها وأختم بحثي المحدد عن جارة الهنا وصديقة والدتي الحاجة/ صفية الحسنين –عليهما الرحمة– بقول الشاعر/ حسان بن ثابت:



] وَلَــو كَــانَــت الــدُّنــيــا تَــدومُ بِــأَهــلِــهــا

لَــكَـــانَ رَسُـــولُ اللهِ فــيــهــا مُــخَـــلَّـــدا [

وفي عام 1918م استولى الجيش البريطاني على السَّرايا بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى وبقي البريطانيون فيها حتى بناء المركز الرسمي للجيش البريطاني الذي يقع شمال قلقيلية عام 1936م كما أعلمني بذلك حسين الحوراني المُكنّى بأبي علي في عمّان.

وفي عام 1941م سلمت بريطانيا السرايا إلى المجلس البلدي في قلقيلية. وفي عام 41- 1942م حول المجلس البلدي السَّرايا إلى مدرسة وسميت ]بمدرسة السَّرايا[والتي كنت أحد طلابها المقموعين فكرياً من سوء إدارة المدرسة المتخلفة في ذلك الوقت. وبعد الزيارة طلبتُ الإذن من الأستاذ/ فيصل السّفيري بالانصراف. وفي تلك اللحظة تذكرت قصة التعريفة التي كانت سبباً في غيابي وطردي من المدرسة من قساوة وسادية المدير في ذلك الوقت! انظر إلى مقالي ضاعت التعريفة على نفس الموقع.

بعد ذلك توجهت إلى وادي الصراصير، لكي أتذكر شجيرات الصَبار وأزيز الصراصير والبيوت القديمة التي كانت في خيالي، لم أجد على ضفتيه بيتاً عربياً قديماً واحداً، ولا شجيرات الصُّبار! وجدت بدلاً من ذلك بنايات، وسطح الوادي مسقوفاً بالإسمنت ومحلات تجارية حديثة لم أرَ مثلها في أسواق كندافيها فساتين ثمينة للإيجار، فالفستان الواحد لسهرة واحدة كما علمت من صاحبة المعرض، أجرته 300 دينار أردني وكذلك صالونات التجميل للسيدات ومعارض لعيد الحب والمنتشرة على ضفتي الوادي! وأتوقع في الزيارة القادمة وجود ملاهي ومراقص ليلية في وادي الصراصير! فلا تغضب يا ابن قلقيلية في بلاد الاغتراب من الحقيقة المرة التي شاهدتها بعيني! وبعد التجوال ... خرجت غاضباً من المجلس البلدي الذي منح التراخيص لمثل هذه المحلات المخزية، وبعد ذلك وقفت على جسر الصراصير، وعدت بذاكراتي إلى الماضي الجميل فشعرت بغصة في صدري، وأنا أتذكر الذين كانوا هنا من سكان الوادي في الخمسينات من القرن الماضي، يلتقون أفراداً وجماعات ويجلسون على حافة الجسر ثم يتبارزون بالألقاب الغريبة على بعضهم البعض، ولكنها كانت محببة لدى أهالي قلقيلية في ذلك الزمن الجميل، وما زالت هذه الألقاب عالقة في أذهان من تبقى من الجيل الثالث الذي عاصر تلك المرحلة.

مثل لقب: أبو خالع الرصفة، أبو مزعزع الجبال، أبو عبس، أبو عرّام، أبو رعد، أبو رب، أبو سما، أبو غضب، أبو ظلام، وهؤلاء كانوا ملوك الدبكة الشعبية في قلقيلية بلا منازع رحمهم الله. فبلعت غصتي ندماً على فترة غيابي التي طالت عن قلقيلية بلا ثمن يذكر! وقلت في نفسي: لو بقي جيلي في قلقيلية لحافظ على التراث الشعبي الذي اندثر اليوم في ظل التكنولوجيا الحديثة، ولكن كل شيء كان مخططاً له في غياب الوعي السياسي عند الأجيال التي هاجرت إلى الخليج العربي! وحضرني قول امرئِ القيسِ الذي قام بزيارة حبيبته ولم يجدها في المكان المحدد بعد ما رحلت عنه مع قومها إلى مكان مجهول لديه، فوصفها في معلقته المشهورة بين العرب وصفاً جميلاً حيث قال:        

[ قِفـا نَبــكِ مِــن ذِكــرى حَـبـيـبٍ وَمَــنــزِلِ

بِــسِــقــطِ اللُّـــوى بَـيــنَ الــدّخُــولِ فَــحَــومَــل ]



فهل يحق لي أن أقارن ما بين المكانين مع فارق الزمن ؟

اليوم السابع: لفت نظري في شارع عبد الرحيم السبع، رحمه الله، يافطة كتب عليها اسم المحامي جمال ابتلي، فتذكرت جده الشيخ سليم أبتلي الذي كان قاضياً في ثورة عام 1936م، كما حدثني عنه والدي، رحمهما الله. ذهبت إلى مكتبه في الطابق الثاني، للتعرف عليه، وطلبت من السكرتيرة مقابلة المحامي جمال فقالت: انتظر قليلاً حتى ينهي اجتماعه مع أحد الزبائن.

قلت: سأقوم بجولة وأعود.

وخلال جولتي تعرفت على شاب يقف أمام مكتبه في إحدى البنايات الحديثة وسألته: من أين أنت يا فتى؟

قال: من آل زهران.

قلت: من جدك؟

قال: أبو مثقال، رحمه الله،.

قلت: هذا ابن عمي، وألتقي معه بالجد الأول.

فرحب بي الفتى وأدخلني إلى مكتبه، وبعد لحظات دخل الموظفون وقال لهم معرّفا عليَّ، هذا قريب جدي!

قلت في نفسي: هذه ثقافة الجيل المهجّن فكريا في قلقيلية، كما قالت عنه الحاجّة عزية.

ثم اتصلت السكرتيرة تلفونيا وقالت: المحامي جمال في انتظارك.

قلت: أنا قادم يا سيدتي .

وبعد التعارف تساءلت؟ ماذا جرى للأجيال التي ولدت في قلقيلية بعد هجرة الجيل الثاني والثالث من أبناء قلقيلية يا جمال؟ قال: رداً على سؤالك أكتفي بقول المعرّي في رسالة الغفران:

[ تَـغَـيَّــرت الـبِــلادُ وَمَــن عَـلـَيـهـــا

فَـوَجــهُ الأَرضِ مُغـبَــرٌّ قَـبـِيــحُ ]



وهذا القول ينطبق على قرى ومدن السلطة الفلسطينية بعد غياب الحكماء عنها، وأردف قائلاً: من كثرة القضايا في المحاكم على شبر ٍمن الأرض بين الأخوة، وقرفي من اللعبة السياسية، علقت لوحة حنظله للفنان ناجي العلي في مكتبي كما ترى يقول فيها: عليَّ الطَلاّق .. ماني فاهم إشي!

قلت: أتحمل جزءاً من المسؤولية كمغترب. قال: من الذي يعترف بذلك؟ قلت: أبدأ بنفسي.

[قـلـقـيـلـيـة لا تَـبـكِ عـلـى غِـيـابــي

 قُـولـي: عَــن أبـي تـوفـيــقٍ إنَــهُ الجَـانــي!!]

وبعد خروجي من مكتب المحامي التقيت مع الناشط الاجتماعي الحاج/ إبراهيم عبد الله عبد الرحمن داوود المكنى بأبي محمد الذي طلبتُ منه أن يصطحبني مع حسن حمّاد لزيارة الشيخ عوض الشلاويت للاطمئنان على صحته فلّبى طلبي مشكوراً.

الحاج إبراهيم يحاور الشيخ عوض حول كيفية نقل الأخبار في الخمسينات إلى رواد الدواوين في قلقيلية وأبي مروان يستمع.

وهو أحد معالم أهالي قلقيلية في الخمسينات من القرن الماضي وقد ولد في قرية/ الشيخ مؤنس عام 1935م، وهاجر إلى قلقيلية مع والده قبيل نكبة عام 1948م وكان والده إماماً وخطيباً في جامع قريته قبل هجرته إلى قلقيلية وقد وجدت الشيخ عوض كما هو بالخمسينات جالساً هذه المرة أمام بيته على كرسي يستمع إلى راديو مونت كارلو الفرنسية بدلاً من الإذاعة البريطانية التي خيبت أمله خلال ستة عقود في التحليلات السياسية حول القضية الفلسطينية ويبدو أن زمن الهزائم قد هدَّ الشيخ عوض، ولم يستطع أن يتجول على رواد الدواوين كما كان يفعل في شبابه، وينقل لهم آخر الأخبار عن القضية الفلسطينية من إذاعة BBC البريطانية وعندما سألته عن الوضع الفلسطيني في ظل السلطة الفلسطينية قال باختصار:

] إن الشعب الفلسطيني قد صام، ولكنه أفطر على بصلة[ وبعد الزيارة مضيتُ إلى مقهى أبي العُلا،  رحمه الله، وجلست مع حسن الحماد المكنى بأبي مروان، وهو من الجيل الثاني الذي لم يهاجر، ثم جاء محمد علي أبو علبة المكنى بأبي تيسير وهو من الجيل الرابع وجلسنا لنستمع معاً نشرة الأخبار بالصوت و الصورة من تلفزيون المقهى. فتذكرت أصدقاء الصِّبا عبد الله حسن مرجان، وابن خالته/ ثائر عنّاب الذي قتل بحادث مؤسف وهو يقود (الماتور سيكل) واصطدم بسيارة بين قرية حبلة وقلقيلية في بداية عام 1961م –عليه الرحمة-، ومحمد صالح السعيد الملقب بـ(شلاي) وكذلك الاجتماع اليومي لأصحاب الشاحنات حول توزيع نقل الخضار والفاكهة من مزارع قلقيلية إلى أسواق الخضار في نابلس والقدس وعمان، وكان الاجتماع بإدارة محمد عبد الله عبد الحافظ الملقب بـ(زيكان) وأصحاب الشاحنات ويضم كل من: طلعت أسعد جُعيدي، وأخوه محمد الملقب بالعربي، يوسف الحسن، عبد الله الحمدان سعدي عوينات، أبو زهدي الحبشين، محمد الهاشم، علي إدريس، وحسن العفاني، وحسن الباشا، وعلي عودة، أسعد العياش، والضابط/ محمود أبو ذياب، إبراهيم العنتوري، عبد الفتاح عوينات، ويوسف القاسم الحسن، وشريف أحمد بركات، وغيرهم عليهم الرحمة.

وكان هناك مجموعة من الشباب المثقف تحتسي القهوة والشاي .

فقلت لكل واحد منهم: من جدك يا فتى؟

قال الجميع: نحن من أصول قروية نعمل و نسكن في محافظة  قلقيلية التي تضم 34 قرية حسب التقسيمات الإدارية للسلطة الفلسطينية عام 1995م.([17])

قلت: لقد ذكرتموني بهجرتي الأولى .

فقال أحدهم: هل أنت من الرعيل الثالث الذي هاجر من قلقيلية إلى الخليج في الستينات من القرن الماضي؟ قلت: نعم.

قال: هل قرأت كتاب جواهر الأدب الذي يقول مؤلفه السيد أحمد الهاشمي:

] يـبـقــى الـثَـنــاءُ، وَتَـنـفَـــذ ُ الأمَـــوالُ

ولِـكُــلِ دَهـــر ٍ دَولَــة ٌ وَرِجــــالُ[



قلت: نعم يا فتى .. قال: زمانكم قد ولّى ويجب أن تعترفوا بذلك!

قلت من أين لك هذه المعلومات؟

قال: من كتاب الأستاذ محمد عبده القلقيلي الذي كتب عن تاريخ البعض من عائلات أهالي قلقيلية المهاجرة والمقيمة  في القرن الماضي، وبحثه مشكور، ولكن كانت تنقصه المعرفة بالتفاصيل من الأجيال التي هاجرت للعمل في الخليج.

قلت: صدقت بما تقول، فالإنسان يا بني إذا نوى الهجرة من القرية إلى المدينة يبقى غريباً في وطنه

يُقطف كزهرة النرجس وبعد استنشاقها من قبل الذئاب البشرية، ترمى في سلة المهملات كما حصل مع أبناء جيلي في الخليج العربي! قال: أعلم ذلك. قلت: إذن عودوا إلى زراعة التين والزيتون في قراكم، فهذا أفضل من عملكم في  قلقيلية التي أصبحت لا تطاق بعد غياب الحكماء عنها. قالوا: المثل العربي يقول: مُطرَح ما تُرزَق .. إِلزق! قلت لهم: هذا المثل الذي قضى على طموحات الشباب وكذلك على كرامة المقيمين العرب والعجم على حدٍ سواء في الخليج العربي! وقبيل انصرافي أحب أن أذكركم بقول أبي العلاء المعرّي:



] فِـــرَّ مــن هـــذهِ الـبَـرِيَّـــةِ فـــي الأرضِ

فَـمــا غَـيـــرُ شَــرِّهـــا لَـــكَ حــاصِـــل

  واطـلُــبِ الـــرِّزقَ بـالـمُـــرورِ مِــــنَ

الـشَّــجـــراءِ لا مِــن أَسِـنَّـــةٍ وَمـنــاصِـــل [



وفي طريقي إلى بيتي تفاجأت بوجود الحاج شحادة أبو دية، وهو من الجيل الثاني الذي بقيّ في قلقيلية، وجدته جالساً أمام بقالته وهي الوحيدة الباقية من بين أطلال السوق القديم الذي كان عامراً قبيل هجرتي المشؤومة، ذلك السوق الكائن في ساحة المسجد القديم- مسجد عمر بن الخطاب-الذي تأسس عام 1842م، على غرار مسجد عمر في القدس قبل التوسعة وكان المسجد يحتوي على مدرسة منذ تأسيسه وهي تقع في الجزء الجنوبي الغربي منه، وسميت المدرسة بالعمرية، وفي عام 1890عُيِّن (الخوجا) الشيخ محمد ناصر العورتاني من قرية عورتا الفلسطينية مدرساً في تلك المدرسة، [وكلمة الخوجا بالتركي تعني المعلم]، وتم ذلك بناء على طلب قدمه حكماء قلقيلية للسرايا في بيروت، حيث كانت قلقيلية تابعة لولاية بيروت حسب تقسيمات الدولة العثمانية في ذلك الوقت.

وقد زودني في الكويت ]ضامن[عبد الكريم البرهم([18]) أبو زهير نسخة من شهادة ميلاد والده محمد بن عبد الحفيظ البرهم المولود في قلقيلية عام 1314هجري والصادرة من ولاية بيروت بتاريخ 1327 هجري بعد مرور ثلاثة عشر عاما من ميلاد والده (الوحيد) الذي لم يرسل إلى معسكرات التدريب في بعلبك للانضمام إلى الجيش التركي/ هذا وبعد أن استقر الخوجا في قلقيلية تزوج من بنت عبدالله الحسن من آل شريم الكرام.

ومن أحفاد الخوجا وليد عبد الفتاح العورتاني أبو خالد أحد مراجع الأنساب لأهالي قلقيلية في عمان–الأردن.

 وبعد التعارف قال أبو ديّة:

]                          لَـقَــد طَـالــت غُـرّبـتُـكُــم عَــن قـلقـيـلـيــةَ

وقـلقـيـلـيــة قَـــد تَـأقـلَـمَـــت مَــع الـغُــرَبــــاء![



قلت: أعلمُ ذلك .. وهذا من غباء جيلي الذي هاجر ولم يحدد تاريخ عودته إلى موطنه! فجئت من المهجر الكندي أبحث عن ذكرياتي في سوق قلقيلية القديم الذي تأسس مع إنشاء الجامع ، فلم أجد أمامي إلاّ أطلالاً! فأين أصحاب المحلات والبقالات الذين كانوا هنا من الرعيل الأول قبيل هجرتي المشؤومة إلى الكويت، كنت في صغري أشتري منهم التمر العراقي في السنوات العجاف التي مرت على أهالي قلقيلية في الخمسينات من القرن الماضي وكانت الوجبة الرئيسية لهم بعد أن فقدوا أراضيهم في حرب 1948م، وكنت أشتري [بالتعريفة] حلوى بيض الحمام المصنوع في نابلس وكذلك الألعاب النارية[ الفَلين] في الأعياد. فأين ذهبوا يا ترى؟!

قال شحادة أبو دية: هل تذكر يا أبا توفيق الزهران  قبيل هجرتك المشؤومة خان قلقيلية من الجهة الشرقية من السوق بإدارة أبي فريد صبري، وكذلك البلدية القديمة التي تأسست عام 1907م وتحولت الآن إلى مستوصف لعلاج المرضى في محافظة قلقيلية، وخلف البلدية كانت تقع المطحنة بإدارة عبد اللطيف العذبة، وبئر الماء الذي كان يُغذي الحاووز الواقع على مرتفع خلف المدرسة السعدية عن طريق تشغيل المضخات الألمانية بإدارة سعيد العذبة، وكذلك المخبز الوحيد أمام البلدية في الأربعينات بإدارة أحمد النايف. قلت: نعم... أتذكر ذلك! قال: لقد اندثر كل شيء بعد رحيل الرعيل الأول عن الدّنيا، وأصبحت المحلات والبقالات في السوق أطلالاً كما ترى، وكذلك سوق الخضار الذي كان قائماً على هذه الساحة المبلطة بالحجارة منذ القدم. فهل تذكر بقالات كل من: أبي نمر البلقيس، محمود وأسعد الخاروف، محمود الحوتري، الدبسه، وخالك/ أحمد البركات، وأبي حسين العناية، علي إحجول، حسن الخليل جبارة (السمنودي)، عبد الفتاح جُعيدي، عبد الله الشاكر جبارة، في حي آل زهران – وكذلك بقالتي التي ما زالت تعمل بإدارة ابني بعدما هدني الزمن كما ترى.

وهل تذكر ملاحم كل من: عبد الرحيم أحمد داوود، ناصر الخوجا، أحمد حسين الحسن، الحاج أحمد الحيلوز، محمد أحمد هلال الملقب باللحام، وأخيراً ملحمة عبد الرحمن السليمان الملقب بأبي الزغاليل الذين كانوا يذبحون يوم الجمعة من كل أسبوع.

وهل تذكر مصابغ كل من: محمد عبد الرحيم زهران، لطفي الشنيك، يوسف الشنيك، وعاهد صبري عمر نزال خارج السوق القديم.

وهل تذكر المطعم الوحيد الذي كان يصنع الفلافل لأبي محمود اليافاوي الذي هاجر من يافا إلى قلقيلية، وكذلك السيدة رحمه وأمِّها الّلتين كانتا تتسولان بعد خروجهما من إحدى القرى المحتلة إلى قلقيلية عام 1948م وبقيت هذه العادة السيئة تلازمهما حتى وفاتهما – عليهما الرحمة-.

وهل تذكر جارك محمد الخلف]أبا السعيد[ الذي كان يعالج الأيادي والأرجل المفكوكة بالشد والتمليس لأهالي قلقيلية والمناطق المجاورة بلا مقابل بالإضافة إلى عمله في تركيب وتصليح مضخات الآبار الارتوازية في قلقيلية. وهل تذكر مجاهد زهران ]أبا العُلا[ الذي كان يطلي البيوت بمادة الشيد والنيلة الزرقاء الوحيد في قلقيلية؟

وهل تذكر عبد اللطيف العناية ]أبا فيروز [الذي كان يتكلم اللغة العربية الفصحى مع الآخرين والآخرون يسخرون من كلامه الجميل؟.

وهل تذكر حلويات كل من: صادق العناية (الدح)، عبد الكريم ياسين (بابش) حسن القبعة صاحب حلويات القرعية المنقولة عن الهنود الحمر بواسطة المهاجرين السوريين الأوائل لأمريكا الرائعة المذاق؟



وهل تذكر محلات الأقمشة المشهورة في قلقيلية لكل من: فوزي عبد الفتاح قاسم عودة، الحاج علي الحمدان  الشيخ مصطفى صبري، وغيرهم. ومحل إبراهيم الصالح أبي بكر وكيل شركة الكازوز الغازية في قلقيلية بإدارة أبي عبدالله الياسين. وكذلك محل: محمد حسين جبر– الملقب بالبحر لسهولة بيعه للملابس القديمة (البالة) للفقراء، الذي كان ينادي في السوق مال أمريكا! – وقرطاسية عبد الرحيم الداعور.

وهل تذكر محلات تصليح الساعات لكل من: عبد الحفيظ الحمد العودة الملقب بالساعاتي – وكذلك علي محمد الطه النزال الملقب (بغاندي) وكان والده أبو علي الصالح الطه، عالماً بأنساب أهالي قلقيلية بالنظر إلى وجههم، وهذا من علم الفَراسه.

وهل تذكر محل عبد الرحيم الطه الملقب (بالدعدوش) المتخصص في تصليح بوابير الكاز السائدة في منطقة قلقيلية في ذلك الوقت.

وهل تذكر أيضاً صالونات الحلاقة للرجال لكل من: حسن الخضر الذي كان يعالج ويخلع الأسنان مجاناً لزبائنه! ودرويش الخضر (قبل أن ينتقل إلى شارع عبد الرحيم السبع) مصطفى القشوع الملقب (بالفلس)، مجاهد محمد القشوع الذي خدم بالحكومة التركية بوظيفة باشكاتب وتوفاه الله في الكويت عند أبنائه وكان والده الشيخ/محمد القشوع يعالج أهالي قلقيلية من مرض ضغط الدم (بالفَصد)([19]) وكذلك أسعد القاسم الحسن.

وهل تذكر الخياطين وهم: أبو شريف الخياط المشهور في تفصيل البدل الرسمية للمدرسين والطلبة والشباب! أبو تيسير الصبري، سالم الحمدان، محمود الحمدان، كمال عوينات الملقب بأبي المفتول، يوسف البحَري، وأخيراً محمد الشيخ حامد نزال المشهور في تفصيل التراث العربي الفلسطيني في قلقيلية، والذي هاجر إلى الكويت للعمل هناك في بداية الستينات من القرن الماضي وتوفاه الله في عمان عام 1995م]كما علمت من ابنه الدكتور/ رضوان نزال[.

وهل تذكر الفنان: عبد الكريم الحسن أبا الفوز أول مصور في قلقيلية وكذلك صبحي هلال صاحب أستوديو الهلال في السوق القديم.

وهل تذكر أصحاب حسبة الخضار داخل وخارج السوق وأذكر منهم وهم كثر: محمد الحاج حسن، عبد القادر الحيلوز، فائز النوفل، محمود البرهم (البردي)، أمين شاكر البكر، مصطفى أبو عيشه، سعيد التيتان، وحسبة (أبو سفيان والحاج حساين وأبو رياض)، لتصدير منتوجات قلقيلية إلى أسواق نابلس، والقدس، وعمان، وأحياناً ترجع الفواتير للمزارعين وقد كتب عليها (عوض كريم) لكثرة العرض، وقلة الطلب، ولعدم وجود إدارة للتسويق بين التجار! وأخيراً تشكلت في قلقيلية شركة في الخمسينات بين الشركاء الثلاثة وهم عبد الرحيم الحاج حسن، الحاج حساين حمدان الحساين، أحمد داوود عثمان، وذلك لضمان المحاصيل وزراعة الأراضي، وتصدير الخضروات والحمضيات المنتجة في قلقيلية إلى الأسواق الأردنية والسورية بإدارة أبو جميل الملحم. وفي عام 1966م قامت الشركة بشراء أراضي زراعية في مجدل جرش وفي عام 1967م انتقلت الشركة إلى المجدل - جرش.

وهل تذكر كذلك أصحاب البسطات بالمفرَّق في هذه الساحة قبيل هجرتك المشؤومة إلى الكويت وهم: أبو العبد السكافي ويساعده أحياناً ذياب العبد الفضيلي ]الأخرس[، وعبدالرحيم المبسوط، صالح الباشا، إبراهيم أبو صالح، عبد العزيز المصلح، علي الحردان، أبو العفيف فريج، رفيق السعيد أبو الذرة، على الفار، الشيخ حسين عيسى الحساين، عبد الرحيم النوفل، عبد اللطيف أبو زقطة، مصطفى الهرش الملقب بالدقر. وغيرهم.

وهل تعلم من كان يُورد الخضار والفواكه إلى السوق في الأربعينات والخمسينات من المزارع على عربات تجرها الخيول؟ هم الحاج علي أبو علبه، مصطفى العدل، الحاج أحمد أبو سمرة، الحاج محمد الدبسة، والشهيد محمد المحمود زهران (الملقب بالأشوح) نظراً إلى طوله الفارع مع تحريف لكلمة (الأشوق) أي الطويل كما ورد في المُنجِد، والذي جرح في معركة كفر سابا العربية عام 1948م، وكان من ضمن نجدات أهالي قلقيلية التي كانت ترسل للدفاع عن القرى المجاورة ضد هجمات اليهود عليها وقد نقل إلى سوريا للعلاج حيث توفاه الله هناك ودفن في مقبرة الشهداء في دمشق كما أعلمني ]أبو مثقال[ شقيق الشهيد عليهما الرحمة.

قلت: نعم أذكر ذلك بالتفصيل منذ الصغر! وآخر لقائي مع الشهيد عمي محمد وهو خارج من الباب الشرقي لبيت جدي قاسم الحاج. قلت له وهو يحمل صندوق الذخيرة على كتفه الأيمن إلى أين ذاهب يا عمي؟ قال: إلى الجهاد وبعد ذلك لم أرَهُ أبداً. عليه الرحمة.

وبعد أن استمع أبو ديه لروايتي سرح بأفكاره قليلاً كأنه يتذكر قول النابغة الجَعدي وقال: 

[ سَـألَّـتـنــي جَـارَتــي عـــن أُمَّـتـــي

وإذا مــا عَـنِــيَ ذو اللُّــبِ يُـسَّـــل



   سَـألـتـنــي عَــن أُنـــاسِ ذَهَـبـــوا

شَـــرِبَ الـدَّهــــرُ عَـلَـيـهِـــم وَأكَــــل

  وأرانـــي طَـرَبـــاً فــي إثــرِهِــــم

طَــــرَبَ الـوالِــــهِ أو كـالـمُـخـتَـبَــــل ]





ثم أردف قائلاً: لم يبق من بين إطلال السوق سوى دكان أحمد بن محمود الدبسة ودكاني بإدارة ابني كما ترى! وهؤلاء الذين ذكرتهم كانوا من أعلام وتجار قلقيلية في ذلك الوقت استثنِ من هؤلاء كلاً من: محمد عبد الرحيم زهران، لطفي الشنيك، عبد القادر حيلوز، الذين ما زالوا على قيد الحياة في عمّان، مع حبي واحترامي وتقديري لمن لم اذكره في هذا اللقاء التاريخي مع أبي توفيق زهران وذلك لضعف الذاكرة عندي، رحمهم الله.

ثم ذكرته بأول مجموعة من شباب أهالي قلقيلية التي هاجرت إلى البرازيل في بداية الخمسينات من القرن الماضي عن طريق ميناء بيروت.

 قال : اذكر منهم 1 – فائق الجعيدي 2 – أبو مريم العزوني 3 – الملاح الحساين 4 – سعيد اللباط

5 – وجيه أبواتا 6 – علي العدل 7 – جواد البرهم 8 – فهيم عبد الرحمن 9- أحمد محمد حسنين(خاطر) وهؤلاء خرجوا ولم يعودوا إلى قلقيلية, باستثناء جواد برهم وعلي العدل اللذين عادا في نفس السنة من البرازيل وذلك بسبب الحنين إلى الوطن. قلت إذا عاد المهاجرون إلى موطنهم الأول فسوف يجدوا أنفسهم مهاجرين مرة أخرى وينطبق عليهم قول الشاعر المدني:



]                              يَــا بـرازيــلُ لـَو دَعَتّـنـــي بِـــلادي

 يَــومَ لا عُـــذرَ لـي سُــوى أَن أُسـافِــــر

لَســتُ أدري وَقَـــد بَــــذَرتُ شَـبــابـــي

    فِيـــكِ, هَـــل عَـائــدٌ أنــا أَم مُهاجِــــر؟[



وبعد لقائي مع شحادة أبي دية آخرِ الأجيال من زمن المحبة في قلقيلية:



[ مَـضَـيـــتُ إلــى بـيـتـــي أنـعـــي ذِكـريـاتـــي 

لا أنـيـــسٌ فــي الحَــيِّ يُـواسـيـنــي، ولا جـــارُ! ]



وفي المساء جاء إلى بيتي ابن شقيقتي إبراهيم زهران المكنى بأبي نصر وقال لي إنَّ: السيد أبا ربيع العذبة يدعوك إلى سهره في مزرعته في صوفين مع مجموعة من الجيل الرابع من أهالي قلقيلية الذين يرغبون بالتعرف عليك.

بعد وصولي إلى مزرعة أبي الربيع كان الجيل الرابع في استقبالي ولكنني لم اعرف أحدا منهم .. إلا ما ندر!

بدأت السهرة بلعب الورق وبعد أن انهمكوا باللعب خرجت إلى باحة البيت استنشق الهواء الطلق من رائحة الدخان ونظرت حولي فوجدت قلقيلية مطوقة بالمستعمرات بدءاً من (صوفين) المضاءة كاللآلئ فوق الجبال والتي تصل حدودها إلى قرية (فلامية) في الشمال وإلى مستعمرة في الجنوب تصل حدودها إلى ما بعد قرية (حبلة) ومستعمرة أخرى في الشرق تصل حدودها قرية النبي إلياس بالإضافة إلى المستعمرات في أراضي قلقيلية المحتلة في المثلث الذهبي، ومن يشاهد قلقيلية في مثل هذه الليلة الظلماء من هضبة صوفين ينعي قادة العرب منذ عام 1948م وحتى الآن.

وبعد انتهاء السهرة التي زادتني إحباطا من مناظر المستعمرات ودعني أبو ربيع مع الجيل الرابع كما استقبلوني بالحفاوة والتكريم وعند وصولي إلى مدرسة السّرايا (المرابطين) طلبت من أبي نصر أن أقوم بجولة في أسواق قلقيلية لوحدي حتى أعيد ذكرياتي مع رفاق الصبا في خيالي.

وفي الطريق أوقفني أحد عناصر الأمن الوقائي وقال: من أين أنت؟ قلت: بلهجتي المحببة من (كلكيلي)!([20]) فشك في أمري وقال: أهالي قلقيلية لا يتكلموا بهذه اللهجة ثم قام بالاتصال بالقيادة وسمعته يقول: سيدي لقد ألقيت القبض على رجل غريب يتسكع في شوارع قلقيلية ليلا! ويدعي انه من قلقيلية وهو ليس كذلك, وبعد لحظات جاءت سيارة محملة بعناصر الشرطة الفلسطينية وهي مدججه بالسلاح, فكادوا أن يضعوا الحديد في معصمي لولا جواز السفر الكندي في حوزتي دل على تاريخ ميلادي في قلقيلية ولم يقتنعوا بذلك حتى جاءت لهم الأوامر من القيادة بإطلاق سراحي بعد أن عجزت شرطة السلطة التي جاءت تعتقلني عن العثور على معرف من المارة على ابن قلقيلية القديم من الأجيال الجديدة الذين التفوا حولي ينظرون إلى شخصي بتعجب كأني صومالي ]غريب الوجه واليد واللسان[ عن المجتمع الجديد في قلقيلية!



اليوم الثامن: خرجت من بيتي متجهاً إلى كنايات ( دحبور) التي تقع شرق الجدار العنصري الفاصل، بين المنتصر والمهزوم، والذي حجب الرؤية عن أراضي قلقيلية المحتلة  حيث كانت هناك ذكريات طفولتي. وجلست تحت الشجرة وتذكرت قول عبد الكريم الحسن المكنى بأبي الفوز الذي عاد مبكراً إلى موطنه بعد سنوات العمل في الخليج العربي، حيث كتب على جذع شجرة الكينا قوله المشهور بين أبناء قلقيلية:



[ابن قلقيليةَ يلِفُ وَيدورُ، ويرجع إلى كنايات دحبور]



وهذا الحنين إلى الماضي ينطبق على الأجيال التي ولدت في قلقيلية وعاشت فيها فترة الصِّبا، قبل الاحتلال ثم هاجرت للعمل ولم تعد بسبب الاحتلال.

 وخلال زيارتي إلى مسقط رأسي أصبحت مقتنعاً بقول أمير الشعراء الذي تحقق في ثورات الربيع العربي:



[ هكَـــذا الــدَّهــرُ: حَــالـةٌ ثُــمَّ ضِــدٌّ

مــا لِحــالٍ مَـعَ الزَّمــانِ بَــقــاءُ ]





فحالة إسرائيل سوف تزول مع الزمن، كما زال الاتحاد السوفيتي من الوجود! [ فإذا استطاع اليهود، اعتماداً على التوراة أن يخلقوا وضعاً ويفرضوه ، مستفيدين من التقدم الذي حصلوا عليه في الأماكن التي سكنوا فيها، ومن العلاقات التي لهم مع الآخرين ومستغلين ضعف الطرف الآخر في هذا الصراع، فإن هذا الطرف الضعيف الآن، المذهول، الذي يثقل عليه التخلف وقسوة الأنظمة، لن يبقى ضعيفاً إلى الأبد] كما قال عبد الرحمن مُنيف في كتابه (سيرة مدينة).

 وبعد انتهاء زيارتي، طلبت من مكتب تكسي طلعت، سيارة بقيادة هاني حماد المكنى بأبي الوليد لتوصيلي إلى جسر العودة الذي يبعد عن قلقيلية 110كم.

وفي الطريق: شاهدت مروجا من الأزهار تزهو مع الربيع العربي، في الوهاد وفوق الذرى، ولكنها مازالت (تَضِجُّ مِنَ الأَسرِ والمُعَتَقل) كما قال الشاعر العربي الراحل  مصطفى الجعيدي في ديوانه مختارات:

]تـُــرابُ العـروبــةِ فــي ذِمَتـي

       سَـأَفـديــهِ بـالــروحِ طــابَ الأَجــل

     إليــهِ سَـأَمضــي سَـريـعُ الخُـطـى

وليــسَ أَمــامـيَ إلاَّ زُحـــل

أَحِــنُ إلــى زَهــرَةٍ فــي الــرُّبــا

رأيــتُ علــى وَجـنـَـتـَـيـهــا الخَـجــَل

تُــنــادي عــلــيَّ صَبـاحَ مَســاءَ

تَـضـِجُّ مــِنَ الأَســـرِ والمـُعَـتَـقــل

      غــداً تٌشــرِقُ الشَّــمــسُ فَـوقَ المَـدى

وتــرقٌــصُ جَــذلــى طُيــورُ الحَجــَل

                                       سَــنَـــرفَعُ للنَّـــجــمِ رايــاتِــنــا

                        وللخَـــلقِ نَــضــرُبُ أَعــلــى المــَثَـــل[





وهذا الأمل عند شاعر الوحدة أبي كمال لن يتحقق في ظل الخلاف الدائم بين أوتاد الحركتين([21]) !!

بعد خروجي من جسر العودة محبطا ً! صعدت إلى الحافلة وقلت لسائحة مقدسية كانت تزور القدس عن طريق المكاتب السياحية تبحث عن ذكرياتها مثلي: يجب أن نعترف نحن المغتربين بالإدارة الإسرائيلية التي حولت ثوار المكاتب في السنوات الأخيرة  إلى عبيد لبني إسرائيل بعد ما شاخت أفكارهم الثورية والعقلية والجسدية !!! وقد عبر عن هذا الشاعر حسن البحيري في ديوانه (الوجوديات) أثناء ثورة 1936م بقوله:



  [أراكُــم مَعَ الباغــي عَبيــداً لِمـا ابتَغَــى

                      وفـي هُــوَّة ِ الجَهــل ِالمَشيــنِ سَقَطتُمـــو] ([22])

                                                                         

قالت: لقد غسلتُ يدي من النقاش البيزنطي الدائر الآن ما بين الحركتين والعدو الإسرائيلي يتمدد ويبني المستعمرات في أراضي السلطة الفلسطينية بلا رادع! وَرَدّدتّ قول الشاعر دعبل بن علي الخُزاعي الذي وصف حالة الهوان والإحباط عند الشعب العربي منذ القدم في قوله:



] ولســتُ بسائــلٍ ما عشــتُ يــومــاً

         أسـار الجنــدُ أم ركــب الأميــرُ![



قلت: وأنا كذلك يا سيدتي لقد ضاعت هويتي في زمن الأوتادّ منذ أن حبَّرت الأولى اتفاقية أوسلو وخانت الثانية الجهاد، فأصبح الفلسطيني بعد ذلك يدور في فراغ! ويتساءل لمن أنتمي؟

وقد حضرني يا سيدتي قول الشاعر الفلسطيني(محمد صادق العرنوس) أحد فرسان الكلمة الصادقة قبيل اندلاع ثورة عام 1936م عندما خاطب الشعب العربي الفلسطيني بقوله:



]أمــا تَــرى زُعَمــاءَنـا قَــد أَتخَــمــوا

                الآذانَ قَــولاً، أيَّــمـا إِتخـــام ِ

      كُنــا نَظُــنُ حَقيقــةً، ما حَبَّــروا

                          فــإذا بِــهِ وَهــمٌ مِــنَ الأوهــام ِ ! [([23])



ولكن بدلاً من هذا الإحباط تعالَي نُردِّد معاً النشيد القومي الفلسطيني أمام قلاع ِ بني إسرائيل، لعل الأجيال المقموعة تسمعنا عبر الأرواح المتمردة وتنتفض على ثوار المكاتب في الحركتين.

قالت المقدسية: أتمنى ذلك، ولكن: من قائل النشيد القومي للشعب الفلسطيني؟

قلت : شاعر العودة /هارون هاشم رشيد المكنى بأبي الأمين الذي يقول فيه:

عائدون عائدون، إنَّنا لَعائدون

فالحدودُ لَن تَكون، والقِلاعُ والحُصون

قالت: من يصدح بهذا النشيد ؟

قلت: طلبة المدارس في الضفة الغربية وغزة وفي بلاد الشتات, وبدأنا نُنشد معاً كأننا عدنا إلى فترة الشباب.

وعند وصول الحافلة إلى آخر نقطةٍ للتفتيش، توقفت الحافلة ودخل إليها جندي إسرائيلي وعلى كتفه مدفع رشاش وهو من يهود الفلاشا، يدقق جوازات السفر للمغادرين، ولكنه كان مشمئزاً من الأغيار(غير اليهود)! وقال بعنجهية المنتصر ... شالوم.

قلت للجندي وجواز السفر الكندي في يدي: أيُّ سلام ٍ تذكره الآن، وأنا من مواليد فلسطين، أعيش في بلاد الشتات وأنت قادم من بلاد الحبشة، تستوطن مكاني؟ّ!

قال بالعربية: ويده على الزناد، ألا تعلم أن الدُّنيا لِمِن غَلَبَا؟

قلت: بَلى، ولكن:

                               [سَنَــرجِــعُ مَهمــا يَمُــرُّ الزَّمــانُ

                وتنــأى المســافــات مــا بـيـنـنـا[([24])

كما قال شاعر العودة، وبعد هذا الحوار السريع مع الجندي المهجن ترجل من الحافلة وانطلقت بنا إلى الحدود الأردنية. وبعد دخول الحافلة المنطقة المحايدة بين الضّفتين التي أقامتها إسرائيل بعد حرب عام 1967م تذكرت قول الشاعر حسن البُحيري الذي تغنّى بالوحدة العربية بين مصر وسوريا عام 1958م عندما قال:

                         [رَقَــصَ الأُردنُّ فــي أفــراحِهــا

    وَتَــنَــاغَت بِهَــواهــا الضَّــفَتَّــان ِ]  ([25])

فلم تدم الوحدة بين البلدين إلاَ سنوات قليلة! ففي مصر الآن فوضى في الآراء، وسيناء تحت الاحتلال، وفي سوريا أعلن الجيش الحرب على الشعب العربي السوري المطالب بالحرية، والجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي! وانتشرت روائح الجثث بين الطرفين على قارعة الطريق في المدن والقرى العربية بعد غياب صقر العرب القائد صدّام حسين عن العراق – رحمه الله – الذي وصف العملاء الجُدد بالكلاب المسعورة وهو مقيّدٌ بالسلاسل الحديدية في عاصمة الأسود – بغداد قائلاً:

                           ] لا تَـأسَـفَــنّ عَـلَـى غَـــدرِ الـزَمَـانِ لَـطَـالَـمَـا

        رَقَـصَـتْ عَـلَـى جُـثَــثِ الأُسُــودِ كِـــلابُ

                                         لا تَـحْـسَـبَــنّ بِـرَقْـصِـهَــا تَـعـلُــو عَـلَــى أسْـيَـادِهَـــا

                                                  تَـبْـقَـى الأُسُــودُ أسُــوداً وَالـكِــلابُ كِــلابُ[



وهذه الأفعال الإجرامية الدائرة الآن في الوطن العربي بين الظالم والمظلوم تطبيقا لما جاء في قرارات مؤتمر لندن الذي حضره مع الأسف أساتذة الجامعات الأوروبية برئاسة كامبل بانرمان رئيس وزراء بريطانيا عام1907م والذي أوصى المؤتمر بعد رحيل الرجل المريض – تركيا – حسب تعبير قيصر روسيا – عن المنطقة العربية بالمحافظة على وضع المنطقة العربية المجزأة والمتناحرة وإلى إبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل وتناحر وكذلك العمل على فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الأسيوي وإقامة حاجز بشري (إسرائيل) قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أسيا بإفريقيا حيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقه للاستعمار الأوروبي وعدوة لسكانها !([26])

ومن يتمعن في دراسة المؤامرة على فلسطين والوطن العربي في بداية القرن الماضي يستنتج أنها كانت وما زالت أكبر من حجم العرب ! وعلى الرغم من ذلك ارتكبت العرب الخطيئة الكبرى كما قال الشاعر جورج صيدح في قصيدته بنو فلسطين:

] خَــطـــيـــئَـــةُ الــعَـــــرَبِ، لا الأُردُنُّ يَــغـــسِـــلُــهــا

ولا صَّــبــا بَــــــردى بالــنَّـــشـــرِ يَــطــويـــهــا [

تعليقات

محتويات المقال